إلي أن نلتقي

إلى أن نلتقي

شرعة المترجم

كلنا يمتدح ترجمة ابن المقفع لحكايات كليلة ودمنة ولكن إلامَ يعود هذا الإعجاب, أإلى أمانة ابن المقفع للأصل أم إلى مهارته في تكييف النص مع مقتضيات السياسة والتعبير العربي? لم يراجع أحد أصل الكتاب بل نظر الجميع في النص أمامهم فأعجبهم, فمدحوا مترجمه لجهلهم بالمؤلف الغريب. واليوم, بعد ثلاثة عشر قرنًا على ابن المقفع, لم يتبدل شيء في الجوهر.

هذا التجاهل لفعل الترجمة يثير أسئلة كثيرة سأكتفي بواحد: ما حال مترجمي الأدب والفكر والعلم, أي ناقلي الحضارة, ما صفتُهم ومكانتهم, ما شروط عملهم وحقوقهم? إن المشكلة السياسية للترجمة تكمن في غياب التوصيف الرسمي للمترجم.

غياب هذا التوصيف قد يعني أن الترجمة لا تتطلب شروطًا محددة لا في الناقل ولا في المنقول ولا في فعل النقل. وأن كلّ خلل في الترجمة لابد أن يعود إلى ضعف في خبرة المترجم أو في استيعابه أو في ملكته اللغوية. وهكذا يمكن القول إننا لا نعترف بوجود المترجم إلا إذا أخفق أو فشل. ولكن من المسئول عن إخفاق المترجم إذا أخفق? ألسنا نحن من نتنكر لوجوده ولعمله, ونهمل إعداده, ونقصر في حمايته من ضغوط الناشر والمراجع والمصحّح الراغبين - باسم مراعاة ذوق القارئ - بتبسيط الجمل وتقريب الصور والأخذ بالتعابير المألوفة التي تجمّد اللغة وتسطّح الذوق?

التوصيف الرسمي الذي نطالب به للمترجم يعني أن الكفاية اللغوية ليست سوى واحدة من كفايات خمس لا يكون المترجم مترجمًا من دونها, وهي: الكفاية اللغوية, والنقلية, والمنهجية, والتخصصية, والتقنية. وهذه الكفايات الخمس لا تجتمع في أي تخصص آخر, لهذا تصلح أن تكون المدخل العلمي لتوصيف المترجم.

التوصيف الرسمي الذي نطالب به للمترجم يجعل منه مبدعًا يبحث عن المجد الشخصي من خلال جودة الترجمة وسعة الثقافة التي يرفد بها عمله. ولكن الإبداع يحتاج منا إلى حماية قانونية تستند إلى (شرعة المترجم) التي تبين واجباته وحقوقه. والإبداع يتطلب من المترجم الترفّع عن الحرفية والسطحية, والتملّي من النص ومحاورته, فيقرأ النص بعينيه وقلبه وعقله ثم يصوغه صياغة الكاتب الفنان. كلنا يعرف أن ترجمة بودلير لحكايات إدغار بو أرقى من أصلها, وأن أسلوب فؤاد كنعان في ترجمة رواية أوجيني غرانديه أجمل من أسلوب بلزاك صاحبها, والقائمة ليست بقصيرة. فهل نحن نرغب حقًا بالإكثار من أمثال هذه الترجمات الروائع?

المترجم العربي يصرخ اليوم كما صرخ جبران منذ قرن: ماذا تريدون مني يا بني أمي?!

أتريدون ترجمة حديثة بأدوات الماضي, دقيقة في ظل فوضى المصطلحات, ناشطة بجهود قلة من الأفراد? أين تبادل المعلومات بين بلدان العرب لمنع ترجمة الكتاب الواحد أكثر من مرة? أين توثيق المصطلحات من أجل توحيدها وتعميمها, أين مصطلحات مجامع اللغة العربية ومكتب تنسيق التعريب, أين التواصل بين المترجمين, أين مجلة المترجم التي تعالج المسائل العملية التي يواجهها في عمله, أين حقوق المترجم وحصانته ومكانته?

كثيرة هي الأفكار التي طُرحت وتُطرح لتقدم الترجمة. لكن المسألة الحقيقية ليست في الأفكار بل في السياسة العملية التي تنتهجها الدول العربية في الحقل الثقافي. ليست حركة الترجمة سوى وجه من وجوه الحركة الثقافية عندنا. يكفي أن نراقب حال جامعة الدول العربية, وهي المؤتمنة الأولى على التنسيق والتواصل الثقافي بين العرب, لنفهم الخيبة التي تظلل المؤمنين بالعروبة والمراهنين على مستقبلها. يكفي أن نراجع ما حققته معظم وزارات الثقافة العربية لنكتشف مأساة من يعيش من شق القلم وفي طليعتهم المترجمون.

 

لطيف زيتوني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات