في الذكرى الثانية لوفاته.. نجيب محفوظ نموذج الالتحام بين كاتب ومدينة

في الذكرى الثانية لوفاته.. نجيب محفوظ نموذج الالتحام بين كاتب ومدينة

على الرغم من هذا الكم الهائل من النصوص العربية والأجنبية التي تناولت جوانب مختلفة في شخصية الراحل الكبير نجيب محفوظ فلاتزال جوانب خفية في شخصيته حرية بالمزيد من البحث والتدقيق، وهذا ما يميز الأدباء العالميين الكبار.

سجل لنا تاريخ الآداب العالمية أسماء كتاب لامعين اشتهروا بنظام معيشي يومي دقيق، وسنن حياتية حازمة، ولكنني أعتقد أن السنن الحياتية المحفوظية نادرة، فلم أعرف كاتبا عالميا شهيرا بقي وفيا لأسلوب خططه لحياته وفاء نجيب محفوظ لتقاليده الصارمة طيلة سبعين سنة، ومن هنا فلم يكن نجيب محفوظ كاتبا روائيا عالميا فحسب، بل كانت حياته اليومية رواية رائعة، وقد يفاجئنا بعض الروائيين المصريين ممن تعرفوا عن كثب إلى حياة نجيب محفوظ بنص ممتع مستوح من شخصيته، كما استوحى هو نفسه كثيرا من نصوصه الروائية من حياة أشخاص عاشرهم عن قرب.

كتب النقاد كثيرا عن أسلوب محفوظ الروائي، وعن موضوعات رواياته، وتصويرها للحياة الاجتماعية القاهرية في شتى جوانبها، ولكنني أرى نصوصا سردية جيدة تكتب عن نمط الحياة اليومية للكاتب الكبير تثري نصوصه الإبداعية، وتلقي عليها المزيد من الأضواء الكاشفة، إذ إن العلاقة متينة بين هذا النمط الحياتي وبين النص الإبداعي المحفوظي.

يبدأ نظامه اليومي بالسير مبكرا على ضفاف النيل بالقاهرة، وعلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط بالإسكندرية صيفا، وبارتياد مقاهيه الصباحية التي يقرأ فيها الصحف اليومية، وينتهي مساء بمجالسه الشهيرة التي يلتقي فيها مع «شلة الحرافيش»، ومع بقية «الشلل»الأخرى في مراحل مختلفة من حياته، ولعل أبرز ما تتسم به هذه الرواية الحياتية الصداقة والوفاء، الوفاء للمكان، وللزمان وللإنسان.

تقاليد المقهى

لما تحدث عن دور المقاهي في رواياته قال: إنه دور كبير، فقد استمد كثيرا من شخصياته من المقاهي، ومن جماعة «شلة الحرافيش» بصفة خاصة، والمقهى عنده هو «محور الصداقة».

ولابد من الإلماع في هذا الصدد إلى أن للمقاهي الثقافية تقاليد راسخة في الحياة السياسية والفكرية والفنية القاهرية ابتداء من مقهى «متاتيا»، وقد تحلق فيها عدد من رواد السياسة والفكر الإصلاحي حول جمال الدين الأفغاني إلى المجالس المحفوظية الأخيرة في مقهى «فندق ميناهاوس»، و «فرح بوت» وقد كتبت نصوص متعددة تؤرخ لهذه المقاهي في حياة الأحزاب، والتيارات السياسية والفكرية المختلفة، فقد كتب المؤرخ المصري المعروف عبد الرحمن الرافعي متحدثاً عن مقهى «ريش» قائلا: «إن «ريش» مثل بمفرده عاصمة ثقافية جمعت كل التيارات دون تمييز، كما استوعب معظم مثقفي مصر في فترة الخمسينيات والستينيات»، بل اتخذه زعماء ثورة 1919 مقراً سرياً يجتمعون فيه، ويؤكد عبد الرحمن الرافعي أن صاحب المقهى كان عضوا في خلايا ثورة 1919، وكان من رواد «ريش» الزعيم جمال عبد الناصر، وغنى فيها صالح عبد الحي، وأم كلثوم، والشيخ أبو العلا.

وكتب أحمد عباس صالح عن دور مقاهي القاهرة في الأربعينيات والخمسينيات يقول: «كان المقهى في حياة جيلي من المصريين أساسياً، لم يكن مكانا للتسلية، بل للقاء مع الصحاب من الأدباء، والمفكرين الجدد، وتعددت هذه المقاهي بحيث لا يسهل حصرها، وكان في بعضها شيء من التخصص، فهناك المقهى الذي يضم السياسيين بصفة خاصة، وكانت القاهرة تغلي بالتيارات المختلفة، وكنا نرى زعماء العرب من المشرق والمغرب، وهم في المعارضة، وكانت الخمسينيات بصفة خاصة قمة نشاط حركات التحرر الوطني في المنطقة»، وتعرف في المقاهي على زعماء عرب مشهورين مثل الحبيب بورقيبة، وعلال الفاسي، وفي مرحلة لاحقة على أحمد بن بيلا وهواري بومدين.

ولابد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن هذه المقاهي لم تؤثر في حياة السياسيين والمثقفين المصريين تأثيرها العميق في حياة نجيب محفوظ، وفي نصوصه الإبداعية، وهذا يعود أساساً إلى وفائه للمقهى باعتباره رمزاً للصداقة طوال مراحل متعددة، وهي متنوعة في حياته من المقاهي الشهيرة في أحياء القاهرة الشعبية التي هام بها نجيب محفوظ، وخلدها في نصوصه إلى المقاهي الارستقراطية في فنادق خمسة نجوم، ولم يفارق مقاهيه المحببة إلا عندما أزعجه العسس، وتنصت المخبرين.

ولا يمكن أن نتحدث عن مقاهي نجيب محفوظ دون الإشارة السريعة إلى علاقته الحميمة بمقهى الفيشاوي منذ صباه إلى عهد الشيخوخة، فهو يقع على قاب قوسين أو أدنى من البيت الذي نشأ فيه، وهو معلم بارز من معالم حي الحسين الذي كان له أثر بعيد المدى في حياة نجيب محفوظ، وفي نصوصه الإبداعية. تحدث عن "الفيشاوي" قال : "كان جلوسي بمقهى الفيشاوي يوحي لي بالتفكير، كل نفس شيشة كان يطلع بمنظر. كان خيالي يصبح نشيطا جدا أثناء تدخين الشيشة، كان معظم وقتي أقضيه في الفيشاوي أيام العطلات، المقهى عالم من الأنس، ملتقى الأصحاب".

سهرة في مقهى الفيشاوي

ويروي لصديقه محمد سلماوي علاقته بالفيشاوي في شهر رمضان فيقول: «أما في سني الكبيرة، فقد كانت السهرة بقهوة الفيشاوي مع الأصدقاء لا تدانيها أي متعة أخرى، لقد كنا نذهب بعد الإفطار، ونظل بالفيشاوي حتى السحور لتناول سحورنا هناك، ونعود مشياً على الأقدام إلى العباسية، حيث كنا نسكن عن طريق الجبل، فكان ذلك يحضرني نفسياً للصيام والتأمل في اليوم التالي، فلم يكن هناك في هذه الطريق إلا المقابر والخلاء. في ذلك الوقت لم يكن هناك تليفزيون، ولا فوازير، ولا مسلسلات، وكانت متعتنا في (قهوة الفيشاوي) حيث كان البعض يلقي آخر النكات، والبعض الآخر (يدخلون لبعضهم قافية)، وكل ذلك في جو من الود والصداقة والبهجة والسرور يستمر حتى الصباح».

استعملت قبل قليل مفهوم نجيب محفوظ الرواية في نمط حياته اليومية، وفي مجالسه، وعلاقته الاجتماعية، وأود الإشارة الآن إلى أن هذه الرواية ملتحمة التحاما شديدا برواية أخرى عظيمة ورائعة فهم الكاتب أسرارها، وغاص في أعماقها هي القاهرة الرواية الخالدة خلود نهر النيل فقد ارتوى من نبعها، وعرف عن قرب فئاتها الاجتماعية المتنوعة من الحرافيش إلى الباشوات، ولكن حبه الكبير الذي بقي وفيا له إلى آخر رمق من حياته هو حبه للطبقة الاجتماعية التي ينتسب إليها، الطبقة الوسطى التي صور حياتها، وخلدها في رواياته، وبخاصة في الثلاثية.

إن التحام نجيب محفوظ بمدينته يعد في نظري من أبرز ميزاته مبدعا وإنسانا، وهو ليس التحام الكاتب بالمدينة، بل هو قبل ذلك التحام الإنسان بالمدينة، فكما كان نجيب محفوظ في جل ما كتب وفيا لمدينته كانت القاهرة وفية له، فمن أبوابها دخل إلى العالمية.

إن تأثير نجيب محفوظ في الأدب العربي المعاصر، وخصوصا في الفن السردي تجاوز حدود مصر ليشمل جميع الأقطار العربية مشرقا ومغربا فهو دون ريب إمام الروائيين العرب المعاصرين.

ولا بد من التلميح في هذا الصدد، وأنا أكتب هذا النص بمناسبة احتفال مجلة «العربي» بمرور خمسة وتسعين عاماً على ميلاد الأديب الكبير إلى ما تركه نجيب محفوظ من أثر بعيد المدى في الأدب التونسي المعاصر، وقد تجاوز هذا الأثر عالم الروائيين التونسيين ليبلغ مدارج الجامعة التونسية من تدريس لرواياته، وإعداد رسائل جامعية عن نصوصه الإبداعية، كما كان تأثيره بارزاً في برامج المدارس الثانوية، وألفت كتب عديدة عن رواياته التي تقرر تدريسها ضمن هذه البرامج.

وحرص المثقفون التونسيون على الالتقاء به في مجالسه كلما سنحت الفرصة بزيارة القاهرة، فقد التقيت به مرة واحدة بمقهى «كازينو قصر النيل» فرأيت رجلا متواضعا تحلق حوله عدد من الأدباء الشبان للإفادة من تجاربه وملاحظته، وكان صموتا، قليل الكلام، وإذا سئل أجاب باقتضاب.

وحضر مجلسه مرات عديدة الأديب التونسي رشيد الذوادي، وأصدر كتابا قبل سنتين بعنوان «مقاهي نجيب محفوظ في مرفأ الذاكرة»، وأجرى معه الأديب التونسي أبو زيان السعدي حواراً مطولاً في كازينو كليوبترا نشره في مجلة «الدستور» بلندن عام 1984، وأعاد نشره في «الحرية» بتونس غداة وفاة الأديب الكبير تناول فيه تجربته الروائية، ومعرفته بالأدب التونسي، وموقفه من النقاد، وعلاقته بحزب الوفد، وموقفه من التجربة الناصرية، وتجاوز تأثير نجيب محفوظ النخبة المثقفة ليبلغ شرائح اجتماعية أوسع عن طريق رواياته التي تحولت إلى أفلام سينمائية، أو إلى مسلسلات تلفزيونية.

محفوظ والسياسة

لا يمكن أن أنهي هذا النص دون الإشارة السريعة إلى علاقة نجيب محفوظ بالسياسة، وقد اتخذ منها مواقف مؤيدة، وأخرى رافضة في نصوصه الروائية، ويبدو أن الكاتب عبر أساسا عن مواقفه السياسية بأسلوب روائي، فلم يعرف عنه أنه انخرط في العمل السياسي اليومي، كما كان الأمر بالنسبة لعدد كبير من المثقفين المصريين المعاصرين له، فلم يحلم يوما ما بالسلطة، فسعى إلى سلطة المعرفة عن طريق الأدب «أنا مش بتاع سلطة»، فلم تكن السلطة في يوم من الأيام هدفي ومأربي وذلك لسبب بسيط هو أنني ما كنت أستطيع الجمع بين السلطة والأدب». تأثر بثورة 1919، وأحب زعيمها سعد زغلول، فقد كتب يقول: «أعتبر نفسي من براعم ثورة سنة 1919، فإذا كان للثورة رجالها الذين قادوها، وشبابها الذين اشتركوا فيها، فأنا من البراعم التي تفتحت وسط لهيب الثورة، وفي سنوات اشتعالها، ولم يكن عمري حين قامت ثورة 19 يزيد على سبع سنوات»، فلا غرابة أن يصبح وفديا بعد ذلك، وهو يرى أن أفكار مصطفى كامل، ومحمد فريد التي قام على أساسها الحزب الوطني هي التي مهدت لثورة 1919، فخطب مصطفى كامل، وشعاراته مثل «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء»، ومبادئه التي سار عليها محمد فريد كانت هي وقود الثورة، ويقول عن موقفه من النظام الملكي: « لا بد أن أعترف أنني لم أكن مخلصا للنظام الملكي، ولم أكن أطيقه، حتى أنني عندما كتبت رواياتي الأولى خاصة «عبث الأقدار»، و «رادوبيس»، تطورت الأحداث في الروايتين للتعبير عن هذا الرأي وتأكيده. كان ضمن أحداث الروايتين ملكان يخونان شعبيهما، فيكون مصيرهما العزل، ونحن كأبناء لثورة 1919، وحزب الوفد، تربينا على كراهية النظام الملكي»، فلا غرابة أن يتحمس بعد ذلك لثورة 23 يوليو التي أسقطت النظام الملكي، وتبنت في مرحلة لاحقة «تجربة اشتراكية»، ولكن سرعان ما خاب أمله فاتخذ منها موقفاً نقديا، «فنحن في مصر تحمسنا لنظام عبد الناصر على أساس أنه النظام الاشتراكي الذي سيحقق لنا العدالة التي نحلم بها، ثم اتضح أن التركيبة لم تنجح، وأن العدل يمكن تحقيقه في ظل نظام ديمقراطي». إنه من المعروف أن السلطة الاستبدادية لا تقبل المواقف النقدية، وإن صدرت عن كبار الكتاب، وجاءت حذرة ومسالمة كما كانت مواقف نجيب محفوظ، ولذا لقي نجيب محفوظ وأسرته عنتا شديدا من السلطة في المرحلة الناصرية فراقبه عسس النظام، وأزعجوا زوجته في الشارع، وبلغته رواية تقول إن سيارة محملة بمجموعة من العسكر، ومعهم ضابط برتبة كبيرة ذهبت إلى اعتقاله في بيته، وقبل أن تصل إلى بيته جاءها أمر بالعودة، وعدم إكمال المهمة، واتضح أن الذي أنقذه كل مرة من عسف الأجهزة الأمنية هو تدخل عبد الناصر شخصيا، ولم يكن نجيب محفوظ في حقيقة الأمر معارضا لثورة يوليو، بل نقد غياب الديمقراطية في نظامها، مذكرا أن الديمقراطية هي المبدأ السادس من مبادئ الثورة، وقد أعلنت الثورة أنها تسعى لتحقيقه، ولكن البون شاسع بين الشعارات والممارسة في الخطاب السياسي للنظم الاستبدادية.

------------------------------------

لوجهك هذا الكون يا حسن كلّه
وجوهٌ يفيضُ البشرُ من قسماتها
وتستعرض الدّنيا غريبَ فنونها
وتعربُ عن نجواك شتّى لغاتها
ولولاكَ ما جاش الدّجى بهمومها
ولا افترَّ ثغرُ الصّبح عن بسماتها
ولا سعدتْ بالوهمِ في عالمِ المنى
و لا شقيت بالحبِّ بين لداتِها
ولا حبت الفنّانَ آيات فنّه
ولا رُزِق الإبداعُ من نفحاتِها

علي محمود طه

 

 

الحبيب الجنحاني