«العقل» ومأساة الترجمة

«العقل» ومأساة الترجمة

بعد قراءتي ترجمة كتاب (العقل: مدخل موجز) التي ظهرت ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية (العدد رقم 343 سبتمبر 2007)، عقدت العزم بعد نوسٍ بين المضي والإحجام على كتابة هذه السطور. واستغربت في نفسي أنه على ما للترجمة في عالمنا العربي من دراية أكثر أهل العلم بما لها من شأو وخطر، وأسباب ممدودة إلى سبل حسن إدراك الأنا والآخر؛ فإن أكثر المضطلعين بها والقائمين عليها يخبطون خبط عشواء في مفازاتها الشاسعة، فلا يدركون منها إلا القليل. ولعلني كنت كارهاً للقيام بهذه المراجعة النقدية، لما في ذلك من كد للخاطر واستحضار لما نحن عليه من سوء الحال. إلا أنني رُضت نفسي على ما تكره بعدما تذكرت بعض صفحات كنت قد قرأتها في الليلة الثانية من كتاب أبي حيان التوحيدي (الإمتاع والمؤانسة). وفيها طلب منه الوزير أبو عبد الله العارض أن يخبره عن رأيه في عدد من المترجمين والعلماء، فقال له التوحيدي:

«وصف هؤلاء أمر متعذر، وباب من الكلفة شاق، وليس مثلي من جَسَر عليه، وبلغ الصواب منه؛ وإنما يصفهم من نال درجة كل واحد منهم، وأشرف بعد ذلك عليهم، فعرف حاصلهم وغائبهم، وموجودهم ومفقودهم» .

وهنا أجد مثالاً في تراثنا يعرض لنا صنفاً من صنوف النقد الجيد الذي يتحرى الأمانة، على حدته في بعض المواضع. فأبو حيان يصف ابن زرعة بأنه «حسن الترجمة صحيح النقل.. محمود النقل إلى العربية، جيد الوفاء بكل ما جل من الفلسفة». ويقول عن عيسى بن علي إنه «حجة في النقل والترجمة، والتصرف في فنون اللغات». أما يحيى بن عدي فهو «مُشوّه الترجمة، رديء العبارة»، وابن السمح «دونهم في الحفظ والنقل والنظر والجدل». فوجدت مسوغاً لنفسي، وأدركت أنه مادام رائدي الإصلاح والتنبيه على مواضع الزلل ومكامنها، فلا غضاضة من كتابة هذه السطور.

حسن الاستهلال

لا علم لي بالدكتور ميشيل حنا متياس، فهذه هي المرة الأولى التي يعرض لي فيها اسمه، إلا أن أول ما لفت نظري وأوردني موارد الحيرة والسؤال ما وجدته من مباشرته ترجمة النص دون تقديم لهذا العمل المهم، ولمؤلفه الذي هو بقية الفلاسفة الكبار الأعلام في زمننا. كان حريّاً بالمترجم، وهو اختصاصي في الفلسفة، أن يدرك أن جون سيرل لا يعرف عنه القارئ العربي الكثير، بل إن بعضاً من أساتذة ودارسي الفلسفة لا يعرفونه. وهم بهذا أحوج الناس لمن يطلعهم على قدره وفكره. فسيرل فيلسوف صعب، طوّف بين ربوع مدارس فلسفية شتى، وهو ليس بمقلد أو مؤرخ للفكر الفلسفي، كما هي حال أغلب المشتغلين بالفلسفة، بل هو صاحب مذهب، وعَلَمٌ من أعلام فلسفة اللغة ثم فلسفات العقل والإدراك. إذن تقديم المترجم وبسطه لفكر مؤلف الكتاب في تلك الحال أبعد ما يكون عن حشو القول أو التشاوف على القارئ. فقليل من القراء له دراية كافية بفلسفة هيوم أو سول كريبكه، أو ثنائية العقل والجسد في تطورها منذ القرون الوسطى، أو مشكلة القصدية. تلك أمورٌ المترجم الاختصاصي هو أحرى الناس بإدراكها. لهذا جاءت الترجمة صادمة، فبدلاً من حسن الاستهلال بالتمهيد للقارئ بمقدمة ضافية عن الكتاب وصاحبه، يُصدم القارئ بأفكار جون سيرل وأسلوبه المميز. وعلى ذكر الأسلوب، فإن مفكراً كجون سيرل لا سبيل إلى فهمه دون بسطٍ لطبيعة أسلوبه وغرابته، فهو مستصعب مستغرب بين أهله الناطقين بلغته، فكيف الحال بنا؟! وهنا نشعر بخطأ المترجم، وظلمه المصنِّف والمصنَّف. فقد بدّل المترجم حسن الاستهلال بقبحه (إذا جاز التعبير) واستعاض عن التيسير بالوعورة. وأورد القارئ والمؤلف كليهما مهلكةً شديدة؛ إذ أساء إلى القارئ بوضعه إياه إزاء مفكرٍ صعب وفكر جديد، وأساء إلى المؤلف؛ إذ سلبه حقه في التقدير والقبول.

خردوات، وسياتيكا، ومتكلمون بلديون!

ولكن إن غضضنا الطرف عن سوء الاستهلال وتساهل المترجم في تقديم المؤلف، أنّى لنا وغض الطرف عن سوء الترجمة، وركاكة اللغة في مواضع كثيرة، واقتراف المترجم لأخطاء كبيرة على صعيدَيْ الفحوى والتخصص؟

إن أول ما يعرض للقارئ اليقظ هو اقتراف المترجم الخطأ تلو الخطأ في ترجمة عديد من المصطلحات الفلسفية المحورية. فنجده يترجم مصطلح dual aspect theory إلى «نظرية الوجه المزدوجة» ناسباً «المزدوجة» إلى «النظرية» والصحيح أن «المزدوجة» نعت لكلمة «الوجه»، وهذا خلط عجيب من المترجم على مستوى اللغة. ونجده كذلك يترجم كلمة Cartesian التي تعني «ديكارتي» نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي الأشهر رينيه ديكارت، إلى «كارتيجي» ولا أعلم ما معنى هذه الكلمة على وجه الدقة. ويترجم مصطلح extension إلى «دلالة»، وهو مصطلح منطقي معروف يشير إلى «الماصدق» في مقابل «المفهوم» intension. كذلك يترجم كلمة formal إلى «رسمي» مع أنها كلمة شائعة في كل الكتابات المنطقية والفلسفية وتعني «صوري».

ثم نأتي بعد ذلك لغرائب الترجمة. فهو يترجم hardware إلى «خردوات» ولا أعلم من أين له بهذه الترجمة العجيبة، فالكلمة تعني العتاد أو الأجهزة في مقابل البرمجيات software. ويترجم مصطلح rigid designator إلى «المسمي الصلب»، ويا لها من ترجمة! إذ كيف ننعت المجرد بالمحسوس هكذا، وما معنى «مسمى» وكيف هو «صلب»، وهل هذا يعني أن ثمة مسميات أخرى سائلة أو غازية! والمقصود بهذا المصطلح الذي ابتكره سول كريبكه هو «المعنى الإشاري الثابت» في كل العوالم الممكنة، فهو معنى لا يعتريه تغير مهما تحولت السياقات واختلفت. ثم نجده يترجم indestructible إلى «غير قابل للدمار» مرة، ومرة أخرى إلى «غير قابل للتحطيم»، والمقصود «عدم الفناء»، فهذه الصفة عادة ما تكون مصاحبة لكلمة «مادة» للإشارة إلى مفهوم عدم فناء المادة. ويترجم indexical expression إلى «تعبير فهرسي»، والمقصود «تعبير إشاري».

ولننظر سوياً في هذه الجملة العجيبة (كلمة «كذا» التي بين القوسين من إضافتي إجلاءً لمواضع الزلل، والغرابة، وعدم الفهم):

«بالمناسبة، وإن تعريف الأحاسيس بلغة الأسباب شائع جداً. خذ بعين الاعتبار سياتيكا (كذا) (sciatica) تعرف سياتيكا كنوع من الألم سببه منبه في العصب السياتيكي». ص 104.

ولو أن المترجم أضاف حاشية أو هامشاً شرح فيه معنى هذه «السياتيكا» لنجا بنفسه من مواضع تدعو إلى الحيرة، وتورد القارئ موارد اللبس والتشتت. وللنظر إلى مثال آخر، أسميته مثال «المتكلم البلدي»:

«فإذا أجابت الآلة عن أسئلة يطرحها أحد بالصينية ومن متكلم صيني بلدي (كذا)، لدرجة أن متكلمين بلديين (كذا) باللغة الصينية لا يستطيعان التفريق بين الآلة والمتكلم الصيني البلدي». ص 61.

«المتكلم الصيني البلدي» هنا هو الصيني الذي يتكلم اللغة الصينية كلغة أم، وهي ترجمة لعبارة native Chinese speaker. وتتوالى مثل هذه الأخطاء العجيبة مثل: "الفلاسفة المهنيون" ترجمة لعبارة professional philosophers و«أشكال الناحية» ترجمة لمصطلح aspectual shapes في ثنايا الكتاب دون أن تعطي للقارئ فسحة كي يلتقط أنفاسه وما تبعثر من قدرته على التركيز والفهم.

ولننظر معاً في هذه الأمثلة من الترجمة التي بين أيدينا:

«يشرح نيجل هذا الاعتراض بمثل الوطواط. طبعاً، تتميز الوطاويط بزي حياة (كذا) يختلف عن زي حياتنا (كذا)». ص 73

«ليست هناك علاقة مهمة لسبب عميق: يعمل الكمبيوتر بتعليب الرموز (كذا). تعرف عملياتها إعرابياً (كذا) (syntactically) فقط». ص 77

«قد تكون العلامات المختلفة للأنواع المختلفة أشكالاً مختلفة (كذا) من التحقيق لصفة عقلية ذات مستوى أعلى مشترك. وكما أنه يمكن لنفس برنامج الكمبيوتر (كذا) أن ينفذ في أنواع مختلفة من الخردوات (كذا)، ولهذا يمكن تحقيقه بطرق متعددة، أيضاً يمكن للحالة العقلية نفسها، كالمعتقد أنها ستمطر، أن تنفذ بأنواع مختلفة من الخردوات». ص 62

«وهكذا، بالإضافة إلى مجرد الاستمرار الخام (raw) (كذا) للامتداد عبر المكان والزمان، يبدو أنه علينا أن نعترف بوجود أنواع معينة من الأجهزة النظامية في التغيرات التي تطرأ على هذا الشيء المكاني-الزماني (كذا)». ص 222

«يجب أن يوجد معتقدان مختلفان، لأن الواحد (كذا) صح (كذا) والثاني خطأ، ولا يمكن للمعتقد نفسه أن يكون صُحاً (كذا) وخطأ في الوقت ذاته». ص 146

«بلغة الفلسفة الرطانة (كذا) يفشل التحليل المادي في إعطاء الشروط الكافية للظواهر العقلية». ص 71

«قدمت تحليلاً حالياً (dispositional) (كذا) للحالات العقلية اللاواعية». ص 196

«شروط الرضاء (كذا): كلما كانت لدينا حالة عقلية ذات اتجاه تناسبي لا باطل (كذا) )non-null ( فإن التناسب إما سيتحقق أو سوف لايتحقق». ص 137

«ويمكن تمثيل (represent) (كذا) هذه القضية ك س (ب ) p) S) حيث ( س ) إلى نمط، أو نوع، أو حالة و( ب) تشير إلى مضمون قضائي (كذا)، تسمى حالات كهذه (مواقف قضائية) (كذا) (propositional attitudes)». ص 135

وفقاً لهذه الترجمة الوطواطية (الوطواط في اللغة هو الذي يُقارب كلامه كأنه صوت الخطاطيف، فيتعذر فهمه) فإن عبارة «زي حياة» تلك ما هي إلا ترجمة لكلمة lifestyle أي «أسلوب حياة»، كما أن «لغة الفلسفة الرطانة» هي ببساطة ترجمة لعبارة philosophical jargon التي تعني لغة الفلسفة المصطلحية أو التخصصية أو حتى الفنية، و«المضمون القضائي» ترجمة لعبارة propositional content. وسأكتفي بهذا، تاركاً بقية الأمثلة للقارئ يحللها ويخرج منها بما شاء من استنتاجات.

من زاوية أخرى، نجد أن نص الترجمة يكاد يخلو من الهوامش الشارحة التي يحتاج إليها نص كهذا عند ترجمته أشد الحاجة؛ فسيرل فيلسوف موسوعي يشير طوال الوقت لمذاهب ومصطلحات فلسفية عديدة، وأعلام تاريخية وفكرية لا سبيل إلى فهم النص إلا بإثباتها في هوامش الترجمة وإجلائها من قبل المترجم. إلا أننا لا نجد إلا هامشاً أو هامشين حفظاً لماء الوجه. كما نجد أن المترجم قد أسقط من الترجمة الهوامش والتعليقات الغزيرة التي ضمَّنها سيرل في ملحق الهوامش (من صفحة 239 إلى 243).

الترجمة المُبيرة

الشيء «المبير» في اللغة هو الشيء المهلك، والعمل المبير هو العمل الذي لم يحقق المقصود منه. هكذا هي الترجمة التي بين أيدينا، ترجمة مبيرة؛ إذ مسخت النص الفلسفي العميق، وضيعت المؤلف، وأساءت إلى سمعة ناشر جيد، وبالطبع أهلكت المترجم لما تحويه من أخطاء ومثالب لغوية، وترجمية، ومنهجية. وإن كان الشائع في النظرية تصنيف عملية الترجمة إلى ثنائيات كالترجمة الحرفية في مقابل الترجمة الحرة، والدلالية في مقابل التواصلية، وغيرها من التصنيفات؛ فإن الدكتور طه عبد الرحمن قد أمدنا في كتابه الرائع (الفلسفة والترجمة) بتصنيف آخر ثلاثي يتعلق بالنص الفلسفي دون غيره. فنجده يقسم ترجمة النص الفلسفي إلى أنواع ثلاثة: ترجمة تحصيلية، وترجمة توصيلية، وترجمة تأصيلية. وهي درجات من الإتقان الترجمي، وتَمَثُّل النص الفلسفي، أدناها هي الترجمة التحصيلية وأعلاها التأصيلية. ولعل ترجمة الدكتور حنا متياس، وإن كانت تتأبى على التصنيف، تدخل تحت باب الترجمة التحصيلية، بأوصافها التي أوضحها الدكتور عبد الرحمن.

ولعلني لا أجد لهذه الترجمة صنواً إلا في نوعين من الترجمات: الترجمة الآلية (ولا يسعنا المقام إلى الحديث عنها) والترجمات المبكرة التي قام بها عدد من المترجمين السريان إبان بواكير حركة الترجمة والنقل في زمن بني العباس. ففي تلك الترجمات نجد ما يشبه ترجمة الدكتور متياس؛ فنجد جملاً من قبيل: «إنسان موجود عادلاً»، «يوجد لا إنسان عادلاً»، «وليس يوجد لاإنسان لا عادل». وقد كان الدكتور طه عبدالرحمن يذكر أنه اكتشف، حسب علمه، «أردأ نقل فلسفي وصل إلينا» (ص: 308) مشيراً إلى ترجمة كتاب (الخطابة) لأرسطو، ثم ترجمة (أسطات) لكتاب (ما بعد الطبيعة).

ولكن إن التمست الأعذار لهؤلاء الرواد الذين دشنوا حركة الترجمة التي حولت مسار الثقافة العربية إلى وجهات بعيدة الغور والأثر في العلوم العقلية والطبيعية، فكيف لي أن ألتمس الأعذار لمترجم كتاب (العقل) ؟ لقد عُرف عن هؤلاء المترجمين والنقلة ضعف لغتهم العربية وركاكة أسلوبهم، وقد وُصفوا كثيراً بالفهاهة واللُكنة. أما مترجم كتاب (العقل) فهو ملوم على كل ما اقترفه من أخطاء، كما أن هيئة التحرير التي عودت قُراءها على إخراج أعمال رصينة رائدة، كان لابد لها أن تتنبه لما في هذه الترجمة من مثالب. أقول ذلك

لا في معرض التشاوف أو التهكم، ولكنني مدفوع بقلق وخوف على ما قد تئول إليه دوائرنا العلمية ودور نشرنا العربية الممتازة من سوء المآل بسبب التهاون، أو الاستكانة لغوائل الكسل و«الشِللية». إن سلسلة عالم المعرفة هي السلسلة التي نشر فيها أعلام كبار في ثقافتنا، من أمثال: عبد الرحمن بدوي، وحسين مؤنس، ونقولا زيادة، وأحمد سعيدان، وعبد الغفار مكاوي، وغيرهم. لذا فأنا أربأ بها أن تنشر أعمالاً دون المستوى قد تُدخل على القارئ الأسى والإحباط.

الترجمة وطبيعة النص الفلسفي

المتصدي لترجمة نص فلسفي «أصيل» لابد أن يرتدي أمضى أسلحته (كما يقول تأبط شراً) فيحشد مجامع فكره، ودربته، وباله. فالنص الفلسفي في جوهره نص مراوغ مستغلق لأنه يحوي مفارقة أصيلة؛ إذ يحوي بين ثناياه فكراً، على خصوصيته وفردانيته، يسعى إلى الشمولية، وإلى استجلاء مكامن العقل والوجود والأخلاق. وإذا كان الشعر

لا يترجمه إلا شاعر أو من تمسه شياطين الشعر من آن لآخر، فكذلك الفلسفة لا يقوى على ترجمتها إلا من يدرك كنه النص الفلسفي وروحه. لذلك نجد من يطلق على عملية الترجمة في الفرنسية كلمة transposition أي النقل، وهو المعنى الذي وعى إليه العرب منذ قرون، فالنقل والانتقال أحرى بالروح والمزاج الفلسفيين. أقول هذا وقد قرأت منذ شهور ترجمةً من الألمانية لكتاب كانط (تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق ) لمترجم متقن ومفكر كبير، هو الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي. وكانط، لمن لا يعرفه، عمدة في الغموض ووعورة التعبير. وتساءلت في نفسي: كيف تمكن الدكتور مكاوي من نقل نص كهذا إلى لغة كهذه. لقد نقل مكاوي روح النص وبلاغته وخطابه وعالمه إلى اللغة العربية، حتى إنني شعرت بأن كانط يتكلم من بين السطور بلسان عربي رصين. والقضية هنا لا تدور في مدار اللغة الرائقة فحسب، بل هي قضية تتعلق بعمق ثقافة المترجم، ومُكنته من اللغتين المصدرِ والهدف، وجمعه أطراف اختصاصه بين يديه، وفهمه لمكانة النص وصاحبه، وخلقه نصاً موازياً يقرؤه المُريد وهو غير ملتاع على حرمان القدر إياه قراءةَ هذا النص في لغته الأم.

هكذا تؤتي ثمارها مضاعفة!

أختم مراجعتي هذه بكلام للدكتور حسن قبيسي (رحمه الله) من كتابه القيم (المتن والهامش):

«الكتاب القيم عندما يترجم بشكل رديء يخلف في ذهن القارئ المتعطش للمعرفة أو المضطر إليها شعوراً بالخيبة والإحباط.. والأسوأ من ذلك، أن الترجمة الرديئة تنفر أول ما تنفر أولئك القراء سليمي الذهن: إذ ينبغي أن يتوافر لدى القارئ ذهن متلبد بالعقيدة أو بشحنة أيديولوجية تطاول الحدود المرضية حتى يظل مستمراً في القراءة، بالرغم من أن ما يقرؤه مبهم ومرتبك وركيك. وهكذا تؤتي الترجمة الرديئة ثمارها مضاعفة. ومن هنا خطورتها لا رداءتها وحسب».

هكذا تؤتي الترجمة الرديئة ثمارها مضاعفة، فمع كل قراءة لترجمة رديئة، يستحيل التلبد إلى تبلدٍ، ويعتاد القارئ العربي على أنماط من الخطل الفكري تُذهِب ملكاته العقلية والنقدية إلى بيداء مهلكة لا رجوع منها. وهذا ما رأيته جلياً في بعض مراجعات كتاب (العقل) على شبكة الإنترنت.

ثم نأتي بعد ذلك إلى قضية «الآخر» الذي صدّعنا به رءوسنا وأرهقنا به أنفسنا، والسؤال هنا: ما الذي يخرج به القارئ العربي من هذه الترجمة؟ الإجابة وفقاً لحسن قبيسي تتمثل في أمرين: التشاوف أو الانسحاق. فالقارئ العربي إما أن يرى في جون سيرل رجلاً مخبولاً، كثير الغث، واضح العي، فيظن القارئ في نفسه الخير، وأن ثقافته أجلى وأعلى مما يقذف سيرل به الناس. وهذا هو التشاوف بعينه. والأمر الآخر، يتمثل في أن القارئ سيخرج باستنتاج مفاده أن سيرل وفلسفته أوعر من أن يقف عليها، لضعف جوهري في عقله أو ثقافته. وهكذا ينسحق القارئ العربي أمام سيرل وفلسفته، والثقافة التي أنتجت تلك الفلسفة، والحضارة التي أخرجت تلك الثقافة؛ قد يقول البعض إنني قد حمّلت الأمر أكثر مما يحتمل، فما هي إلا ترجمة سَتمُر كغيرها من الترجمات تحت أعين وأنوف الناس. ولعل في هذا مسحة من صدق، وحفنة من واقعية، إلا أن المشكلة لا تتمثل في الذي مَرّ، ولكن في الذي هو آت. إن ترجمة كهذه، تُنشر في دار نشر لها من علو الشأن والانتشار ما لها، يجب ألا تمر هكذا دون تنبيه الذي قام بها إلى ماهية الترجمة وما يلزم المترجم، لاسيما مترجم النص الفلسفي، من مران ودُربة، وتنبيه الذين مرروها وأجازوا نشرها، مع حسن ظننا بهم، إلى واجبهم نحو القارئ العربي الذي يثق بهم وينتظر منهم الكثير على درب الإجادة والنفع.

«إن فساد كل صناعة من كثرة الأدعياء، وقلة الصرحاء» كما قال أبو سليمان الخطّابي (ت 388هـ) في كتابه(غريب الحديث). كذلك فإن ضعف العلم بضعف أهله، والترجمة إحدى أهم سبل تحصيل العلم وبلوغه، ونحن أمة إذا غاب وعيها بأهمية العلم وخطره، وفرطنا في أمل الرجوع إلى تقاليد الرصانة والتمكن، فلن ندعو غداً ثبوراً واحداً، بل سندعو ثبوراً كثيرا.

 


رامي الجمل