جمال العربية

جمال العربية

تجليات الغربة والكآبة عند الشابي

(لست والله غير طائر غريب يترنّم بين قوم لا يفهمون أغاني الطيور, ولكن هل يحفل الطائر بالوجود حين يترنّم? هل يسأل الناس أيّكم يفهم أغاني الطيور? كلا! يا قلبي! كلا...سرّ في سبيلك يا قلبي ولا تحفل بصفير الأبالسة, فإن وراءك أرواحًا تتبع خطاك).

هذه السطور انتزعتها من بين إفضاءات أدبية ولوحات إبداعية بديعة, تتضمنها المذكرات التي صاغها بعذوبة شعره وكيمياء روحه, وتوهج لغته الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي, فإذا بها كما كشف الباحث والعالم المدقق والمرهف الحسّ الدكتور كمال عمران, صورة مواكبة لشعره في ديوانه (أغاني الحياة), وهي مواكبة على مستوى المعجم الشعري الذي هو معجم الطبيعة التونسية الخلاّبة. ويرقى الدكتور عمران بهذا الكشف إلى القول بأن الشابي كان يعيش حياته بمقامات صوفية لم تتخذ الطريق إلى عالم الملكوت والجبروت, وإنما سلكت إلى الحلول في الطبيعة حلولاً محضًا, فأضحى الشاعر يعيش حياته في ظل الغاب والجمال, عيشًا لم يقتصر على لحظات المكاشفة يقظة ونوما, بل ارتضى لكل لحظات حياته عروجًا إلى الطبيعة أو انثيالاً في رحابها. ثم هي مواكبة على مستوى القطب الدلالي الثاني في عالم الشاعر وهو (الغُرْبة), حيث عزف الشابي على قيثارة الألم, فاتسعت تنويعات شتى من قبيل الغريب والمعاناة واليأس والضباب والوجد, على وتري الألم والأمل, اللذين قدما معزوفة الحسرة والتمزق النفسي, والأحلام والأشواق.

خلاصة هذا كله, أنه في إبداع الشابي نثره كشعره حالات المكاشفة كحالات الحياة العادية, ظواهر تتعدد, بل تتنافر وتتناقض - بلغة الدكتور عمران - لكنها تجد الطريق إلى الوحدة, وحدة في (قلب) الأديب, وقد كان هذا القلب رغم العلة, مرتعًا خصيبًا يحمل دفقًا في الحياة عجيبًا.

لقد أسلم الشابي نفسه إلى عالم الجمال بشكل صوفي أخاذ, هو تحرير للإنسان من الزيف والأباطيل وانطلاق بالروح إلى عوالم بعيدة يستشرفها بعين القلب, ويتأمل في الطريق إليها عديد المعاني والصور, بين العبارة والإشارة, والحقيقة والرمز, والإيحاء والانتماء.

يقول الشابي في قصيدته (الكآبة المجهولة):

أنا كئيبٌ أنا غريبٌ
كآبتي خالفت نظائرها غريبة في عوالم الحَزنِ
كآبتي فكرةٌ مغردةٌ مجهولة من مسامع الزمنِ
لكنني قد سمعت رنّتها بمهجتي في شبابة الثّملِ
سمعتُها, فانصرفتُ مكتئبًا أشدو بحزني, كطائر الجبلِ
سمعتُها أنّةً يُرجّعها صوتُ الليالي ومُهجةُ الأزلِ
سمعتُها صرخةً مُضعضعةً كجدولٍ في مضايق السُّبلِ
سمعتُها رنّةً, يعانقها شوقٌ إلى عالم يُضعْضعها
ضعيفةً مثل أنةٍ صعدتْ من مهجةٍ هدّها توجُّعها
كآبةُ الناس شعلةٌ, ومتى مرّت ليالٍ خَبتْ مع الأمدِ
أمّا اكتئابي فلوعةٌ سكنتْ روحي, وتبقى بها إلى الأبدِ
أنا كئيبٌ أنا غريبٌ
وليس في عالم الكآبة مَنْ يحملُ معشار بعض ما أَجِدُ
كآبتي مُرّةٌ, وإن صَرختْ روحي, فلا يسمعنّها الجسدُ
كآبتي ذات قسوةٍ صهرتْ مشاعري في جهّنم الألمِ
لم يسمع الدهر مثْلَ قسوتها في يقظةٍ قط, لا, ولا حُلُمِ
كآبتي شعلةٌ مُؤجّجة تحت رمادِ الأكوانِ تستعرُ
سيعلم الكون ما حقيقتُها ويطلع الفجرُ يوم تنفجرُ


هذا المزج العضوي بين دوائر الكآبة والغربةَ - بكلّ تجلياتها من ظلال وأحزان وأشواق, ولغة يزدحم معجمها التعبيري والتصويري بأقباس من المعاني والإشارات من مذكراته البديعة, التي أرّخها بالثلاثاء 7 يناير عام 1930, ويقول فيها:

- أشعر الآن أني غريب في هذا الوجود, وأنني ما أزداد يومًا في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورًا بمعاني هاته الغربة الأليمة.

- غربة مَن يطوف مجاهل الأرض, ويجوب أقاصي المجهول, ثم يأتي يتحدث إلى قومه عن رحلاته البعيدة, فلا يجد واحدًا منهم يفهم من لغة نفسه شيئًا.

- غربة الشاعر الذي استيقظ قلبه في أسحار الحياة حينما تضطجع قلوب البشر على أسرّة النوم الناعمة, فإذا جاء الصباح وحدّثهم عن مخاوف الليل وأهوال الظلام, وحدّثهم في أناشيده عن خلجات النجوم وزخرفة الأحلام الراقصة بين التلال, لم يجد مَن يفهم لغة قلبه ولا مَن يفقه أغاني روحه.

- الآن أدركتُ أنني غريب بين أبناء بلادي, وليت شعري هل يأتي ذلك اليوم الذي تعانق فيه أحلامي قلوب البشر, فتُرتل أغانيَّ أرواح الشباب المستيقظ وتدرك حنين قلبي وأشواقه أدمغة مفكّرة سيخلقها المستقبل البعيد.

- أما الآن فقد يئست. إنني طائر غريب بين قوم لا يفهمون كلمة واحدة من لغة نفسه الجميلة, ولا يفقهون صورة واحدة من صور الحياة الكثيرة, التي تتدفق بها موسيقى الوجود في أناشيده, الآن أيقنت أنني بلبل سماوي قذفت به يد الألوهية في جحيم الحياة, فهو يبكي وينتحب بين أنصاب جامدة لا تدرك أشواق روحه, ولا تسمع أنات قلبه الغريب, وتلك هي مأساة قلبي الدامية.

- يقولون: حدثنا عن الحقيقة, وخلّنا من خطرفة الخيال منذ غنيت لهم أناشيدي, ولكن حين وصفت لهم الحياة, لم أصفها لهم من نواحيها القريبة الواضحة, وإنما وصفتُها من نواحيها البعيدة الغامضة المُحجبة بالضباب.

- ويقولون: مالك لا تفكر في شعرك? وإن لك في أسلوبك جمالاً ما نجده عند سواك! وليت شعري ما هو التفكير إن لم أكن مفكرا في أغانيّ!

لست أدري حين يقولون ذلك هل أنا الشاعر المجنون الذي يترنّم منشدًا بين القبور? أم هم الأغبياء الذين لا يفهمون أشواق الحياة?

هذه الآفاق - التي يحلق إليها فكر الشابي وعقله الوثاب, وروحه القلقة, المسكونة بهاجس الكآبة والغربة, محورًا لعالم من التصورات والتجليات والإفضاءات في شعره وفي نثره, في قصائده وفي مذكراته - هي نفسها التي تتردّد في ثنايا قصيدته البديعة (النبي المجهول) حين يقول:

أيها الشعب, ليتني كنتُ حطّابًا فأهوي على الجذوع بفأسي
ليتني كنتُ كالسيول, إذا سالت تهدُّ القبور: رمسًا برمْس
ليتني كنت كالرياح فأطوي كلّ ما يخنق الزهور بنحسي
ليتني كنتُ كالشتاء, أُغشّى كلّ ما أذبل الخريفُ بِقَرسي
ليت لي قوة العواصف يا شعبي فأُلقي إليك ثورة نفسي
ليت لي قوة الأعاصير إن ضجّت فأدعوك للحياة بنبْسي
ليت لي قوة الأعاصير, لكن أنت حيٌّ, يقضي الحياةَ برمسِ
أنت روح غبيّةٌ, تكرهُ النورَ وتقضي الدهور في ليل مَلسِ
أنت لا تُدرك الحقائق, إن طافت حواليك, دون مسٍّ وجَسِّ
في صباح الحياة ضمّخْتُ أكوابي وأترعْتُها بخمرة نفسي
ثم قدمْتُها إليك, فأهرقْتَ رحيقي, ودُسْتَ يا شعبُ كأسي
فتألّمتُ ثم أسكتُّ آلامي وكفكفْتُ من شعوري وحسيّ
ثم نضّدتُ من أزاهير قلبي باقةً لم يمسّها أي إنسي
ثم قدّمتها إليك, فمزّقْتَ ورودي, ودُسْتَها أيّ دوسِ
ثم ألبستني من الحزن ثوبًا وبشوْكِ الجبال توّجتَ رأسي
إنني ذاهب إلى الغاب يا شعبي لأقضّي الحياة, وحدي, بيأسي
إنني ذاهب إلى الغاب, علّي في صميم الغابات أدفنُ بؤسي
ثم أنساك ما استطعْتُ, فما أنت بأهلٍ لخمرتي ولكأسي
سوف أتلو على الطيور أناشيدي وأفضي لها بأشواقِ نفسي
فهي تدري معنى الحياة, وتدري أنّ مجد النفوس يقظةُ حسِّ
ثم أقضي هناك, في ظلمة الليل, وألقي إلى الوجود بيأسي
ثم تحت الصنوْبر الناضر الحلوِ تخطّ السيولُ حُفرةَ رمْسي
وتظلُّ الطيور تلغو على قبري ويشدو النسيمُ فوقي بهمسِ
وتظلّ الفصول تمشي حواليَّ كما كُنّ في غضارة أمسي


وحين نعود إلى مذكرات الشابي - بعد هذا الطواف في جنبات عالمه الشعري من خلال قصيدة (النبيّ المجهول), نجده يصور وحدته وعزلته وكآبته في ليلة من ليالي شهر يناير عام 1930, وتلفحنا الشحنة الشعرية المتوهجة في لغته, وكأننا نطالع بعض شعره في (أغاني الحياة), وهو يقول:

في سكون الليل, هأنا جالس وحدي, في هاته الغرفة الصامتة إلى مكتبي الحزين, أفكر بأيامي الماضية التي كفّنتها الدموع والأحزان, وأستعرض رسوم الحياة الخالية التي تناثرت من شريط لياليّ وأيامي, وذهبت بها صروف الوجود إلى أودية النسيان البعيدة النائية.

أنا جالس وحدي في سكون الليل, أستعرض رسوم الحياة, وأفتكر بأيامي الجميلة الضائعة, وأستثير أرواح الموتى من رموس الدهور.

هأنا أنظر إلى غيابات الماضي, وأحدق بظلمات الأبد الغامض الرهيب.

هأنا أنظر, فأرى صورًا كثيرة تعاقبت على نفسي كغيوم الربيع, وتحركت حواليّ كأنسام الصباح, وتعاقبت حول قلبي كأوراد الجبل, ثم أنظر فإذا رسوم غامضة مضطربة متقلّبة كأمواج البحار وأطفال ملونة كقوس قزح, جميلة كقلب الربيع تمرّ أمامي ثم تختفي, وتتراقص حواليّ ثم تبتعد, ثم تتوارى في أعماق الظلام الدامسة وأرى أحلامًا صغيرة تغرّد كطيور الغابات, وتنمو وتتناثر فتذروها الرياح, ثم تضمحلّ وتتلاشى في سكون المنون.

هأنا أنظر فإذا أصحابي المتوفون يعودون إلى الحياة ثانية كأجلّ وأجمل ما عرفتهم أول مرة وإذا بنفسي تمثل معهم فصول الحياة الغابرة التي مثلناها بالأمس وطوتها الدهور, وتنسى متاعب العيش وأحزان الحياة. وتحسب أنها مازالت تلك النفس التي عرفتها بالأمس مضحاكة فرحة كقبّرة الحقول, وتنسى أنها قد أصبحت غريبة بين أشباح لا يفهمونها, وحيدةً بين الضباب جامدة تحرّكهم بواعث المادة وشهوات الجسد. بعيدة جدًا عن ذلك الملأ السعيد الذي عرفته في عهدها الماضي والذي ضربت بينها وبينه صروف الحياة فاندفع في سبيل الخلو, فظلت ها هنا وحدها, تندبهم وترثيهم.

وفي ختامها يقول:

ثم هأنا أنظر فلا أجد شيئًا مما رأيت. لقد ذهبوا كلهم إلى عالم الموت البعيد, وتفرقوا شيعًا في أودية المنون الصامتة. فما عدت أراهم حتى الأبد في مسالك هذا الوجود. وماعدت ألقاهم حتى الموت في صحراء هذه الحياة. لقد احتجبوا عني حتى الأبد وبقيت وحدي في هذا العالم, أناديهم من وراء الوجود. ولكن عبثًا أدعو, فإنهم بعيدون عني لا يسمعون نداء روحي, ولا صرخات قلبي الغريب. لقد ذهبوا كلهم, وبقيت ها هنا وحدي أنا في وحدتي وانفرادي في سكون الظلام.

وبعد..

هذا هو الشابي في شعره وفي نثره, وفي كل مجلى من مجالي إبداعه, خاصة إذا اتصل الأمر بمحور الكآبة والحزن والغربة, وحلّقت روحه بعيدًا عن الأرض, لتتطهر من أوزار البشر, ولتنغمس في عوالم النور, ومن الشعر والنثر جناحان للتحليق واقتناص جلوات الإبداع.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات