الاكتشاف المبكر للشرق

الاكتشاف المبكر للشرق

قبل أربعين عامًا، مضيت إلى ربى الجيزة الحاليات لدراسة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. روعني ـ ما أكثر ما روعنا في تلك الأيام! ـ أن مناهج بيركلي، التي كنا ندرس وفقا لها، كانت ترى في التاريخ موتى يدفنون موتى، في الفلسفة ممارسة ذهنية عقيم، وفي الأدب محض شقشقة لسان.

شكوت إلى المغفور له بإذن الله الدكاترة حامد عبدالله ربيع سوء استيعابي، فأرشدني إلى ترك الاكتفاء بالتخصص الدقيق وحده، وقال إن العلم معرفة ارتفعت إلى درجة من الضبط والدقة، فغدت قانوناً أو ما يشبه القانون، وإنه لابد له من معرفة شاملة، بمعنى الإحاطة والإلمام، حتى لا تغيب عني الصورة الكلية، التي هي الهدف والمقصد، وإن المضي إلى مكتبة جامعة القاهرة قد يكون أحد المداخل إلى ما أنشد.

في مكتبة جامعة القاهرة صادفت، من بين أمور عديدة أخرى، ذلك النهر من الكتب، الذي أهداه الأمير محمد علي باشا إلى طلاب الجامعة، ومن بينها كتبه، التي لفت نظري فيها كتبه عن الرحلات اليابانية والشامية والأمريكية.

أتوقف هنا عند الكتاب الأول «الرحلة اليابانية» الذي تسجل صفحاته الرحلة التي قام بها الأمير الباشا إلى الأرخبيل الياباني عام 1909، أي بعد ثلاث سنوات من انتصار اليابان على الإمبراطورية الروسية، ومن الرحلة الرائدة لليابان التي قام بها الشيخ علي أحمد الجرجاوي، صاحب مجلة «الإرشاد» ورئيس تحريرها.

في اعتقادي أن تحليل هذا الكتاب الرائع يستحق كتاباً كاملاً، ولذا فإنني سأقصر اهتمامي هنا على ست صفحات وستة أسطر لا غيرها، هي التي يتناول فيها المؤلف رحلته إلى كيوتو.

حتى في هذا الإطار فإن ما يقوله الأمير الباشا جدير بالتوقف عنده وتأمله طويلاً، فالرحالة الكبير الذي قطع في هذه الرحلة في غضون شهرين ونصف الشهر مسافة لا تقل عن خمسة وعشرين ألف كيلو متر، يصدر عن خبرة كبيرة بالناس وبالأماكن، ومن ثم فإن ما يقدمه لنا خلاصة رأي خبير، ضرب في الدنيا طويلاً وعميقاً. وليس من قبيل الصدفة ما يقوله عنه خير الدين الزركلي في كتابه «الأعلام» من أنه: «كان يكتب مذكرات موجزة عن مشاهداته في رحلاته، ثم يعهد بها إلى بعض الكتاب فيصوغونها ويضيفون إليها ما يتصل بها من مقتبسات ومترجمات».

فلنكتف، إذن، بعشر ملاحظات، هي أقرب إلى لمحات من يابان الأمس، نراها عبر عيني الأمير الباشا، ومن خلال «مذكراته» التي لا تنقصها الدقة ولا النفاذ واللماحية:

أولاً - فلسفة الترحال: يقدم لنا الأمير الباشا رؤيته لفلسفة الترحال في آخر موضع نتوقعه من كتابه، وعلى وجه التحديد في الأسطر الأخيرة من ملحق كتابه حيث يقول عن جوهر ما حققه في رحلته الهائلة تلك: «علمنا ما لم نكن نعلم من أحوال تلك البلاد وما أودعه الله فيها من أسرار الكائنات وغرائب الموجودات بحوله وقوته وتوفيقه ومعونته».

إذا عدنا إلى بداية نص الرحلة، بعد البسملة والحمد مباشرة، فإننا نلاحظ أن الأمير الباشا يتبنى في تأصيله لمفهوم الترحال الرؤية ذاتها التي صدر عنها الرحالة المسلمون العرب العظام، والتي تصدر عن رؤية المسلم للعالم باعتباره الساحة التي استخلف الله فيها عباده، وأن من واجبهم أن يضربوا فيها، حاملين دينهم وحضارتهم، في صورة رسالة بالمعنى الذي حدثنا عنه هيجل، وهو في حديث من هذه الأرض الروحية والأخلاقية العالية، يغيب عنه أنه مضى إلى اليابان ليدرس سر تقدمها وتطورها وتمكنها من الحديث مع أمم الغرب على قدم المساواة وإلحاقها الهزيمة بجيوش الإمبراطوريتين الصينية والروسية، وربما نسي أنه قبل سنوات قلائل فإن اليابان كانت تبحث عن أسرار النهضة والتنمية والتقدم، وأن دراستها للنموذج المصري هي على وجه الدقة التي جعلتها تحجم عن اللجوء إلى الاقتراض من الأسواق المالية الدولية كسبيل لتمويل الدفعة القوية لجهودها التنموية.

لن يغيب عن بصر الأمير ولا بصيرته إمكان أن يضرب الإسلام جذوره قوية في اليابان، لو حظيت ببعثات إسلامية تشق الطريق إليها من الصين أو الهند، لكنه لن يركز على ذلك طويلاً، وإنما سيفصل القول في هدفه الحقيقي، وهو رصد ما بلغته اليابان من تقدم في الإدارة والصناعة والتنظيم، وما قصرت فيه، ومنه على سبيل المثال العجز عن التصدي لمعالجة بعض الأمراض وعدم مد الجسور إلى الزوار والسياح وغير ذلك.

ثانيًا - تاريخ كيوتو: في أربعة أسطر يحقق الأمير لمحة سريعة يختزل عبرها تاريخ كيوتو: «ومدينة كيوتو هي العاصمة القديمة لهذه البلاد، وهي محاطة بجملة بساتين ورياض وجبال وأنهار، وبقيت عاصمة لغاية سنة 1869 ثم خلفتها مدينة توكيو وصارت قاعدة للبلاد اليابانية من ذلك الوقت إلى الآن. وعرض مدينة كيوتو ثلاثة أميال ونصف الميل وطولها خمسة أميال».

ومن المحقق أن عام 1896 كان محطة مهمة في تاريخ كيوتو، هذا التاريخ الذي بدأ في عام 794 عندما أعلن الإمبراطور كامو موقعها «حصنًا طبيعيًا»، وذلك في إشارة إلى مجموعة المتطلبات الصينية التقليدية، التي كان لابد من توافرها لكي يتم تحويل مكان ما إلى عاصمة دائمة، وفي مقدمتها وجود ثلاثة جبال تقع إلى الشرق والغرب والشمال منها، ووجود نهرين إلى الشرق وبحيرة كبرى إلى الجنوب ترمز إلى السلطة المركزية، وهي السمات التي وجدت أو تم إيجادها في كيوتو لتصبح عاصمة لليابان، على مدى أكثر من ألف عام أو يزيد.

غير أن كيوتو ليست مقرًا للبلاط ولا مدينة تجارية فحسب، وإنما هي حسناء مشرقية، ترقى إلى مستوى المدن الكنوز، حيث تلتقي فيها عناصر الجذب من طبيعة سخية وتقاليد عريقة ومنتجات تقليدية، فضلاً عن ألفي معبد ومزار ودير و37 جامعة ومعهدًا للتعليم العالي و24 متحفاً، وهي تحتوي على 202 كنز وطني أي حوالي 20% من الكنوز الوطنية اليابانية، كما تضم 1684 مقتنى ثقافيًا مهمًا، أي 15% من إجمال المقتنيات الثقافية اليابانية المهمة.

ثالثًا - كيوميزوديرا: من المحقق أن الأمير الباشا قد استعان بخدمات كوك أو بأدلاء محليين في كيوتو، فهو يبدأ جولاته فيها من حيث ينبغي البدء على وجه الدقة، أي بزيارة معبد كيوميزو ديرا، أو معبد الماء الصافي. حقاً إنه لا يذكره بالاسم، لكن أوصافه تدل عليه، وبصفة خاصة صعود الجبل والإطلال على المدينة، والطريق الأخرى المفضية إليه، التي تحفل بالدكاكين العامرة بالكثير من الأشياء القديمة، ذات الأسعار الباهظة. والمرء لا يملك إلا أن يقدر للأمير حرصه على زيارة هذا الكنز من كنوز اليابان، الذي يتألف الآن من سبع قاعات متواضعة، وباجودا ثلاثي الطوابق، ومبان صغيرة عدة، غير أن القاعة الرئيسية تظل أبعد ما تكون عن التواضع، فهي إحدى أروع البنايات المطلة على أفق كيوتو على الإطلاق، وهي تنفتح على شرفة هائلة شيدت على جرف صخري مطل على حدائق المعبد، والشرفة مقامة من كتل أخشاب متداخلة عمرها ألف عام لم يستخدم فيها مسمار واحد.

ولطالما تساءلت عما إذا كان الأمير قد دخل القاعة الرئيسية للمعبد، فهو لا يأتي على ذكر شيء من ذلك على الإطلاق، ولست أحسب أنه قد دخلها، فمعابد البوذية الماهايانية، شأن كيوميزو ديرا، لا يسهل دخولها، خلافاً لمعابد البوذية الثيرفادية التقليدية، على نحو ما نجدها في تايلاند وكمبوديا وغيرهما من أرجاء آسيا.

وفي كيوميزوديرا تقبع كانون ذات الوجوه الأحد عشر والأيادي الألف التي كرس المعبد لها، والذين استمعوا بحب وتعاطف إلى المغفور له بإذن الله المهندس حسن فتحي لابد أن يتذكروا حديثه عن انفتاح مسجد السلطان حسن على الداخل النوراني عبر التفاف بارع يعقب المدخل، بينما هنا في كيوميزو ديرا يفضي بنا المعماري في القاعة من نور الشرفة الباهر إلى ظلمة فوقها ظلمة، تدخل الرهبة في النفوس والوحشة في القلوب.

أياً كان ما صنعه الأمير الباشا فإنه، بالتأكيد، لن يصدمنا، على نحو ما فعله بعض أعضاء وفد عربي انسلوا من الفريق الذي مضى لزيارة كيوميزوديرا ليزوروا مطعماً للوجبات الأمريكية السريعة عند سفح الجبل. ولله في خلقه شئون!

رابعاً - كينكاكوجي: يشير الرحالة الكبير كذلك إلى أنه زار معلماً من أبرز معالم كيوتو أيضًا، وهو كينكاكوجي، أي المعبد الذهبي، حيث يقول: «زرنا أيضًا السراي المسماة سراي الذهب، وذلك لكون سقفها كلها مطلية بماء الذهب وحيطان حجراتها أيضًا وشكلها ونظامها كسائر البيوت اليابانية موضوعة في وسط بستان لطيف، وأمامها بركة صغيرة صناعية، وبها كثير من النباتات المائية اللطيفة، وسمك أحمر حسن اللون والشكل يظهر على قدم المدة وطول المكث».

ومن حق الرحالة الكبير علينا أن نحسده، فهو قد شاهد المعبد الذهبي الأصلي العريق، الذي أنشأه الشوجون يوشيمتسو، وأمر بتحويله إلى معبد بعد وفاته، بينما ما نشاهده نحن ليس إلا نسخة حديثة، حيث احترق المعبد على يد أحد الكهنة المتدربين، في حادث خلده الروائي يوكيو مشيما في رواية شهيرة.

ونظرة واحدة على المعبد تؤكد لنا طابعه الرمزي، فالأعمدة ترفع البناء نفسه عن مستوى البحيرة، وتشير إلى أن المكان الصحيح للعبادة هو بين السماء والأرض، كما أنه شيد ليتوافق مع أوصاف ما يعرف في التقاليد الماها يانية بـ «الفردوس الغربي»، وليجسد التناغم الذي لابد من وجوده بين السماء والأرض.

تأمل دقة الملاحظة التي يبديها الرحالة الكبير، والتي يرصد من خلالها وجود الأسماك في البحيرة المحيطة بالمعبد والنباتات المائية اللطيفة. لكني أحسب أنه غاب عنه أن يشير إلى أشجار البونساي الصغيرة الدقيقة في الحديقة، التي يبلغ عمر بعضها ما يزيد على ثمانمائة عام، والتي يقوم فريق من محترفي البستنة برعايتها بصورة يومية، في مشهد لا يمكن إلا أن يستقطب اهتمام زائر المعبد.

خامسًا - منحدرات هوزو: يستغرق محمد علي باشا صفحة ونصف الصفحة من الصفحات الست، التي يتناول فيها الحديث عن زيارته لكيوتو، في وصف زيارته لمنحدرات هوزو، الأمر الذي يوضح عشقه للطبيعة وعدم تردده في ركوب المخاطر للوصول إلى الأماكن التي يتوسم فيها الجدارة بالزيارة. وهذه المنحدرات موجودة في نهر هوزوجاوا بمقاطعة كيوتو في وسط هونشو. وهذا النهر جزء من نهر اطول ينبع من جبال تامبا ويتدفق إلى نهر يودوجاوا في حوض كيوتو. وهوزوجاوا هو ذلك الجزء من النهر الواقع بين كاميوكا وأراشياما. والمناطق العليا الواقعة فوق كاميوكا يقال لها أويجاوا، أما الأجزاء السفلى الممتدة من أراشياما فيقال لها كاتسوجاوا بطول اثني عشر كيلو متراً.

ويبين من تناول هذا الجزء من رحلة الأمير تركيزه على أحد الانتقادات التي يوجهها إلى اليابانيين، والتي تتمثل في خشونة تعاملهم مع الأجانب وعدم تلطفهم في التعامل مع الزوار والسياح خلافا للعديد من شعوب آسيا.

المدهش حقًا أن هذه الملاحظة لاتزال في موضعها حتى اليوم، على الأقل في منطقة كيوتو الكبرى، فهي تحظى بمليون سائح سنويًا، ومن ثم فإن المزيد من السياح ليسوا ــ بالضبط ــ موضع ترحيب، وخصوصًا إذا كانوا من الأجانب الذين لاتعنيهم القيمة الروحية والثقافية للمدينة.

سادسًا - التسوق في كيوتو مرة أخرى يعود الرحالة المخضرم ليقدم لنا لمحة بارزة من ملامح خبرته، فهو في جولته في بعض دكاكين كيوتو الكبار يشير إلى أنه وجد معرضًا به أشياء كثيرة، ويلاحظ أن أعظمها ما هو آت من بلاد الصين، والذي يصفه بأنه «حسن في الرسم، دقيق في الصنعة». ويمضي إلى القول إنه ذهب إلى بعض الدكاكين لشراء مراوح يابانية، فوجد أن المراوح المشغولة بأوربا على اسم يابانية أحسن من هذه في الوضع، وأتقن منها في الصنع، على حد تعبيره.

ما يقوله الأمير الباشا جدير بالانتباه حقًا، فأنت إذا لم تنتبه خلال تجوالك اليوم في كيوتو، فسوف تجد نفسك وقد اشتريت، في معقل الفنون والإبداعات التقليدية اليابانية، منتجات مستوردة من تايوان أو من ماليزيا أو من هونج كونج.

لكن ذلك لا يعني أن تمضي خاوي الوفاض من كيوتو، فأنت هناك تجد نفسك على موعد مع خزف كيوتو الشهير المعروف باسم «كيو ــ ياكي» وهو ينتج فيها وحولها، باستثناء خزف راكو، وفي بعض الأحيان يقال له «كيوميزو ــ ياكي» نسبة إلى أفران منطقة كيوميزو، التي تضم المعبد الشهير في كيوتو.

ويعكس خزف كيوتو، بصفة عامة، مستوى رفيعاً من الحرفية والزخرفة، بما في ذلك الزخرفة المزججة المطلية بالمينا، ويبدو أن الخزف المطلي بالمينا والمزجج ذا الألوان الثلاثية قد تم ابداعه في كيوتو في القرن الثامن والخزف المونوكرومي في الفترة من القرن التاسع إلى القرن الحادي عشر. والخزف التالي الذي عرف أنه تم إنتاجه في كيوتو هو أوشيكوجي في القرن السادس عشر، وربما تم إحراقه وتلوينه في درجات حرارة منخفضة.

وتشتهر كيوتو بإنتاجها من التحف والمنتجات اليدوية والأسلحة التقليدية، والحلي وأنواع الحرير والأطعمة على اختلاف أنواعها، وتغلب عليها اليوم الأسعار الباهظة، فقد تصل تكلفة وجبة عشاء في أحد المطاعم إلى أكثر من ألف دولار، وقد تتراوح أسعار السترة أو البنطلون ما بين ألف دولار إلى خمسمائة دولار.

لكن ذلك لا يعني أن كيوتو مدينة للأثرياء وحدهم، فهناك أماكن تقل فيها الأسعار كثيرًا، بما في ذلك مواسم التخفيضات الهائلة.

سابعًا - حدائق كيوتو: يلفت نظرنا حرص الأمير الباشا على التوجه لمشاهدة حديقة حيوان كيوتو، حيث يشير إلى أن الحيوانات بها ليست كثيرة كالحيوانات الموجودة في بساتين الحيوانات بأوربا، وهو يستنتج من ذلك أن حديقة حيوانات كيوتو حديثة العهد، خلافًا لنظيراتها في أوربا.

الواقع أن هذه الالتفاتة من الأمير لا يمكن إلا أن تثير دهشتنا، فهو يمضي إلى حديقة حيوان كيوتو، تاركاً ـــ بالضبط ــ ما اشتهرت به المدينة في أرجاء الدنيا بأسرها، أي حدائقها، وقد سبق أن رأينا روعة الحدائق المذهلة في كيوميزا ديرا وكينكاكوجي. وقد كان حريًا بنا أن نتوقع أن يمضي الأمير بدلاً من ذلك لرؤية حديقة دايتوكوجي الصخرية، بتأكيدها المميز على النزعة الرمزية، وفقًا لمفاهيم الزمن. فالصخور تمثل الجبال والرمل يمثل الماء، والحديقة بأسرها تمثل الوجود.

ثامنًا - رموز الانتصار على الإمبراطورية الروسية يشير محمد علي إلى إن مشاهدته للمدافع المأخوذة من «الموسكوف» قد تعددت، حيث إنها منتشرة في اليابان على امتداد البساتين والمعابد.

وهو يبرر هذا الانتشار الكبير لرموز انتصار اليابان على الإمبراطورية الروسية بأنه يأتي تشجيعاً للأمة، وتربية للشبان لتعودهم من نشأتهم على الوطنية.

غير أن زائر كيوتو اليوم لن يقدر له أن يجد أثرًا واحدًا لهذه الرموز في أي مكان منها، وهو أمر لا يصعب تفسيره، فهي إما أنها صهرت وأعيد استخدامها، في إطار التصنيع الياباني الهائل للأسلحة قبيل حرب الهادي وخلالها، وإما أن سلطات الاحتلال الأمريكية عمدت إلى إزالتها، تنحية لما يرتبط بها من رموز ومفاهيم تتعلق بالنزعة الوطنية اليابانية.

تاسعًا - ملامح النهضة اليابانية: يحرص الرحالة الكبير على تقصي مظاهر وأسباب النهضة اليابانية، مع محاولة سبر أغوار أسبابها ومبرراتها ومقارنتها بما هو حادث في البلاد الأخرى.

وهو يشير إلى عناصر التنظيم والروح الوطنية وحب العمل والدأب عليه والحرص على النظافة ومراعاة الجوانب الصحية، حيث من النادر رؤية إنسان فاقد البصر أو شخص معقد.

غير أنه يلاحظ انتشار الأمراض الجلدية في صفوف أبناء كيوتو، وخصوصًا القراع.

عاشرًا - البيع في المعابد: يلاحظ الأمير أن المعابد في كيوتو تعمد إلى بيع العديد من الأشياء المهداة لها إذا احتاجت للسيولة لاجراء إصلاحات أو ترميمات فيها. حيث إن ما يهدى إليها يستخدم كعناصر في متاحف تابعة لها، ولدى الاحتياج إلى السيولة فإنها تعرض للبيع، حيث توضع لأجل رؤيتها في بيوت بعض الأغنياء قبل أن تباع بالمزاد، ويتاح لمن يشاء التفرج عليها.

ويشير الأمير إلى أنه قد شاهد ضمن هذه المعروضات ملفات ورق قديم فيها بعض أشياء تاريخية أو دينية أو غير ذلك، لم ير فيها ما يهمه، فضلاً عن كتب وصور تنسب إلى أعظم المصورين القدماء عندهم، فضلاً عن أدوات نحاسية أو خشبية.

ويلفت انتباهه من ذلك كله صينية كبيرة من مادة شفافة، يصفها بأنها في غاية الجمال، ويقول إنه رغب في شرائها، لكنه أحجم عن ذلك، عندما علم بأنها معرضة للكسر لدى سقوطها.

والواقع أننا نرى ظاهرة البيع هذه اليوم في شكل آخر، فليست هناك مزادات كالتي يحدثنا عنها الأمير الباشا، وإنما هناك ما يعرف شعبيًا بــ «أسواق البراغيث» التابعة للمعابد، كما هي الحال في السوق التابع لمعبد توجي، حيث تباع الكثير من الأشياء، ومنها الأدوات اليابانية، الأطعمة، والأنتيكات والأسلحة التقليدية، وغير ذلك كثير.

غير أن اسم «أسواق البراغيث» ينبغي ألا يضلل أحدًا، ويوحي له بأن البضائع التي تباع في هذه الأسواق رخيصة، أو مبتذلة، أو قليلة القيمة، فقد رأيت أحد عشاق الأسلحة التقليدية يدفع ستة وثلاثين ألف دولار لقاء سيف ساموراي تقليدي، لم يبد لي من السيوف الأثرية القديمة التي تحتاج إلى ترخيص وإجراءات قانونية معقدة قبل إخراجها من اليابان، حيث يوجد قانون صارم يحظر إخراج القطع الفنية والأثرية الفريدة من الأرخبيل تحت طائلة السجن والغرامة الباهظة.

وفي هذه الأسواق قد تجد أشياء لا تخطر لك على بال، فقطع «النتسومي» الفنية الفريدة، قد يباع الواحد منها الذي لا يتجاوز ارتفاعه عدة سنتيمترات بأكثر من ألف دولار، وإذا اشتريته فقد تستطيع أن تبيعه في المكان المناسب ولمن يعرفون قيمته بضعف هذا المبلغ بعد أشهر قلائل.

ومن أبرز المنتجات التقليدية التي يحرص زوار كيوتو على شرائها عرائس كيوتو أو دماها الشهيرة، التي تصنع باستخدام الخشب والذرور والصمغ.

وقلما يغادر كيوتو أحد زوارها من دون شراء حرير يوزين الذي يستخدم في صنع الكيمونو التقليدي، وهناك أيضًا حرير نيشيجين التقليدي، الذي تشير تصميماته إلى فصول السنة المختلفة.

أخيرًا، فإن «الرحلة اليابانية» تتوج فوائدها العديدة للقارئ العربي بأن تفتح أمامه المجال للتساؤل القاسي والموضوعي والذي يستدعي محاولة تقديم الإجابات الدقيقة عنه: إذا كان محمد علي قد سبق الإمبراطور ميجي في التوجه إلى إيطاليا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا للاستفادة من تجارب التحديث فيها بما لا يقل عن ربع قرن من الزمان، فلماذا تتجه الفوارق بين جهود التحديث اليابانية والعربية إلى المزيد من الاتساع والتعمق؟ لماذا يواصل هذا الأرخبيل تقدمه ونتابع نحن العرب تراجعنا؟ هل هناك منعطف يمكن أن نتوقف عنده لنقول إننا قد أجمعنا تحت مظلة إرادة سياسية كتلك التي قدمها الإمبراطور ميجي على أنه الآن وهنا سنبدأ مسيرتنا إلى الأمام وليس نحو المزيد من الانكسار؟

من يدري، لعل الأوان قد آن، أخيراً، لكي نبلغ نحن العرب هذا المنعطف الصعب.

-----------------------------------

بعد خمس جئتني يا ذكرياتي
والأماني بين موت وحياة
بعد خمسٍ يا لها في السّنوات
حملت كلّ ذنوب الكائنات
صاح فيها زُحَلٌ بالظّلمات
فطوت نجمي وسدّت طرقاتي
ورمت شملي ببينٍ وشتاتُ
والصّبا نشوانٌ والحبّ مؤاتي
أرجعي لي بعض أحلامي، وهاتي
صفو أنغامي، وردّي صدحاتي

علي محمود طه

 

 

كامل يوسف حسين 





كيوتو العاصمة القديمة والتقليدية لليابان





ساهمت الجبال التي تحيط بكيوتو في اختيارها كعاصمة





معبد الماء الصافي الذي يعد أحد كنوز التراث الياباني





البيع داخل المعابد أحد التقاليد اليابانية التي أثارت انتباه الرحالة