شئون وشجون تاريخية يونان لبيب رزق عرض: خالد سليمان

شئون وشجون تاريخية

دائماً ما تكون الأحداث الماضية مؤثرة في الشئون اللاحقة, ومثيرة للشجون ولا أقول المرارة في الحلق أحياناً; فـ (النوستالجيا) أو الحنين إلى الماضي الجميل والليالي السعيدة يعقبه في أغلب الأحيان أسى عميق مصحوباً بالتنهدات, أو إحباط ويأس وربما تطرف إلى أقصى اليمين أو اليسار مصحوباً بزخم من أحلام اليقظة غير القابلة للتحقيق ودون امتلاك وسائل تحقيقها.

هذه المقدمة لا تنسحب إلا على أبناء الأمم والحضارات التي تعاني من الحصار وفترات الانكسار حيث يصبح الانتماء إلى قومية أو حضارة ما اتهاماً وإدانة في آن واحد; خاصة إذا كان الخصم غير عادل وشديد البطش, ولا يبقى إلا ملمح إيجابي وحيد هو أن نلتمس النجاة مع الفئة الناجية وهي الفئة التي تؤمن بقيمة العلم والتحليل ولديها الأدوات والقدرة على طرح الأسئلة العميقة التي تلمس جوهر مشكلاتنا السابقة واللاحقة ومدى تأثيرها فينا وتأثرنا بها وعليه نتلمس طرق النجاة مما يراد الآن بأبناء حضارة عظيمة كالحضارة العربية الإسلامية.

ولعل كتاب د.يونان لبيب رزق (شئون وشجون تاريخية) الذي صدر في مصر أخيرًا ضمن مشروع مكتبة الأسرة هو التطبيق العملي لكل ما ذكرناه آنفا عن أحداث الماضي وكيفية التعامل معها بشكل إيجابي, ومؤلف الكتاب هو مؤرخ مصر الحديثة الذي أسندت إليه مهمة تأسيس (مركز تاريخ الأهرام) وله صفحه أسبوعية في جريدة الأهرام (كل خميس) بعنوان (الأهرام- ديوان الحياة المعاصرة) فضلاً عن كونه أستاذاً جامعياً له مسيرة علمية حافلة توجها أخيرًا بحصوله على أرفع جائزة علمية مصرية وهي جائزة مبارك في العلوم الاجتماعية سنة 2004.

الموسوعية والموضوعية

تعرض د.يونان لبيب في كتابه (شئون وشجون تاريخية) لعدد من الطروحات القومية والمحلية وناقش كلا منها من خلال محاور أساسية أوضحت في نهاية الأمر مدى تشابه القومي والمحلي والعكس.., ففي النهاية هو يتحدث عن العالم العربي المتشابه في الظروف المناخية والجغرافية.. كما هو متشابه في التركيبة العرقية والطائفية.. والمرتبط شرطياً بعضه بعضًا.. متأثراً سلباً وإيجاباً بظروف بلدانه داخلياً وخارجياً.., وهذا ما يؤكده بالأدلة العلمية وبمنتهى الحيدة والتجرد, لكنك تلمس موسوعية الكتاب وموضوعيته وهو يتعرض مثلاً (لبوابتي العالم العربي) (الجنوبية) و(الشرقية).., يعني بذلك السودان والعراق.., وعدد أوجه الشبه بينهما على الرغم مما يبدو من بعد المسافة على حد تعبيره, لكنه يحمل أطراف الصراع الداخلية مسئوليتها كاملة ولم يلق باللوم كاملاً على العدو المتربص بالوطن العربي.

فهو يحدثنا عن التركيبة البشرية المعقدة حيث تتداخل الأعراق والثقافات في دول الأطراف.., (فالسودان يعاني منذ زمن من انقسام البلاد إلى كتلتين بشريتين كبيرتين.. الزنوج في الجنوب والعرب في الشمال وهو انقسام زادت من حدته قوى الاستعمار.., فضلاً عن النتوءات في جبال (النوبا) - وليس (النوبة) - في الغرب, ومناطق البجه في الشرق وفي العراق لدينا تركمان وأكراد في الشمال وعناصر فارسية في الجنوب بالإضافة للانقسام المذهبي الحاد سنة وشيعة, وتداخل مناطق الحضر مع مناطق البدو والاحتكاكات التي تنشأ من جراء ذلك), وتساعد القوى الاستعمارية الطامعة على تأجيج مثل هذه الصراعات.

ومثل هذه الأقطار تتحمل مسئولية الدفاع عن الأمة في أوقات الخطر وتكون بابًا منيعًا لصد محاولات التعدي على الداخل, وهي العمق الاستراتيجي للوطن كما كانت السودان بالنسبة لمصر خلال الحرب العالمية الثانية في مطلع الأربعينيات, وإبان حرب سنة 1967 حيث انتقلت مؤسسات عسكرية مصرية إلى مناطق أكثر أمناً هناك; كذلك كان دور العراق مع المغول, ومرة أخرى مع الفرس في فترة الحكم الصفوي.

ويؤكد المؤلف أن عبد الناصر ليس مسئولاً عن ضياع السودان كما يزعم البعض, وأن د.محمد صلاح الدين وزير خارجية الوفد سنة 1950 اعترف للسودان بحق تقرير المصير, وأكد أن مصر يجب أن تكون اللاعب الأساسي في مشكلة الجنوب ولا تقبل الجلوس في مقاعد المتفرجين, ويؤكد أن هذا الكتاب ليس من أعمال التاريخ العلمي أو الدراسات التقليدية, بقدر ما هو أقرب (للتاريخ الجاري) أو الشئون الجارية Current Affairs القائمة على الرصد والبحث عن الجذور.. بكل شجونها.

الخطر الداهم

لكن المؤلف يرى أن هذا الأمر يتحول إلى خطر داهم عندما تنصرف هذه الأقطار عن مهمتها الأساسية في حماية الداخل لتنقض عليه, ضارباً المثل بالكوارث التي تثير رغبة القوى الطامعة سواء كان من الدول الكبرى أو الأقطار المحيطة, ويقول الكاتب إنه على هذه الأرضية تبدأ اللعبة الغربية بدق الأبواب العربية تمهيداً لتحطيمها, بكل ما يترتب على ذلك من تطويق غير مسبوق للعالم العربي (ص171)

ويؤكد د.يونان.. أن هذه الأحداث ترتب عليها إلهاء الرأي العام العربي والعالمي عما يجري في فلسطين, كما أن غزو العراق للكويت سنة 1990 قد أضعف ما تبقى من بقايا ضمان الأمن العربي, بل إنه اسقط أهم أسباب هذا الضمان, كما أن ذلك أشاع روح اليأس في صفوف الأمة العربية. ويدين د.يونان لبيب اتفاق ماشاكوس بصورة واضحة ويؤكد أنه بحكم المصلحة القومية العليا ليس لأي سلطة في القاهرة أو غيرها من قبل أو من بعد التفريط في الباب الجنوبي والقبول بهذا الاتفاق.

وتعرض د.يونان لبيب في كتابه لموضوع النهابين سواء قام بهذا النهب دول كالدول الاستعمارية التي نهبت بعض بلدان هذا الوطن واستنزفت البعض الآخر, أو أنظمة كالنظام العراقي السابق الذي امتلك كل مقومات النهضة لكن رجاله نهبوا ثروة البلاد وتركوا الشعب نهبًا للفقر والجوع والمرض, ثم يتعرض للنهابين الأفراد ويحلل سلوكهم ويعقد مقارنة طريفة بين رعاع الثورة الفرنسية وحادث نهب قصر التويلري في 10 أغسطس سنة 1792, وأحداث حريق القاهرة في 26 يناير سنة 1952, والأحداث التي وقعت إبان احتلال بغداد, ويؤكد أن القمع والقهر وغياب الديمقراطية يجعل من المهمشين فئة متربصة تنتهز أول فرصة للانفلات.. ويعلق قائلاً: (إن (آلهة العجوة) لا يلبث أن ينقلب عليها العباد فيلتهموها في أول فرصة).., ويؤكد أن الأنظمة القمعية وسياستها جنبا إلى جنب مع قوى الغزو الاستعمارية هي التي تتيح لهؤلاء الرعاع تدمير كل شيء.

يصف د.يونان لبيب رزق العلاقة بين الشعوب العربية والملكية العامة بأنها (علاقة معقدة), وبينما نجح الغربيون في أن يرسخوا في نفوس أبنائهم أنها ملكية شعبية لكل ابن من أبناء الوطن, فقد افتقر أغلب العرب وربما كثير من أبناء العالم الثالث إلى فهم هذه الحقيقة.. إذ ظلوا ينظرون إلى الملكية العامة على اعتبارها ملكية الحكومة بكل الانفصال القائم بينهم وبينها.

تاريخ الطبقة الوسطى

ثم يتعرض د.يونان في كتابه (شئون وشجون تاريخية) إلى تاريخ الطبقة الوسطى في مصر منذ أيام الحكم العثماني إلى اليوم, واستعرض مدى تزايد أو تناقص هذه الطبقة التي تمثل عماد المجتمع في كل عصر ومرحلة طبقاً لظروفها, ويتضح من خلال هذا العرض الذي لا يخلو من طرافة وشجون أيضاً أن هذه الطبقة متشابهة في كل أرجاء الوطن العربي إلى حد كبير, خاصة عندما تحدث عن روافدها المختلفة وطبقاتها وشرائحها.., ويذكر أن أدنى شرائح هذه الطبقة هم الذين أطلق عليهم الشيخ الجبرتي تسميات عديدة منها الجعيدية, الحشرات; الحرافيش.

ويرى مؤلف الكتاب أن الطبقة الوسطى القديمة قد أجهضت على يد محمد على في ظل نظام الاحتكار ورأسمالية الدولة التي قضت تماماً على كل التجار وأصحاب الحرف المهمة فتآكلت الطبقة التي ظلت تنمو على امتداد العصر العثماني وظهرت طبقة جديدة من الأفندية المطربشين الذي تربوا في أحضان الدولة وأطلق بعضهم على نفسه عبيد إحسانات أفندينا.

وإذا كانت الطبقة الوسطى قد بدأت استرداد عافيتها شيئاً فشيئاً بعد عصر (محمد علي) فقد تجلى هذا التعافي مع ثورة سنة 1919وفي أعقابها..; إلا أن ذروة انتصارات هذه الطبقة كان على يد (جمال عبد الناصر) الذي خرج من بين ظهراني الطبقة الوسطى الصغرى وكان شديد الإخلاص والولاء لها.., ولم يفت في عضد ممثل الطبقة الوسطى الصغرى ناصر الانفصال السوري الذي تسبب فيه كرافد أساسي الأسباب الاقتصادية, بل كان هناك المزيد من تغليب مصالح هذه الطبقة فيما جرى من حركة تأميمات واسعة لكل المنشآت الاقتصادية حتى أنها أصابت الطبقة نفسها في نهاية الأمر !!

بدت طبيعة العلاقة بين النظام والطبقة الوسطى خلال الحقبة الناصرية حميمة وشهدت مجموعة إجراءات صبت جميعها في مصلحة الطبقة منها مجانية التعليم الجامعي, إنشاء الجامعات, تنظيم قوانين إيجارات المساكن, تطبيق نظام القوى العاملة سنة 1962, ويعلق المؤلف تعليقاً بالغ الخطر فيما معناه.. أنه إذا كانت طبقة الأفندية قد ولدت في أحضان الحكومة في عهد محمد على فإن هذه الشريحة من الطبقة الوسطى قد ارتبطت عضوياً بالدولة بما ترتب على ذلك من آثار وكان ولاؤها لعبد الناصر بلا حدود الأمر الذي أضعفها سياسياً ومكن خلفه من ضربها فقد كان هذا الولاء لشخص (ناصر) ومبادئه أكثر من ولاء هذه الطبقة لمصالحها الذاتية.

عصر السقوط الهائل والفساد الجديد

يرى المؤلف أن عصر السادات هو عصر السقوط الهائل للطبقة الوسطى التي تبنى السادات موقفاً معادياً لها منذ البداية (على الرغم من انتمائه للشريحة الصغرى منها) ولكن لم يتبين هذا الانفصال والطلاق النهائي إلا سنة 1977 مع انتفاضة الخبز الشعبية (التي كان (السادات) يصفها بأنها انتفاضة حرامية)!

كما أن انفصال السادات عن طبقته يتضح إذا نظرنا إلى الروافد التي جاءت منها طبقة الرأسماليين الجدد والتي لم تولد أغلبها ولادة طبيعية (عهد السادات- الانفتاح الاقتصادي).

يناقش مؤلفنا د.يونان لبيب قضية الفساد من منظور تاريخي أيضاً ويربط من خلال منظوره بين الفساد وهيبة الدولة, فهيبة الدولة كانت دائماً سبباً في انحسار الفساد أو ازدياده, وعلاقتهما بالطبع تقوم على التناسب العكسي. في هذا الموضوع البالغ الطرافة وبعنوان (سكك حديد للمصريين) مما يأتي ضمن الشأن الاجتماعي الذي تعرض له المؤلف, لإبراز الجانب الإنساني لا الجانب الاقتصادي كما فعل غيره من المؤرخين, يسرد كيف انشئ أول خطين حديديين في مصر سنة 1834 الأول بين النيل ومحاجر المقطم لإنشاء القناطر.. والثاني بين المكس ومحاجر الدخيلة في الإسكندرية, وسكك حديد مصر ثاني سكك حديد في العالم.. وكان الخط الحديدي الأول في العالم بين مانشستر وليفربول.. ولا ينظر المؤلف لتاريخ السكك الحديدية إنما ينظر إلى تاريخ المصريين معها, ويشرح كيف أن السكك الحديدية رمز لهيبة الدولة, ومعنى رهن السكك الحديدية في عهد الخديو إسماعيل.. (لعل المؤلف يشير من طرف خفي إلى محاولة شرائها الآن وما تردد عن ذلك).. ولماذا تتعرض القطارات لأعمال التخريب في أوقات الاحتلال; وإلقاء الحجارة وتمزيق الكراسي في المناطق الأكثر فقراً, ومعنى أن تكون إدارة هذا المرفق الحيوي مترهلة ودلالاته, وتعرض للقطارات كدليل على اتساع الفجوة الاجتماعية أيضاً.

المؤامرة والاحتقان الديني

ويؤكد المؤلف أن من يتابع كتاباته يعلم أنه يرفض التفسير التآمري للتاريخ; لكنه في هذا الأمر يؤكد وجود مؤامرة وأيد تلعب في الخفاء وتجاوزات من كل الأطراف بدرجات متفاوتة, لكنه لا ينفي مسئولية الجميع عن البيئة التي ولدت كل ذلك.., بالإضافة لعدم توفيق السياسات الحكومية, وغياب المشروع القومي, وينبه إلى خطورة الوضع بحيث لا يمكن وصف ما حدث بأنه سحابة صيف, وكيف أن النموذج الإسرائيلي كدولة كان له رد فعله, والعلاقة الجدلية بين الفعل ورده, ودور المصريين المغتربين; والتحولات السلبية لأقباط المهجر, وغياب دور الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني, وسقوط المشروع القومي العلماني أمام دولة عنصرية دينية هي إسرائيل, وأسماء الأطفال المسلمين والمسيحيين, ودور رجال الدين الذي امتد إلى الشارع السياسي.

 

يونان لبيب رزق

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات