إنترنت المستقبل.. للأشياء لا للإنسان.. جمال محمد غيطاس
إنترنت المستقبل.. للأشياء لا للإنسان.. جمال محمد غيطاس
مع تراكم التطورات التي تطرأ عليها كل يوم ستزداد الإنترنت نضجا ورسوخا وانتشاراً، حتى تتحول إلى «شبكة كلية الوجود Ubiquitous Network»، أي توجد في كل مكان في كل الأوقات، ويستخدمها ويتصل بها كل الناس وكل الأشياء. عبر كل الأدوات. وبما أن البشر محدودو العدد «بضعة مليارات فقط» مقابل الأشياء والأدوات والأجهزة التي تعد بآلاف المليارات فستصبح الإنترنت مستقبلا شبكة للآلات والأدوات و«الأشياء» غير العاقلة أكثر من كونها شبكة للمستخدمين والمتعاملين معها من البشر العاقلين. هذه الرؤية حول إنترنت المستقبل يتحدث عنها الكثيرون، وفي مقدمتهم فريق من خبراء الإنترنت والشبكات بالاتحاد الدولي للاتصالات من خلال تقرير أصدروه أخيرا بعنوان «الحياة الرقمية» ، وهي رؤية لم تنشأ من فراغ وتتسم بالتعقد الشديد على صعيد الفكرة أو التنفيذ. ففيما يتعلق بالأساس النظري للفكرة نجد أن مصطلح «Ubiquitous» أو كلي الوجود يعود إلى كلمة يونانية قديمة هي Ubique ومعناها «في كل مكان»، وحينما سجلت ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات انتشارها الواسع والكثيف خلال السنوات الأخيرة، بدأ البعض يتحدث عن الشبكة التي تصل إلى «أي» مكان ويستخدمها أي شخص في أي وقت. ثم تطور الأمر وراح باحثون آخرون يتجاوزون الحديث عن «أي» مكان وأي شخص إلى «كل» مكان وكل شخص ووقت، واستعاروا مصطلح «Ubiquitous» بما يحمله من معاني الوجود الكلي، واستخدموه لتوصيف الحالة التي ستصبح عليها شبكات الاتصالات والمعلومات مستقبلا. ولمزيد من التوضيح لهذه الفكرة أقول إن الإنترنت بدأت في وقت متأخر عام 60 بوصلة بين حاسبين في مركزين للحاسب بين جامعتين، وفي السبعينيات والثمانينيات كانت السيادة فيها للبريد الإلكتروني وتبادل الملفات وكان عدد مستخدميها بالآلاف، وفي التسعينيات أصبح التجوال وتصفح المواقع هو السائد، وارتفع عدد المستخدمين إلى مئات الملايين - وللقيام بذلك كان لابد أن يجلسوا أمام حاسب - غالبا شخصي - ويتصلوا بالإنترنت عبر التلفون السلكي بالأرقام، لكن اليوم هناك ما يزيد على مليار مستخدم للشبكة، يضاف لذلك أكثر من ملياري مستخدم للتلفون المحمول لديهم فرص الاتصال بالشبكة بشكل أو بآخر، خاصة مع ظهور الجيل الثالث وشبكات الواي ماكس وغيرها، الأمر الذي أحدث تغييرا نوعيا كبيرا في طبيعة الخدمات التي تقدمها. وأصبح المستخدمون قادرين على التواصل تقريبا من أي موقع أو مكان، وبإمكانهم ايضا الوصول إلى الشبكات في أي وقت من خلال الوصلات دائمة الاتصال، سواء كانت سلكية أو لاسلكية من خلال الخطوط عريضة النطاق كـ«الدي إس إل» السلكي واللاسلكي. خارج الشبكة ومع ثورة الإلكترونيات والبرمجيات المدمجة والتطور المذهل في عالم المستشعرات والشرائح الإلكترونية الدقيقة، بدأت ملايين الآلات والمعدات والأجهزة تمتلك قدراً من الذكاء يجعلها تتواصل مع غيرها من الآلات أو البشر، عبر شبكات المعلومات والانترنت، ومن ثم بات الطريق مفتوحا لأن ترتبط هذه الأدوات والآلات بالشبكة وتتحول إلى مستخدمين محتملين لها. ومن الناحية العملية لا يزال كل ما تحقق عاجزاً عن إيجاد الشبكة «كلية الوجود»، لأن الأشياء التي نستخدمها على مدار اليوم لا تزال خارج الشبكة وغير مرتبطة بها. فمثلا: الغالبية الساحقة من الثلاجات الموجودة بالأسواق لا تستطيع الاتصال بمحال البقالة، وماكينات التنظيف لا تستطيع الاتصال بمن يريدون تنظيف الملابس، والشرائح المزروعة تحت الجلد لا تستطيع الاتصال بالمعدات الطبية بالمستشفيات، والمركبات لا تستطيع الاتصال بمحلات قطع الغيار والأدوات المتحركة على الطرق..إلخ. في هذا السياق يرى بعض الباحثين أنه إذا ظل البشر وحدهم فقط مستخدمي الإنترنت فإن قاعدة المستخدمين الإجمالية للشبكة ربما تتضاعف مرة واحدة مستقبلا وقد لا تتجاوز ملياري مستخدم نشط، أما إذا تطورت الأمور وأصبحت الأدوات والآلات و«الأشياء» الأخرى أعضاء نشطين على الإنترنت نيابة عن البشر فإن عدد مستخدميها يمكن أن يقفز قفزات واسعة ليقاس بعشرات المئات من المليارات، وستحقق الإنترنت بالفعل وجودا وحضورا في كل مكان وكل وقت، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. وهناك عدة عوامل محددة استند إليها القائلون بفكرة الإنترنت «كلية الوجود» ومن هذه العوامل:
وفيما يلي نتناول واحدة من هذه التطورات على سبيل التوضيح وهي تكنولوجيا المستشعرات الذكية. المستشعرات الذكية المستشعر هو أداة إلكترونية تقوم بفحص واستشعار أو قياس التغيرات أو الاستثارات الفيزيائية للأشياء مثل الحركة والحرارة والضغط ويستجيب لها بطريقة معينة، ثم يحول الإشارات من استثارة فيزيائية إلى شكل تماثلي أو رقمي، ولذلك فإن البيانات الخام حول المعايير المطلوب رصدها وفحصها يمكن قراءتها بواسطة الماكينات أو البشر. وبشكل عام فإن المستشعرات تصنف طبقا للمعايير التي تقيسها، سواء كانت ميكانيكية كالموقع والقوة والضغط أو كانت حرارية مثل التغيرات في درجة حرارة الطقس أو إلكترونية أو تتعلق بالمجالات المغناطيسية أو الإشعاعية أو كيميائية كالرطوبة والغازات المؤينة أو بيولوجية كالسمية ومعدلات وجود الكائنات البيولوجية. والمستشعرات بهذا الشكل ليست وليدة اليوم بل موجودة منذ فترة طويلة وتستخدم على نطاق واسع عسكريا وأمنيا وتجاريا وصناعيا وخلافه، لكنها مستشعرات ينقصها الذكاء بالمفهوم الذي نتحدث عنه، فهي من حيث الحجم كبيرة ومرئية للعين حتى أنه يمكن التقاطها باليد، علاوة على أنه لابد من تثبيتها في مكان ما بشكل محسوب بدقة، سواء كانت معلقة على حائط أو مغروسة في عنق حيوان يرتع بمزرعة، ووظيفيا هي تستشعر فقط الاستثارة أو التغيرات والأنشطة الفيزيائية والكيمائية والبيولوجية بالبيئة المحيطة بها ثم تحولها إلى إشارات كهربية تماثلية أو رقمية وتنقلها لوحدة بث متصلة بها وانتهى الأمر، لتقوم وحدة البث بنقل هذه الإشارات سواء سلكيا أو لاسلكيا إلى مركز تلقي هذه الإشارات ومعالجتها وتحويلها إلى بيانات ومعلومات يفهمها البشر أو الحاسبات والآلات وتستخدمها في اتخاذ قرارات بعينها. وبدءا من عام 1988 بدأت تتواتر لدى الدوريات والمؤتمرات العلمية، بل والمعارض التجارية ثم الصحافة المتخصصة المتاحة للجمهور العام، أنباء عن تطورات متلاحقة في عالم المستشعرات سارت في عدة مسارات متزامنة، ثم تلاقت أخيرا لتصنع ما يعرف بالغبار الذكي، وقد تمثلت هذه المسارات فيما يلي:
تلاقت الإنجازات التي تحققت في هذه المسارات معا، وصنعت في النهاية المستشعر الذكي الذي يتشابه في حجمه ووزنه مع ذرات الغبار، ويكون قادراً على أن يتحسس ويرصد ويلتقط المعلومات المتعلقة بالاستثارة أو الأنشطة الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية للأشياء والأهداف في البيئة المحيطة به، والتقاط الأصوات والصور ويتمتع بذاكرة ونظام تشغيل وقدرات تواصل لاسلكي متطورة وبرمجيات مدمجة تتيح له تلقى أوامر جديدة أو تعديل مهام قائمة. وفي عام 2002 ظهر مفهوم شبكات المستشعرات اللاسكية وبدأ تطبيقه بالفعل في بعض الجزر لمراقبة حركة الطيور وفي بعض التطبيقات الزراعية وغيرها، وفي عام 2005 تم تطوير شريحة إلكترونية تتكامل فيها المستشعرات مع أدوات بث المعلومات على شريحة سيليكون واحدة قطرها 5 ملليمترات. وأخيرا بدأ الحديث عن مشروع داخل وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» هدفه إعادة تهيئة الغبار الذكي ليعمل بتكنولوجيا الويب المستخدمة عبر الإنترنت، بما يسمح بمشاركة واسعة للمعلومات التي يتم جمعها بواسطة ذرات الغبار. تحديات أمام إنترنت الأشياء لا تزال هناك العديد من التحديات التي تواجه تحول الإنترنت إلى ساحة «كلية الوجود» تسودها «الأشياء» غير العاقلة، وفي مقدمة هذه التحديات أن ظهور تكنولوجيات التمكين لا يؤدي تلقائيا إلى الظهور الفعلي «لإنترنت الأشياء»، لأن هذه التكنولوجيات تظهر وتتطور وتطرح بالأسواق بشكل منفصل عن بعضها البعض، ولم يحدث بينها التمازج والتلاحم المطلوبان لكي يحدث هذا التحول الكبير في الإنترنت. يضاف لذلك تحديات أخرى منها أن الطلب على خدمات الشبكة «كلية الوجود» لم ينضج ويتحول إلى دافع وحافز للشركات المنتجة للأجهزة والأدوات،لكن كل ذلك لا ينفى أن فكرة الشبكة «كلية الوجود» أصبحت تمثل تحديا حتميا أمام البنية التحتية لشبكات الاتصالات والمعلومات الحالية، كما تمثل ايضا نموذجا جديدا للعمل يطرح الكثير من الفرص للتوسع والربح والنمو وارتياد آفاق جديدة. -------------------------------------- أيّها الملاحُ قم واطوِ الشّراعا علي محمود طه
|