تعريب الفلسفة

 تعريب الفلسفة

ما أحاول أن أنطلق منه ليس مجرّد تنظير بل هو التجربة الحيّة التي عشتها مع تعريبي لكتاب واحد مهم هو «الذات عينها كآخر» للفيلسوف الفرنسي بول ريكور، وما واجهته من تحدِّيات لنقل أمين لكتاب على مثل أهميته.

وكان لا بدّ لي أولاً أن أبرز موقع هذا الكتاب في مجمل الفكر الغربي والفرنسي بشكل خاص في القرن العشرين، أو بالأحرى في النصف الثاني منه، غير أني أعتقد مخلصاً أنني قبل أن أبدأ في معالجة هذا الموضوع لا أستطيع أن أتجاهل أمرًا مهمًا لا بدّ من التوقف عنده وهو أن تعريب الفلسفة ليس بالأمر الجديد على اللغة العربية، أي أن هذه الظاهرة لم تنشأ مع عصر النهضة العربي في القرن التاسع عشر، أو بالأحرى في القرن العشرين، بل هي قضية لها تاريخ، أي أن التراث العربي له ذاكرة خاصة به في هذا الصدد، ولا بدّ من التوقف عند أهم ما يسترعي الانتباه بهذا الخصوص، من دون الادّعاء بالإحاطة بالموضوع، بل إن الأمر هو أقرب إلى ملاحظات لها دلالاتها من غير تنظير كامل. وبهذه الطريقة تتوضح حدود موضوعنا هذا، وتبرز أقسامه الثلاثة حول البدء مع التراث الحيّ في قضية تعريب الفلسفة، ثم الكتاب موضوع الترجمة، والملاحظات حول آفاق مثل هذا العمل، وما يطرحه من تحدّ في عصرنا المتغير بسرعة هائلة، لم تعرف لها البشرية من مثيل خلال كل تاريخها المرير.

1- بداية تعريب الفلسفة: لا نعرف بالضبط تاريخ نقل أول كتاب فلسفي إلى العربية، وليس لذلك أهمية كبرى، فالبدايات كثيراً ما تغيب في ذاكرة التاريخ ولا تبدو بوضوح في الأفق المتراجع، غير أن هناك حدثاً مهماً اعتبره ابن النديم في كتابه «الفهرست» نقطة ازدهار الفلسفة وحركة ترجمتها، ونحن من دون التمحيص الكبير يمكن أن نقبل معه أن مثل هذا الحدث هو بداية من البدايات، حتى وإن لم يكن البداية الأولى، والحدث يستحق أن نرويه كما ورد عند صاحبه بالتعابير التي استعملها تقريباً. إن المأمون رأى في منامهِ رجلاً أبيض اللون، مشرباً بحمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس، أشهل العينين، حسن الشمائل... قلتُ له: من أنت؟ قال: أنا أرسطوطاليس، فسررت به وقلت: أيها الحكيم أسألك ، قال: سلْ قلت: ما الحسن؟

قال: ما حسن في العقل، قلت: ثم ماذا؟ قال : ما حسن في الشرع، قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن عند الجمهور، قلت: ثم ماذا ؟ قال : ثم لا ثم..

ويضيف ابن النديم أن هذا المنام كان من أوكد أسباب إخراج كتب الفلسفة وانتشارها. وهذا الحلم ذو دلالة كبيرة جداً، وليس من الصعب تفسيرها ومحاولة إيجاد مدى تأثيرها في العرب مستقبلاً الذين جعلوا من أرسطو المعلم الأول. وهذا اللقب في حد ذاته يدل على مدى الانفتاح الكبير على الآخر وقبول الاستماع إليه. غير أن هذا ليس موضوعنا اليوم، بل كيف واجه النقلة العرب المشكلة الطارئة عليهم، وكيف استجابوا للتحدي في ذلك العصر، وهو القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي).

الحفاظ على المصطلح

هناك أولاً الإبقاء على الكلمة الأصلية على حالها تقريباً مع بعض التسرّع أحياناً، فنحن نجد كلمات من مثل أرتماطيقا وانالوطيقا (التحليلية) وأبوديقطيقا (البرهان) وقاطيغو رياس (المقولات) وريطوريقا (الخطابة، البلاغة)... إلخ. ثم هناك كلمات حرفت قليلاً لتتماشى مع عبقرية اللغة العربية من مثل كلمة هيولى المشتقة من هيلي، والنسبة لها (الهيولاني)، وكلمة ناموس، المشتقة من (نوموس) وجمعت نواميس ونجدها في عنوان ترجمة عنوان أحد كتب أفلاطون. ثم كانت هناك مجموعة من الاشتقاقات الجديدة، ولعل أشهرها الذي نجده في جملة عند الكندي «مؤسس الأيسات عن ليس» أي مُبدع الكائنات من العدم. وطبعاً كلمة فلسفة نفسها.

لن أطيل الحديث في هذا الصدد، غير أني لن أتوقف قبل أن أشير إلى الأمانة العلمية التي اتصف بها النقلة أو المعرّبون، وسأشير هنا إلى حدث واحد، فهذا اسحق بن حنين في ترجمته لكتاب أرسطو الشهير الأخلاق إلى نيقوماخوس، الذي عرفه العرب تحت عنوان نيقوماخيا يصل إلى كلمة متوسطة بين الحسد والشماتة فيبقيها على ما هي باليونانية، نيميسيس، وهذا ما يدل على مدى أمانته وحرصه على النص من دون إخلال ولاغرور، والكلمة يترجمها الفرنسيون بكلمة Indignation وهي تعني الاستياء أو الامتعاض أكثر مما تعني الغضب (انظر بهذا الصدد، أرسطوطاليس، الأخلاق ترجمة اسحق بن حنين، تحقيق الدكتور عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات، الكويت 1979، ص 100).

إن هذا الإقدام على ترجمة كل تراث أرسطو تقريباً، وهو موسوعة كاملة عن اللغة اليونانية وهي لغة الروم المتحصنين في عاصمتهم القسطنينية أو بيزنطة التي حاصرها العرب المسلمون أكثر من مرة، جعل الجاحِظ يُخاطب الروم قائلاً: إن ليس لهم التغنِّي بتراثهم الفكري والعلمي، بل هذا شرف يعود للعرب والمسلمين، لأن الوريث الوحيد الصحيح لأي علم هو من اعتنى بهذا العلم وكرمه وأنزله المنزلة التي يستحقها، لا من يخزنه في الأقبية ويهمله ويترك الرطوبة تفعل فيه سوءاً، ولا شك أن الجاحظ كان محقاً في مثل هذا القول. غير أني أخشى أنه يعود علينا اليوم، ولو جزئياً في ما خصّ ابن رشد وغيره من علماء العصر الوسيط!!

2- بول ريكور والذات عينها كآخر: لنقم الآن بقفزة كبيرة ليس في الفراغ بل في المكان والزمان، ولننتقل إلى القرن العشرين مباشرة، في العالم العربي هناك من جديد حركة تفاعل كبيرة مع العلم الغربي، ومحاولة لنقل الأفكار الغربية والمدارس الفلسفية وصراعاتها، غير أن تعريب الفلسفة مازال غائبًا، فحتّى مطلع القرن العشرين لم يكن هناك ذكر لديكارت مثلاً في الكتابات العربية، غير أن هناك نهضة حقيقية في مصر، وهناك تأسيس لجامعة فؤاد الأول، ومجيء لكبار أساتذة فلسفة من باريس لالاند، وبريهيه، الأول سيشتهر بقاموسه الفلسفي والثاني سينال شهرة كبيرة كمؤرِّخ كبير لمجمل تاريخ الفلسفة، وفي عام 1926 يزج طـه حسين باسم ديكارت في كتابه «في الشعر الجاهلي»، الذي أحدث ضجة كبيرة. غير أن علينا أن ننتظر أربع سنوات أخرى قبل أن يقوم أحد طلاب طه حسين المدعو محمود محمد الخضيري بترجمة كتاب ديكارت «خطاب المنهج»، ولم تكن مهمته سهلة لأن اللغة العربية كانت تحوي إرثاً مهماً على الصعيد الفلسفي

لا يمكن تجاهله، خصوصاً أن لغة ديكارت ليست بعيدة جداً عن تراث العصر الوسيط، وقد نجح الخضيري في مهمته، وبذلَ جهداً حقيقياً في البقاء أميناً للنص الأصلي.

ديكارت يسيطر

وبعد ذلك سيقوم عثمان أمين عام 1951 بترجمة «التأملات في الفلسفة الأولى» لديكارت ثم «مبادىء الفلسفة» للفيلسوف الفرنسي نفسه. وكان عثمان أمين معجباً بلا تحفظ بديكارت، واعتقد أنه سيلعب في القرن العشرين عند العرب الدور الذي لعبه أرسطو عندهم في العصر الوسيط. بعد ذلك أدخلت شتى أنواع الترجمات لـ: هيجل وماركس والوجوديين، ولم تتوقف الحركة، وما زال الوقت مبكراً كي نستطيع أن نحكم على ما يصنع الآن.

أما في الفلسفة القارية الأوربية فقد كان برجسون مسيطرًا في بدايات القرن العشرين، ثم أعقبه سارتر مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، بل وفي أثنائها. أما في الستينيات وبعد أن بدأ تأثير وجودية سارتر يخف فقد سادت موجة البُنوية التي دخلت الفلسفة عن طريق ألسنية سوسيير وأنتروبولوجيا ليفي- ستراوس، وأصبحت طاغية وأعلنت موت الذات الفاعلة والأنا أفكر (الكوجبتو) الديكارتي، وكان بول ريكور في ذلك الوقت أستاذاً في السوربون بدأ يلمع اسمه، غير أنه لم يرغب في أن يسير مع الركب، وأن يجعل من الفلسفة موضة تسود في باريس، وكان المسيطرون الجدد على الفكر هم ميشال فوكو صاحب «الكلمات والأشياء»، وجاك دريدا، ولويس التوسر ورولان بارت وجاك لاكان.

وجاءت ثورة الطلاب في مايو 1968، ولم يكن ريكور من المُتحمِّسين لها. وعين بعدها عميداً لجامعة نانتير في ضواحي باريس، وهي الجامعة التي انطلقت منها حركة الطلبة كلها، غير أنه لم يبق في منصبه ذلك سوى فترة قصيرة استقال بعدها، وغادر يعلم في الولايات المتحدة، وبشكل خاص في جامعة شيكاغو، وصدر له عام 1975 كتاب «الاستعارة الحيّة»، ثم أعقبه كتاب «الزمان والسرد» بأجزائه الثلاثة التي صدرت تباعاً عام 1983 و 1984 وعام 1985.

وأخيراً، هذا الكتاب الذي نحن بصدده وهو «الذات عينها كآخر»، الصادر عام 1995. وكان ريكور قد انطلق منهجياً من الفينومينولوجيا وهوسـرل ، وكان قد ترجم أحد كتبه وهو في الأسر بين سنة 1940 و1945، ثم طعمها بالتأويلية القادمة من هيدجر وجادامر. وكانت تأويلته تقوم على ما أسماه الطريق الطويلة التي لا تقيم أنطولوجيا مباشرة، بل تصغي إلى كل الشارات التي تأتي الفلسفة من العلوم الإنسانية الأخرى كالتحليل النفسي والألسنية والأنثروبولوجيا. وفي هذا الكتاب فتحت تأويليته مناظرة مطولة مع الفلسفة المسماة تحليلية، وهي فلسفة إنجليزية بجوهرها قائمة على طرح أسئلة من نوع من هو صانع الفعل ومن الذي يتلقاه ومن هو المتكلم ومن يخاطب.

يبدأ الكتاب من محاولة تعريف للذات أي من بحث عن الهوية، ليُؤكّد أن اليقينية التي ظن ديكارت أنه قد وضع أسسها الباقية عن طريق الشك المنهجي ليكتشف أنه يفكر حتى حين يرتاب بكل شيء، قدأذلها نيتشه، حين أكّد أنه يفكر أفضل من ديكارت، حين يذهب إلى حد القول إن الكوجيتو نفسه يطوله الشك ويلعب به وهم اللغة ومعرفة جوهر الأشياء، إذ إن الحقيقة هي ضحية لعبة كبيرة لا يملك الإنسان مفتاحها. «فهي كثرة متحركة من الاستعارات والكنايات رُفِعَتْ وعظمت وبدلت وزينت شِعـرياً وبلاغياً فبدت بعد طول استعمال ثابتة صحيحة وملزمة. إن الحقائق هي أوهام مهما نسينا أنها كذلك».

ونيتشـه ليس سوى واحد من ثلاثة فلاسفة كبار أسماهم ريكور فلاسفة الشبهة أو الارتياب، والآخران هما ماركس وفرويد، وكان قد أفرد لهذا الأخير كتاباً كاملاً وعامله كفيلسوف، وسمى في التأويل مقالة حول فرويد وقد صدر عام 1965. ما يجمع الثلاثة هو أنهم أظهروا الوجه الآخر، الوجه الخفيّ للحقيقة المُعلنة ، فكل نقد الأيديولوجيا عند ماركس مثلاً يقوم على كشف القِناع عمّا تُخفيه من بشاعة وأنانية وفضح حقيقتها غير المعلنة. وكذلك فإن فرويد كان قد وجه ضربة شديدة إلى وعي الذات المباشر وأماطَ اللِّثام عن كل الوعي الكاذب الذي يخفي المكبوت من كل الليبدو.

الوعي بالذات

بين بنيوية طاغية قلبت أنا أفكر إلى يُفكَّرُ فيَّ ça pense en moi وفلاسفة ريبة كشفوا قناع الوهم عن وعي الذات المباشر لذاتها كان هذا الكتاب وهو يحمل هم الذات وقناعتها التي لا تبلغ الحقيقة البُرهانية اليقينية التي لا يرقى إليها شك ولا الإلغاء لها ومحوها على أنها مجرّد وهم كبير والتي يسميها المؤلف الإقرار Attestation. ولقد كانت نقطة الانطلاق عنده هي الممارسة الإنسانية، التصرف البشري، العمل هو المعيار الذي يمكن أن يحسم النظر والتنظير والابتعاد عن الواقع.

حين ننظر من الناحية هذه، فإننا سنكتشف عندها الإنسان المقتدر، فهذا الإنسان هو أولاً قادر على أن يتكلم، أي أن وجوده يتضمن هذه المقدرة الأولى بالتواصل مع غيره ، ثم يتجلى وجود الإنسان بمقدرة أخرى هي مقدرة على الحركة والتصرف وهذا البعد يجعل كل فلسفة ريكـور تبتعد عن فلسفة هيدجـر التي تجعل من الانهمام نمط وجود الحقيقة البشرية، ثم هناك قدرة أخرى هي القدرة على سَرد قصة، ومقدرة الذات دوماً بالرغم من مرورها بتغيرات متلاحقة على المحافظة على ما لا يتغيَّر ، ويبقيها في هوية واحدة، والسرد هو الطريقة الأفضل عند الإنسان كي ينظم حياة بأكملها ضمن وحدة متكاملة، غير أن أي سرد لا يحتفظ بالموضوعية فقط بل يمزج الأحداث بالخيال. والواقع أن وضع الأحداث بقالب قصصي يسهل علينا فهم أي فرد واستيعاب مختلف مراحل تطوره. وبالرغم من التحول المستمر الذي يمرّ عبر القصة فإن الشخص يبقى عينه، ونتعرّف عليه على أنه كذلك، فداخل الهوية السردية هناك الهوية الذاتية. غير أن هناك قدرة أخرى تتمتع بها الذات وهي تحمل تبعة عملها الموضوع إما تحت مقولة الجيد والإلزامي ، أي المقدرة على القيام بقبول مسئولية العمل الأخلاقي الذي يستهدف الحياة السعيدة الطيبة مع الآخر ولأجله في مؤسسات عادِلة. مع الآخر القريب هناك الصداقة والرعاية، إما مع الآخر البعيد، أي الغير، فهناك هدف إقامة مؤسّسات تنشر العدالة للجميع، وتعطي لكل فرد الجزء الذي يستحقه. ويصغي إلى هذا البعيد لأنه ليس من عيش بشري إلاّ مع الآخرين.

غير ان الكتاب لا يأخذ كل معناه الفلسفي إلا في الديالكتيك القائم بين ما هو عينه، ما هو ثابت ما هو الهوية، والآخر وعندها يصبح الآخر وجهاً يصرخ في وجهي ويناديني فاكتشف أن التعبير الذات عينها كآخر لا يعني أي مقارنة أو تشبيه بل يعني أنّ ما هو عينه هو عين هذه الذات بما هي آخر، وهنا ينتهي الديالكتيك ليكون الآخر جزءاً مكوّناً من ذاتي عينها.

3- ملاحظات حول ترجمة الذات عينها كآخر: هذا الكتاب ليس فلسفياً محضاً بل يتناول في قسم منه الألسنية، وفي قسم آخر علم النفس بل حتى النقد الأدبي، ومن هنا جاءت بعض الصعوبات التي لم تكن تتناول حقلاً واحداً فقط. والصعوبة الأولى التي تصادف كل ترجمة فلسفية معاصرة هي المحافظة على التراث الفلسفي العربي الحي، فالواقع أن أرسطو الذي عرفه العرب جيداً وكذلك أفلاطون ما زالا يحتلان منزلة خاصة داخل الفلسفة، وما زال الكثير من المفاهيم التي استعملاها سائدة في الفلسفة وتحتفظ بكل نضارتها، ومن هنا كان لا بدّ لكل مُعرِّب للفلسفة الانتباه جيداً إلى هذا التراث الحي والمحافظة عليه واحترامه. إن هذه الأمانة لا تعني نوعاً من التقديس بل إبقاء الجسور مفتوحة مع الماضي.

سمعة سيئة

الفلسفة تحظى بسُمعة سيئة على أنها حقل غامض معقد ومن هنا كان الواجب الأول لكل ترجمة عربية ألا تزيد هذه السمعة، بل تسعى لمحاربتها. الفلسفة قد تكون معقدة غير أنها أمر يهتم بالشأن العام، ومن هنا فإن أي نص فلسفي هو موجه إلى كل مستنير يحبّ أن يعرف بطريقة أفضل ما يحيط به ومشاكل البشر الذين يعيشون معه، ومن هنا، فإن واجب كل ناقل أن يضع الجمل في قالب عربي سهل سلس. هناك اعتقاد سائد خاطىء تماماً يقول: إن كل نصّ عميق هو نص معقد، وإن الفلسفة كلما تعقَّدت صيغها كانت تعبر عن عمق يكاد لا يسبر. إن كل ما هو نتيجة فكر متعمق يجد بالعكس صيغته الأوضح والأسهل. هناك أيضاً عادة سيئة في اللجوء إلى العديد من النسب إلى شتى الكلمات وتحميلها ما لا تحتمل. الفلسفة ليست بهذا الغموض ولا تتقبل الابهام، بل كانت دوماً خطاب كشف عن المُخبأ وعرضًا لما كان تحت السطح.

وكخطاب حرية فإنها تهوى النور والوضوح الذي قد لا يخلو من بعض الصعوبة، إن المحتوى المعرفي لهذا النص الأساسي للفكر الغربي والإنساني في نهاية القرن العشرين كان مطواعاً للدخول في لغة عربية شفافة هي بمنزلة جسر للعبور بين الماضي الحي والحاضر المليء بالتطلع نحو المستقبل.

هناك اعتقاد سائد أن الترجمة تتأرجح بين الأمانة والجمال. وفي حقل الفلسفة علينا التنبه إلى مثل هذا القول, إذ إن البعض يأخذ الكثير من الحرية في تعامله مع النص بحجة أن كل ترجمة هي صياغة جديدة ونوع من التأليف والإبداع. مثل هذا القول فيه الكثير من الصحة، وفي كل ترجمة هناك مجهود إبداعي كبير، غير أن البعض بحجة النص الجميل المقروء بسهولة، يخرج عن المضمون الحقيقي للنص الذي حاول نقله. مع كل النصوص الفلسفية، إن شئنا لها أن تكون أداة تواصل تعكس حقيقة تفكير الآخر لا بدّ من المحافظة على كل غناها مع البقاء بالقرب منها ومتابعتها في شتى تعرّجاتها ، وكلما كنا أمام مفهوم تقني أو أساسي كان لا بد من المحافظة على الأصل كما هو، واللغة العربية تملك قوة رائعة على الاستيعاب مع المحافظة على عبقريتها. فليس المهم فقط تقديم معادلات صحيحة كثيراً أو قليلاً للنص الأصلي الذي نتعامل معه، بل لا بد من المحافظة على أصالته إلى أبعد الحدود، فالمعنى مهم غير أن كل التفاصيل التي تحيط به لا تقل أهمية عنه، ولا بدّ من احترامها ، إن شئنا أن نحترم هذا الغير الذي نقوم بنقل فكره.

إن الاستنباط والابداع والقيام باشتقاقات جديدة أو صياغة أفعال غير مسبوقة أمور مستحبة، وعلى الناقل ألاّ يتردد في اللجوء إليها. لقد صاغ هيدغر فعلاً من كلمة عالم Welt. وتبعه الفرنسيون في ذلك من أجل التعبير عن هذا الشعور بأن العالم هو دوماً يحيط بنا قبل أي تجربة أخرى ولا نستطيع أن نخرج منه، وفي العربية صيغت كلمة عولمة ونجحت غير أنها لا تفي بالمعنى الفلسفي الذي يعبر عنه بطريقة أفضل مع صيغة «تعولم» Mondification, modanéité . وقد شاء ريكـور أن يعبر عن وضع مسافة بين الإنسان وما يحيط به بل ومع ما يعتقد من دون أن يخرج من انتمائه فقال: وقد ترجمناها بكلمة تماسف «Distanciation»

إن كتاب بول ريكور «الذات عينها كآخر» هو خطاب دفاع عن الإنسان وقدرتنا على التصرف والسعي نحو عالم تجعله أقل ظُلمة، وأكثر إشراقًا وانفتاحًا، واللغة العربية في نقلها هذا النثر برهنت أنها لغة قادرة ولسان حالها يقول: «أنا أستطيع أن أنقل كل تراث الإنسانيّة وأن أبقي جسرًا رائعًا بين الشعوب، إلاّ أن اللغة العربيّة تطالبنا باحترام خصوصيتها وعبقريتها, فهي لغة جميلة رشيقة مُرهفة تثور في وجه كلّ ما لا يُماشي رونق الإبداع».

-------------------------------------

هذي سماؤك أنغامٌ وأضواءُ
غنّاك داود أم حيذاك سيناءُ
أم النّبيّون قد أزجت سفئنهم
موعودةً من ليالي النّيلِ قمراء
أم طالعتك من السّحر القديم رؤى
يشدو بهنّ الثّرى والرّيحُ والماءُ
أم جاء طيبة من أربابها نبأٌ
أم أنّ كهّانها بالوحي قد جاءوا
أم سار عمرو بنورِ الفتحِ فائتلقت
به زبرجدة في الشطّ خضراءُ
ماجت خمائل بالبشرى وأدويةٌ
فهن فاكهةٌ تندى وصهباءُ
يا مصرُ، ذلك يومُ الملتقى، وعلى
صباحِه قَدِمَ الرُّسْلُ الأجلاّءُ

 

علي محمود طه

 

 

 

جورج زيناتي