ثلاثة وجوه للحب عبدالله محمود سليمان

ثلاثة وجوه للحب

معرفة عناصر الحب مهمة جدا. فمن المهم أن ننمي علاقات حبنا للحياة وللآخرين ليكون للحياة معنى وللوجود مبرر

نشأ عادل وسامية معًا. كانت أسرتاهما جارتين في السكن وكانتا تتبادلان الزيارات. كان عادل وسامية يلعبان معًا, تربطهما مشاعر المودة, ويثق كل منهما في الآخر, ويفضي إليه بأسراره, ويدافع عنه ويؤازره. كانا يذاكران معًا ويشاركان في أنشطة عدة. كانت ميولهما متقاربة, لكن حينما أخذا يكبران بدأت ميولهما في التغاير والاختلاف. لكن الشعور بالمودة وعلاقة الأخوة ظلت كما هي تسود بينهما ومن الجنس نفسه أو من الجنسين, داخل الأسرة أو خارجها. هو شعور الصداقة والأخوة المحبة, هو العلاقة الحميمة.

لم يخطر على بال عادل أن يتزوج سامية, كان عادل يهتم بدراسته, ويؤجل التفكير في مشروع الزواج. واستمرت علاقة الصداقة والجوار بين سامية وعادل, والتحق عادل بكلية العلوم والتحقت سامية بكلية الآداب. وذات يوم رأى عادل في الجامعة فتاة لفتت انتباهه بشدة, شكلها, طريقة كلامها, آراؤها. وفي لحظة دق قلبه بقوة, ومنذ ذلك اليوم وهو يسعى إلى حيث توجد, يطيل النظر إليها, ويحرص على ألا تراه لكي لا يحرجها, يتمنى أن يكلمها, ولكنه لا يجد الشجاعة على أن يفعل. كانت عاطفته قوية متأججة نحو لبنى, وكل أمانيه أن يرتبط بها. ولنترك عادل لمشاعره تأخذ مسيرتها, هذه المشاعر الجامحة التي تمثل رغبة قوية في الحصول على الآخر والاستمتاع معه هي ما نسميه الوجد أو الجوى أو الهوى.

أما أشرف وهند فقد كانا أولاد عم. كانت هند يتيمة الأبوين, وحيدة لا إخوة لها, ضمها عمها والد أشرف إلى أسرته. كان لأشرف أخ وأخت صغيران, وكانت الأسرة تحسن معاملة هند وتعتبرها واحدة من أبنائها, وكانت هند تفني جهدها في خدمة الأسرة وكانت الأسرة تقول: (هند لأشرف). واستمر هذا الرأي يكبر على الرغم من أن مشاعر أشرف نحو هند كانت أقرب إلى مشاعره نحو الأخت منها إلى الحبيبة.

كان دافع أشرف إلى الزواج من هند هو دافع (الواجب) و(الالتزام) نحو ابنة عمه.

ما هو الحب?

ولنترك عادل وسامية ولبنى وأشرف وهند يسيرون في حياتهم, يواجهون أقدارهم, أو يتصرفون طبقًا لما تقودهم مشاعرهم وأفكارهم, أو طبقًا لضغوط الآخرين من حولهم. ولننظر من زاوية الحقيقة والواقع, نحاول أن نعرف ما هو الحب, وكيف يستطيع الإنسان أن يفهم ما يثور فيه من مشاعر وما يبرز في ذهنه من أفكار, بل وكيف يتصرف في حياته. كيف يستطيع الإنسان أن يحب حبًا ناضجًا يَسعد به ويُسعد به من حوله, ويدفعه إلى الإنتاج والابتكار اللذين من دونهما لا تستقيم حياة الفرد أو فاعلية المجتمع أو ازدهار الحضارة.

إذا نظرنا من نافذة الحقيقة والواقع وجدنا أن السبيل إلى فهم أي شيء هو (العلم). هذه بديهية, ولكن البديهيات كثيرًا ما تخفى حتى على أعلم العلماء. فقد أطلعت عالمًا متميزًا على كتاب كتبه أستاذ مرموق في علم النفس, يحلل فيه ظاهرة الحب بناء على دراساته التجريبية, فقال: إن المحبين يعرفون طريقهم, ويحبون بشكل صحيح ولا يحتاجون إلى دراسات أو كتابات عن الحب. ليس صحيحًا! وإلا ما كان المحبون ينتحرون بسبب الحب أو يجوبون الشوارع والقفار يصرخون شعرًا ويئنون أدبًا. لو كانت مقالة صديقي الحكيم صحيحة لما كان هناك فشل في علاقات الحب وارتفاع مزعج في نسب الطلاق.

العلم هو شفاء الإنسان في العصر الحديث, في الوقت الذي تتعقد فيه الحياة وتتصارع القوى وتبرز شياطين الشر لتدمير البشرية. بل إن العلم هو شفاء الإنسان في كل زمان ومكان. وعدم معرفتنا بهذه البديهية هو الذي يحفظنا في ثلاجة التخلف والتبعية.

لنعد إلى العلم والحب. الحكايات الثلاثة التي قدمت بها هذا المقال كانت موضوعًا لعدد من النظريات والدراسات السيكولوجية. ولكني سأحدثك عن نظرية تبدو أكثر بساطة ووضوحًا في تفسير ظاهرة الحب. وحين أقول لك نظرية فإني لا أريدك أن تستعجل وتتركني وتقول: إن النظريات هي أحلام الفلاسفة وهم في أبراجهم العاجية مستريحون على كرسي الأحلام البعيدة عن الواقع. كلا إن النظريات في العلم هي تصورات العالم الباحث لتفسير ظاهرة ما بناها بعد دراسة العديد من الملاحظات والدراسات لهذه الظاهرة.

لكن العالم لا يهدأ حتى يبرهن على صحة نظريته بدراسة السلوك الواقعي لأبعاد الظاهرة, والتأكد من أن النظرية تفسر الظاهرة كما هي في الطبيعة وبعد أن توضع تحت مجهر العلم. فإذا ثبت للعالم أن تفسير النظرية أو بعض جوانبها ليس صحيحًا, قام بتعديل نظريته. ومن ثم فإن النظريات العلمية تقوم على الاختبار التجريبي, لتصبح بعد ذلك تفسيرات صادقة للظواهر.

والنظرية التي أريد أن أحدثكم عنها اليوم هي نظرية روبرت سترنبرج والتي سماها (النظرية الثلاثية في الحب). وسترنبرج هو أستاذ علم النفس في جامعة ييل, وهي من أكبر جامعات الولايات المتحدة الأمريكية, ولنبوغه وتفوقه خصصت له شركة IBM كرسيًا باسمه, وهذا يعني أنها تقدم له الدعم المالي للقيام ببحوثه ودراساته.

الحب الثلاثي

سمى سترنبرج نظريته بنظرية الحب الثلاثية لأنه يرى أن الحب يتكون من ثلاثة عناصر هي: الحميمية (التقارب والمودة) والوجد (الهوى والهيام) والالتزام (قرار باستمرار العلاقة). ولكي يتحقق من صدق هذه النظرية أجرى عددًا من الدراسات استخدم فيها مقاييس العلاقات بين الأفراد وعلاقات الحب, قام بالإجابة عنها أعداد من الرجال والنساء, كان عمرهم من 18 الى 70 عاما, يصفون فيها علاقات حبهم للوالد والوالدة والأخ والأخت الأقرب في العمر والمحبوب من الجنس الآخر. وأخضع سترنبرج إجابات الأفراد للتحليلات الإحصائية الدقيقة ليكتشف العوامل الكامنة وراء هذه الإجابات التي تصف علاقات الحب.

كان السؤال المهم الذي حاول سترنبرج الإجابة عنه هو: هل يتكون الحب من عناصر مختلفة منعزلة أم من عناصر مختلفة يجمعها عنصر عام أم من عنصر يمكن تجزئته إلى ثلاثة عناصر هي: 1ـ الحميمية, 2 ـ الوجد, 3 ـ الالتزام. ومن النتائج المثيرة للاهتمام التي توصل إليها: أن بناء عنصر الحميمية لا يختلف من علاقة حب إلى علاقة حب أخرى. فالحميمية نحو الأب أو الأم أو الصديق أو الصديقة أو الأخ أو الأخت أو المحبوب تكون عنصرا عامًا في هذه العلاقات لا تختلف في أي منهما عن الأخرى. أما العنصران الآخران فيمكن أن يختلفا من علاقة إلى أخرى. فعنصر الوجد مثلا يلعب دورًا قويًا في العلاقة بالمحبوب, ولكنه يلعب دورًا أقل, مثلاً في علاقة الابن أو الابنة مع الوالد من الجنس نفسه. أما عنصر الالتزام فإنه يمكن أن يلعب دورًا محدودًا في العلاقة مع المحبوب, ونحن نلاحظ أن العلاقات الرومانسية عادة ما تكون محدودة الأجل, فالشاب أو الفتاة يمكن أن يشعر بحب شديد ودافع قوي نحو شخص من الجنس الآخر, ولكنه سرعان ما ينتقل بمشاعره نحو شخص آخر. لكن مهلاً, فهذه الملاحظة قد تصدق في الثقافة الغربية, حيث تتاح فرص الاختلاط والمشاركة بين الجنسين, لكنها قد لا تصدق في ثقافتنا حيث الفرص محدودة والقيود أكثر مما يجعل الشاب أو الفتاة يتمسك بعلاقات لا يتجاوب فيها الطرف الآخر أو يمنع من التجاوب لفترات قد تطول.

ويلعب الالتزام دورًا قويًا في العلاقات الأسرية التي يمكن أن تستمر فيها علاقة الحب والرعاية ما استمرت حياة أطرافها (الابن والابنة مع الأب والأم مثلاً).

التقارب والوجد

وتعبّر الحميمية عن جانب المشاعر في العلاقة. هي شعور بالتقارب, بأن الآخر قريب مني, وهي شعور بالارتباط في العلاقة, مثلما تشعر الأم بارتباطها بطفلها, والطفل أو الابن الراشد أو الابنة نحو الأم أو الأب. هذه المشاعر تجعل الفرد يشعر بالمودة ودفء العلاقة. وتسود هذه المشاعر علاقات الإنسان بالآخر من الجنس نفسه أو الجنس الآخر. هي علاقة الألفة والاطمئنان مع الآخر والثقة فيه, والشعور بالرضا في وجوده.

أما عنصر الوجد فيمثل جانب الدافعية في العلاقة, أن يتجه الإنسان بقوة نحو الآخر. ويمكن أن يؤدي هذا الشعور إلى علاقة رومانسية, أو إلى الجاذبية الجسمية أو الجنسية. والدافعية هي القوى التي تدفع الإنسان نحو الآخر وإلى الوجود معه والاستمتاع بوجوده. والدافع غالبًا ما يكون موجهًا نحو إشباع حاجات معينة, يقوم الطرف الآخر بإشباعها أو تشبع معه. ويكون الجنس من مكونات الدافع خاصة في حالة العلاقة مع المحبوب من الجنس الآخر. لكن عنصر الجنس يمكن أن يغيب في علاقات الإنسان الأخرى. ذلك أن طبيعة الوجد تكمن في استنفار حواس الإنسان وإدراكاته ورغباته في الوجود مع الآخر. وقد يكون هذا الآخر صديقًا أو صديقة, والدًا أو والدة, ابنًا أو ابنة. بل إنه في التعبير الدارج يمكن أن يوصف الإنسان بأن مشاعره تتسم بالوجد, أي الرغبة القوية في الاتجاه نحو إنسان أو فكرة أو عمل أو فن.

ويمثل عنصر الالتزام الجانب المعرفي في علاقة الحب, ومعرفة طبيعة العلاقة وأبعادها والاقتناع بأهميتها للمحب, ومن ثم وعي المحب وإقراره بأنه يحب المحبوب. ويحدث هذا في المستوى الزمني القصير, ثم يلي ذلك عمل المحب على استمرار علاقة الحب وتنميتها. ففي حالة الشباب مثلاً نجد الشاب والفتاة يعملان على تطوير العلاقة من مجرد المشاعر والدوافع الشخصية إلى إجراءات الخطوبة والزواج والعمل على استمرار العلاقة وتنميتها. وفي حالة الحب الوالدي نجد الوالد والوالدة يسعيان دائمًا إلى العمل على تنمية الابن أو الابنة, ويبذلان كل ما يستطيعان في سبيل تحقيق صحته وتعليمه, بل وزواجه, أيضًا في رعايته ورعاية زوجته وأولاده. إنه التزام لا يكل ولا ينقطع في سبيل رفاهية الابن أو الابنة.

ويصف سترنبرج الحميمية بأنها دافئة, والوجد بأنه ساخن, والالتزام في العلاقة بأنه بارد. فعلاقة الحميمية تمتاز بالمودة والدفء والشعور بالتقارب والمؤازرة. إنها علاقة حب هادئ تتسم بالدفء الذي يقي الإنسان برودة الصقيع وحرارة الزمهرير, ويمكنه من العيش في راحة عذبة وكأن حياته لحن جميل لا يتوقف. أما الوجد فيمثل حالة التوق إلى شيء, الرغبة الجامحة في الحصول على الآخر سواء كان رفيقًا من الجنس الآخر, أو أخًا أو صديقًا أو ابنًا. وهو يتمثل في دافع المحب نحو حبيبته أو الوالد أو الوالدة نحو ابنها أو ابنتها. في حالة الوجد تكون كل إدراكات الإنسان في حالة تيقظ وانتباه لاستقبال المثيرات الآتية من الآخر والاستجابة لها. لنأخذ مثلاً حالة الأم المتعبة التي تقاوم النعاس وتتأهب للاستماع لصوت استيقاظ طفلها عند حلول موعد رضعته, أو إيقاظه لتناول الدواء, علاقة الوجد هي علاقة الحماس الجارف الذي يرى المحب حبيبته في أجمل ما يمكن وأذكى ما يمكن ويتصف بأروع الأخلاق. ألم نسمع عن أم تنكر قيام ابنها بفعل معيب مهما قدم لها من الأدلة? أما جانب البرود في علاقة الالتزام فيتضح في حالة الإنسان الذي يرى أن وقوفه بجانب الآخر والتزامه به واجب تلزمه به مبادئه, وقد لا يشعر نحو الآخر بالمشاعر العطوفة, فضلاً عن الرغبة في القرب منه, ومع ذلك يظل إلى جواره يؤدي واجباته نحوه. إننا في علم النفس ننطلق من بديهية أن أي سلوك قابل للدراسة والفهم والتحليل, ومن ثم فهو قابل للفهم للتنمية كما أنه قابل للكف. وإذا أردنا أن نكون محبوبين من الآخرين, فعلينا أن نكون محبين لهم, علينا أن ننمي علاقاتنا الحميمية معهم, وتوقنا وشوقنا إليهم, والتزامنا برفاهيتهم, حتى تصير الحياة حبًا.

 

عبدالله محمود سليمان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات