فاتح المدرس (1922 - 1999).. تآلف الفن والحياة

فاتح المدرس (1922 - 1999).. تآلف الفن والحياة

تعتبر تجربة الفنان التشكيلي السوري فاتح المدرس إحدى الإشارات البارزة في الفن التشكيلي العربي المعاصر، إذ تميزت بارتباطها الوثيق والعميق، بجغرافية بلاده، واحتضانها لألوان تربتها.

على الرغم من الزمن الطويل الذي أمضاه هذا الفنان، في إنتاج الفن، وبغزارة واضحة، ظلت لوحته تمد أكثر من جسر إلى الحياة، ماجعلها مأوى لطراوتها وشغبها المحبب، وأبعدها عن الوقوع في فخ القوالب الجاهزة، أو شرك التسجيلية النمطية، أو التكرار الممل، وظلت تحوم فيها، الرؤى العميقة، وتفيض روح البحث الجاد والمتجدد.

لقد ظلت تجربة فاتح المدرس، كما بدأت، وعلى مدى ستين عامًا، موّارة بالحياة، رافلة بالبساطة والعفوية والعمق، ماجعلها من الفنون السهلة الممتنعة التي أغرت الكثير من التشكيليين السوريين والعرب، على تقليدها، لكنها ظلت عصيّة على التقليد، كونها كانت وثيقة الصلة بجذوة الحياة المتوقدة دومًا، وبصولات وجولات الفكر الإنساني الذي لا يهدأ ولا يقف عند تخوم. وفاتح المدرس، امتلك مؤهلات فكرية وثقافية وفنية، مكنته من القيام بهذه الصولات والجولات بامتياز نادر.

وحدة عامة

شهدت تجربة المدرس عدة انعطافات واتجاهات لكنها لم تبتعد عن المحور الأساس لشخصيته وأسلوبه القائم على نوع من التعبيرية المختزلة شكلًا ولونًا، والشديدة الارتباط بحرائق الحياة وتجددها الدائم.

فقد ظلت وحدة عامة تجمع تجربته، وحدة تنبثق من اختلاجات رجل يعيش الفن وينتجه. أما الذي اختلف فهو طرق تناول هذه الوحدة. أي الصيغ والتراكيب المستخدمة في التعبير عنها، وكذلك التقانات. أما الموضوع في تجربة المدرس، فلم يخرج عن الأرض والشجر والإنسان.

فنان الأرض السورية

تعكس غالبية لوحات الفنان فاتح المدرس، تملكه لذاكرة بصرية ملأى بصور الأرض السورية وتضاريسها، وهو انتماء طبيعي للون والأرض والضوء والتكوين الجغرافي ولإنسان هذه الأرض. فطفولته كانت في ريف الشمال السوري، وقد ثبت له بعد أن تجوّل في العديد من دول العالم، أن سورية تتميز بسلسلة لونية موجودة في الطبيعة، لا يوجد مثيل لها في أي منطقة من العالم، باستثناء شمال الأردن وجنوب تركيا وبعض المناطق في اليونان.

هذه الدقة في العلاقة بين ضوء الشمس والأرض وحركة الإنسان بينهما، هي روح الشعر في الذاكرة الإنسانية. وللتعبير عن هذه الحالة، لجأ الفنان المدرس إلى صيغ وأساليب فنية مختلفة، لكنها لم تُغادر أبدًا، الأصول التي جاءت منها، وتكوّنت فيها.

وفي الأعمال التي تنضوي في سلسلة فصيلة الفاتح من الألوان، استخدم الفنان المدرس الرمل الناعم في عملية التأسيس لها، ثم بالرسم عليها، تاركًا للمساحات البيضاء الفارغة من الأشكال والعناصر، الحضور الأكبر فيها، أما ما رمي فوقها من مفردات ورموز، فقد عالجها بتقنية قلم الحبر والرصاص والألوان الزيتية، وكان للوجه الإنساني الضارب في خلفيتها، كجذع شجرة عتيقة، الحضور الثاني الأبرز في لوحته.

هذا الوجه تحديدًا، ظل العلامة الفارقة والرئيسة، في أعماله، اضافة إلى جملة من الرموز والعناصر كالشجر والحيوانات والزرع، والأطفال، والطيور، والعبارات التي كان يوزعها في جسد اللوحة، بعفوية طليقة، ساحرة.. ومعبرة. هذه الأعمال تحديدًا، قدمت فاتح المدرس رسامًا أكثر منه ملوّنا، ذلك لأن الخط (الرسم) شكّل فيها القوام التشكيلي والتعبيري الرئيس.

فاتح الملوّن

في أعمال أخرى، يقدم الفنان المدرس نفسه ملونًا أكثر منه رسامًا، حيث يقوم بإشغال كامل مساحة اللوحة باللونين الأثيرين لديه وهما: الأزرق النيلي، والأحمر البرتقالي القاني الموشّى بالذهبي والأسود، إضافة إلى ولعه باستعمال الأحمر البرتقالي أو الناري المطرز بالأزرق الفاتح والأبيض والأسود.

وهذه الألوان مجتمعة، غالبًا ما تشكل الأرضية التي يزرع فيها، وجوهه المختزلة الملامح، البسيطة التضاريس، وذلك بمعالجتين اثنتين: الأولى تعود إلى العام 1975، وفيها يبدو متأنيًا في إنجاز اللوحة، بحيث يتكامل بناؤها التشكلي التأليفي والتعبيري. والثانية تبدو صدى للأولى، وتعود إلى السنوات الأخيرة في تجربته الفنية. ولكونه سحب منها اللون الأسود الذي يُعتبر ملاط اللوحة وهيكـــلها العظمي، بدت رخوة العناصر والأشكال، هشة البناء والتكوين. هذه الثنائية في المعالجة، تتكرر في أعماله الصغيرة الحجم، حيث نجد الأعمال المؤسس لها بالرمل الناعم، والمعالجة بالألوان الفاتحة. وفيها يبدو الوجه الشبيه بالأرض السورية، طاغيًا ومسيطرًا على تكوينها، وهذه الأعمال تحديدًا، خير ما يمثل فاتح المدرس.

أما الفئة الثانية من سلسلة الأعمال الصغيرة الحجم، فقد أكثر فيها من استخدام اللون الأزرق، معتمدًا في تأليفها، على محفوظات ذاكرته البصرية الملأى بصور الأرض السورية، لاسيما الشمال السوري، حيث ولد وترعرع، في كنف أمه وأخواله، وهذا (كما يقول) جعل لوحته تتطابق مع جغرافية الأسطورة، وتبصيمات الذاكرة السورية التليدة، التي تفترش آلاف السنين، مندمجة في سيرته الذاتية والعائلية المأزومة، ومع ملحمته الوجودية، في سعيها نحو الحرية الإبداعية.

ويضيف المدرس مؤكدًا، أنه في أعماله هذه، يرصد غبطات وأحزان وشموس ومناطق الشمال الريفي التي تتالت فيه فصول توجعاته وأقداره. لم يتميز فاتح المدرس كرسام ومصوّر فقط، وإنما كمفكر وأديب، وضع عدة كتب في القصة القصيرة والشعر، وله محاولات مع العزف الموسيقي، وفي هذا السياق يقول: «ولدت على أرض جميلة، يخترقها نهر متوحش، تزينها أشرطة من التراب الأحمر القاني، الفصول الأربعة فيها متميزة بالأعاصير والثلوث والشمس اللاهبة.

في شمالي سورية ولدت، سموني فاتحا لأحب وجوه الفلاحين، والأعشاب الطيبة، وأغاني الأطفال. عندما بدأت أدرس الأدب، جئت إلى (مارون عبود) الكاتب والناقد اللبناني المعروف، فأعطاني مقدرة لأن أنظر إلى شجرة البلوط، وأحدق في عينيها بلا خوف كالجبال، وعندما تعلمت ماهي الألوان، أصبحت سعيدًا كالشيء الموجود دائمًا).

ويرى الفنان المدرس أن الكلمة هي أساس المادة الشعرية، تشكّل صورة مغايرة في الذهن عما تتركه اللوحة. الشاعر أمامه فضاءات متعددة للصورة، وأما الرسام فيحتاج إلى التفاصيل البحتة ولديه صورة محددة، بينما الشاعر يملك سبر التجديد في الكلمة، ويبتعد في الإيماءات عبر رصيد ذهني هائل.

العمل الفني

يرى المدرس أنه على مقدار العمق في الأثر، يأتي التأثير. فالعمل الفني في الرسم أو النحت أو غيرهما من الفنون، يولد بتأثير من انتباه الإنسان، تمامًا كالآلة العجيبة التي مرت بسلسلة لا متناهية من الأحكام والموازين والتقييمات. بعدها يظهر الإنسان واقفًا، حائرًا، يبتسم إزاء كل هذه العبثية التي لبست لبوس الوجود، وواجبه وهو يرسم، كيف يفهم الضياء، فوراء كل شكل من الأشكال المكوّنة للوجود، لانهاية لأشكال توائم لها.

وعندما يتحدث حول عمله الفني، يرسم بدقة معماره ومصدر هذا المعمار: «أنشئ في نوافذ لوحاتي من جديد، المدرجات الطبوغرافية للشمال السوري. أعتلي سلالم تكويناته حتى الأفق الذي يتماهى عند خط سديم السماء. أعلق الأشخاص في شبكة هذا الفراغ المتعامد، وضمن إيقاع شطرنجي مدماكي حجيري يشبه تنضيدات الجدار الريفي ومداميكه الطينية. وأمسد أديم لوحتي وعجائنها الصباغية بأصابعي المكورّة، مثل الخزّاف الشعبي أو المعماري أو الطيّان».

ويؤكد الفنان المدرس، أن لوحته لا تشرح الأساطير، ولا تروي خباياها المثيرة، بقدر ما تعيش نبضها اليومي من خلال مجتمع الريف في مدنه الحيَّة مثل مدينة (معلولا) الآرامية المحفورة في الصخر، السافرة حجيراتها أمام الشمس والصباغات الكلسيّة. في مثل هذه المدن تحديدًا، يبحث الفنان المدرس عن كائنات إبداعية تتكاثر في عرق الأرض. تتجذر مع أشجارها، حتى أنه طرد المدينة من لوحاته، وتمسك بهذه البيوت الطينية أو الحجرية التي نُحتت فيها الوجوه التعبيرية، كما نُحتت في ألواح ورقم آثار الحضارات السورية الآرامية - البابلية - الكنعانية - الفينيقية، في ممالك ماري وأوغاريت وتدمر.. وغيرها.

وبصراحة متناهية، يُعلن الفنان المدرس أنه يرسم ليكون سعيدًا، فهو بلا معرفة ليس سعيدًا، وفي تعرفه على الرسم والألوان، يشعر بملكيّة مطلقة للأشياء في الوجود، ومن هنا يأتي مصدر شعوره الدائم بالفرح، ولهذا يرسم بيده وبعينيه وبحركته، ليتعرف على الموجودات، فالمعاناة في التجارب تجعله السيد إزاء جمال الوجود الخارق.

 

  

محمود شاهين 




 





المرأة والأرض





«معلولا».. عاشقة الصخر





الفنان المدرس في محترفه





الاختزال المعُبّر





الأرض السورية





أسلوبية خاصة





السهل الممتنع