نهاية العالم كما نعرفه إيمانويل فاليرشتاين عرض: شوقي جلال

نهاية العالم كما نعرفه

مؤلف هذا الكتاب ابن ثورة شباب 1968. ولايزال هو أيضًا بفكره الوثّاب ثورة فكرية مطردة النمو متعددة الأبعاد. نذر جهده لصوغ رؤية علمية نقدية عن الواقع العالمي واحتمالات المستقبل.

إيمانويل فاليرشتاين مفكر خصب الإنتاج, مثير حافز لفكر الآخر, يحاول جاهدًا كشف الغمامة عن العيون التي فرضها التقليد أو اصطنعتها السلطة, سلطة السياسة أو الإعلام أو التراث في الغرب باسم تفوق عقل الغرب - المركز, وباسم أنه العالم ومن دونه البقية أو الأطراف. تلك الغمامة التي أخفت عن العيون قرونًا تناقضات الواقع, وحقائق الحياة الإنسانية العامة انحيازًا للغرب المصلحة والعرق, ويدعو فاليرشتاين إلى أن يتخلى الإنسان بعامة, في الغرب وفي الشرق, عن عادة الاطراد العشوائي انسياقًا وراء تقليد فكري مضى زمانه وإن اعتاد الغرب وصفه بالحداثة والتحديث, لذا نراه في كل كتاباته دعوة للتجديد.ونذكر من أهم مؤلفاته الدالة على فكره أو مشروعه الفكري:

- أفول السلطة الأمريكية: الولايات المتحدة في عالم من شواش.

- تحليل المنظمة العالمية: مدخل.

- جوهر فكر فاليرشتاين.

- غوامض المعرفة (السياسة والتاريخ والتغير الاجتماعي).

- العلم الاجتماعي المنسي: حدود (البارادايم) أو الإطار الفكري للقرن التاسع عشر.

- البدائل: الولايات المتحدة تواجه العالم.

وقد صدرت الطبعة الأولى من كتاب (نهاية العالم كما نعرفه) تأليف إيمانويل فاليرشتاين عن دار نشر (جامعة مينيسوتا) في الولايات المتحدة عام 1999, ويقع الكتاب في مائتين وست وسبعين صفحة. ويمثل مساهمة سجالية في الحوار الدائر في الغرب بخاصة وعلى الصعيد العالمي بعامة بشأن حقيقة واقع التغير الاجتماعي في العالم الآن واحتمالات المستقبل, وحقيقة النظام العالمي المرتكز على الغرب على مدى القرون الخمسة الماضية وانعكاسات ذلك في الفكر والعلم والسياسة والاقتصاد.

ويدخل فاليرشتاين على مدى صفحات كتابه في حوار مع تيارات الفكر العالمي ملتزمًا منهجًا علميًا عقلانيًا نقديًا, بل إنه يناقش حتى البدهيات الأولى عن معاني العلم والعقلانية والنقد, وهي المعاني التي سادت على مدى القرون الخمسة ومدى ما فيها من صواب أو زيف وخداع. لذا يجد القارئ نفسه في حوار معه, وفي مراجعة, بل ويبحث معه الدعوة إلى إعادة تنظيم البنية الذهنية في تعاملنا مع النفس - المجتمع - التاريخ - الحاضر - العالم - الرؤية إلى المستقبل, ودور وفعالية الإنسان - المجتمع في هذا كله.

مستحدثات الفكر

يمثل الكتاب خطابًا إلى العالم على لسان باحث فريد من نوعه, ولعله الأحق بهذا الدور فهو باحث مشهود له بالمعرفة الواسعة ويتمتع بقدرات نظرية هائل. ويوثق فاليرشتاين في خطابه هذا التحولات العميقة في عالمنا المعاصر. ويكشف عن تحولات الفكر في صورة تيارات ومذاهب هي صدى لتحولات الواقع, وتعبير عن فراغ أو شواش فكري سمة مراحل التحول والانتقال. ويوضح لنا معالم وأسس نهجه المتميز في فهم تحولات الواقع والفكر معًا ودلالاتها واحتمالاتها المستقبلية غير المنظورة وغير المحددة. ويعتمد في هذا كله على منجزات علمية مستحدثة تمثل ثورة علمية.

وأول هذه المستحدثات ما يعرف في مجال العلوم الطبيعية باسم علوم أو دراسات التعقد, وما يعرف في مجال الإنسانيات باسم الدراسات أو العلوم الثقافية. ويسعى الاثنان نحو هدف واحد وإن اختلف المنطلق.

والهدف المشترك هو الهجوم على النموذج المهيمن للعلم الطبيعي المرتكز على فيزياء نيوتن وفلسفة كل من ديكارت وبيكون. وهذا هو النموذج الذي عاش الفكر الغربي, ومن ثم العالمي, أسيرًا له وصاغ إطار الواقع - العالم الذي نعيشه وندركه من خلاله. وهذا هو العالم الذي يحدثنا فاليرشتاين عن نهايته.

نيوتن وديكارت

عاش الفكر العالمي, في العلوم الطبيعية وفي الإنسانيات, أسير مفهوم الحتمية النيوتونية. وتزعم فيزياء نيوتن (1643 - 1727) أن الظواهر الطبيعية تمضي في مسار خطي أحادي قابل للارتداد على عكس ما يقضي به مفهوم سهم الزمان, الزمان المنطلق غير القابل للارتداد الذي تقول به دراسات التعقد.

ويقرر نيوتن أن بالإمكان التنبؤ بالمستقبل عن يقين, والكشف عن مسار الماضي عن يقين إذا عرفنا القوانين الكلية الحاكمة للظواهر والشروط والعناصر الأولية لنشوء أو وقوع الظاهرة, إننا نعيش في كون مغلق محتوم.

ومايز ديكارت (1596 - 1650) بين الإنسان والطبيعة, وما دونه من الموجودات حسب النظرة التقليدية الموروثة. ووصف الحيوانات بأنها آلات أوتوماتا. ورأى الزمن خارج سياق الظواهر بما يسمح بالارتداد والتكرار.

وأفضت فيزياء نيوتن وفلسفة ديكارت وبيكون, أو لنقل فكر التنوير الغربي بعامة إلى الفصل بين الإنسان والطبيعة, أو إلى التمايز المنهجي والموضوعي والتاريخي بين الفلسفة والإنسانيات من ناحية والطبيعيات من ناحية أخرى. عالمان منفصلان في استقلال تام مع خضوع الثاني للأول.

وأكد فكر التنوير أن بإمكان الإنسان قهر الطبيعة والتحكم فيها إذا اكتشف القوانين الكلية للظواهر الطبيعية. وأن بالإمكان صياغة جميع القوانين الحاكمة لظواهر الطبيعة في معادلة بسيطة وهذا هو هدف العلم. وليس أدل على هذا من أن أينشتين كان يبحث من أجل نظرية المجال الموحد التي تمثل معادلة بسيطة تفسر كل شيء في الكون. ومن هنا, على سبيل المخالفة والنقض, جاء اسم التعقد وصفًا للدراسات الجديدة.

ويمثل فكر ديكارت ونيوتن أو التنوير بعامة أساس فكرة الثقافتين التي صيغت الدراسات الأكاديمية في الجامعات على هديها, وجرى التمييز بين الأقسام الدراسية فيها على أساس هذا الفصل.

وتنفي دراسات التعقد والدراسات الثقافية هذا كله سعيًا نحو ثقافة واحدة, تعلو على الثنائية, حيث الإنسان والطبيعة معًا ومن ثم نكون أكثر واقعية, ونرى الإنسان في ضوء الطبيعة وليس الطبيعة في ضوء انحياز إنساني. وأول شيء تؤكده دراسات التعقد أنها ترفض الحتمية وتؤكد أن العالم ليس مغلقًا والقوانين ليست كلية صادقة في كل زمان ومكان وإنما العالم مفتوح لإمكانات واحتمالات. معنى هذا أنه مفتوح لإبداعات جديدة, وأن القول بالحتمية أو أن المستقبل محدد مسبقًا مصادرة للإبداع... إبداع الطبيعة وإبداع الإنسان. ويقسم فاليرشتاين كتابه إلى قسمين: قسم عن عالم الرأسمالية أي النظام العالمي الرأسمالي, وقسم عن عالم المعرفة. ويحدد أن النظام العالمي الرأسمالي منظومة تاريخية عمرها خمسمائة عام. ويوصف النظام بأنه رأسمالي لأن خاصيته المميزة عن سوابقه: التراكم اللانهائي لرأس المال, واستخراج أعباء الإنتاج أي تحميلها على الخارج. وتعني كلمة عالم هنا في القسم الأول العالم الذي صاغ إطار واقعنا, وأدركنا هذا الواقع من خلاله.

وتعني كلمة العالم بالنسبة للقسم الثاني: العالم الذي عرفناه, أي عالم المعارف المكتسبة في إطاره, وفهمناه من خلال هذا الإطار, وهذان هما العالمان اللذان يعيشان أزمة النهاية.

تحولات هيكلية جذرية

ويتناول القسم الأول تقييم الأحداث المعاصرة المهمة أي التحولات الهيكلية.

ويتناول القسم الثاني دراسة التحولات في الفكر التي وقعت نتيجة أحداث القسم الأول.

ويستعرض في القسم الأول الأحداث الأهم على مدى العقود الأربعة الأخيرة في القرن العشرين والمتمثلة في انهيار دول اليسار التقليدي بالمعنى الواسع لكلمة اليسار:

الماركسية بأطيافها, والاشتراكية الديمقراطية وغيرهما. ويعرض أيضًا سقوط الليبرالية الديمقراطية في الغرب, ويوضح كذلك جفاف نبع حركات التحرر الوطني, وفقدانها خصوبتها ودورها, بل يرى سقوط هذه الحركات وفشلها في تحقيق ما وعدت به شعوبها, وهكذا فقدت هذه النظم التي تولت السلطة باسمها بعد الاستقلال أساس شرعيتها.

ويعرض القسم الأول أيضًا الأخطار التي تتهدد البيئة والحوارات المحلية والعالمية بشأن الهوية القومية, وتهميش السكان المهاجرين المقيمين في الغرب. ويضع خلال مناقشته هذه الأحداث والاتجاهات في سياق التغيرات, التي طرأت وتطرأ على النظام العالمي الحديث في مجموعه, ويحدد ما تطرحه علينا من خيارات تاريخية.

ويتناول النصف الثاني من الكتاب القضايا الراهنة في عالم المعرفة, من ذلك سقوط الإيمان بالعقلانية, أي سقوط اليقينيات بالمعنى الذي صاغته فلسفات التنوير. وكذا تناثر وتشظي الأنشطة المعرفية, ونبذ المحورية الغربية, والتساؤل بشأن تقسيم المعرفة إلى طبيعيات وإنسانيات, وعلاقة البحث عن الحق والخير والجمال باعتبار ذلك مجالا خاصا بالفلسفة, وأثر ذلك فيما حدث من تقسيم زائف للمعرفة أدى إلى فصل الإنسان عن الطبيعة. لقد كان هذا التقسيم على الأصح امتدادًا وتكريسًا لنظرة تراثية قديمة تفصل وتمايز الإنسان عن الوجود والبيئة من حوله. ويكشف لنا فاليرشتاين كيف انبثقت هذه التساؤلات في سياق تحولات اجتماعية أكبر, ولماذا أصبحت الطرق التقليدية في تأطير هذا الجدل على اختلاف أنواعه عقبات حالت دون حسم تلك الشكوك.

ويقول فاليرشتاين: (العالم الآن وقد تغير أصبحنا بحاجة إلى تقييم جديد لمعارفنا الاجتماعية الجمعية, التي تمثل حصاد العلم الاجتماعي. وأعتقد أن النصف الأول من القرن الواحد والعشرين, سيكون حقبة أصعب وأبعد عن الاستقرار, ولكنها أيضًا ستكون أكثر انفتاحًا عن كل شيء عرفناه في القرن العشرين, وإني أعتمد في هذا على ثلاث مقدمات:

الأولى: أن المنظومات التاريخية, شأن جميع المنظومات, لها حياة موقوتة متغيرة, البداية ثم تطور لعمر زمني, وأخيرًا تتحرك بعيدًا عن حال الاتزان وتصل إلى نقاط التشعب ثم الاندثار.

والمقدمة الثانية: أن ثمة أمرين صادقين عند بلوغ نقطة التشعب, أن المدخلات الصغيرة تفضي إلى مخرجات كبيرة, إذ إن أي حدث صغير يفضي إلى أحداث كبيرة. ويصور بعض أصحاب دراسات التعقد هذا مجازًا بقولهم إن رفّة جناحي فراشة في الصين قد تفضي إلى إعصار في الأطلسي. هذا على عكس الوضع في حال اتزان المنظومة مرحليًا, حيث المدخلات الصغيرة لها مخرجات صغيرة معادلة لها. وإن ناتج هذه التشعبات غير محدد, وغير معروف مسبقًا, ويتعذر التنبؤ به, وإنما الاحتمالات كثيرة, وفرص الإبداع البشري كثيرة أيضًا.

والمقدمة الثالثة: أن النظام العالمي الحديث باعتباره منظومة تاريخية لها بداية وتطور ونهاية قد دخل أزمة النهاية, وليس من المحتمل أن يمتد وجوده إلى أكثر من خمسين عامًا قادمة. وحيث يتعذر علينا التنبؤ, فإننا لا نعرف مسبقًا ما إذا كانت المنظومة أو المنظومات المحتملة, والناتجة ستكون أفضل أم أسوأ, بيد أننا نعرف عن يقين أن فترة الانتقال ستكون فترة مشكلات عصيبة, نظرًا لأن رهانات الانتقال صعبة, والناتج مشكوك فيه أو غير يقيني, علاوة على احتمالات أن أي مدخلات صغيرة سوف تؤدي إلى مخرجات كبيرة غير محسوبة ولا معروفة).

 

إيمانويل فاليرشتاين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات