بيروت في أربعينيات القرن العشرين

بيروت في أربعينيات القرن العشرين

الناس.. الأحياء.. الأسواق.. الأعياد والبحر

عندما يود أحدنا اكتشاف روح مدينة ما، في عصر ما، فإنه يعود أول ما يعود إلى كتب التاريخ، التي ينقسم كتابها إلى فئات، فمنهم مَن يهتم بمواقع المدينة، ومعالمها الجغرافية الأساسية، ومنهم مَن يركز على طبيعة سكانها وحياتهم الاجتماعية وعاداتهم اليومية في المأكل والملبس والسلوك، ومنهم من يهتم بدور هذه المدينة في بلدها، وفي عصرها الذي يتحدث عنه، ومنهم طبعًا من يحاول تلمّس كل هذه الملامح مجتمعة.

هذا عن المؤرخين، غير أن بعض هواة اكتشاف تواريخ المدن من يذهب إلى الأدب، فيغوص في أعماق ذلك النمط من الروايات، خاصة تلك التي تخصص كتابها في اكتشاف روح هذه المدينة أو تلك، بناسها وأماكنها، في عصر من العصور، كما كتب فكتور هوجو (وسواه) عن باريس القرن التاسع عشر وناسها، ونجيب محفوظ (وسواه) عن قاهرة القرن العشرين وناسها. وهناك المغرمون بأدب الرحلات، خاصة باللغات الأجنبية، لأن رصيده باللغة العربية نزر يسير، خاصة في العصور الحديثة، بعد أن كان أدب الرحلات عند العرب على درجة أعلى من الازدهار، في عصور سابقة.

ففي بطون كتب أدب الرحلات، قديمها وحديثها، يستطيع القارئ المهتم بالتعرّف إلى روح المدن ومواقعها الأثرية والحية، أن يروي بعضًا من ظمئه.

أما الكتاب الذي نستعرضه اليوم لقارئ «العربي»، فهو نمط فريد، يغرّد خارج كل هذه الأسراب التي عرضنا. هو عن مدينة بيروت، التي لا تجد مواطنًا عربيًا لم يقع في غرامها، إما بعد التعرف إليها عن قرب، وإما لكثرة السماع عنها أو القراءة، عن بعد. لكن الكتاب لا ينطلق للحديث عن بيروت من أي من الزوايا الممكنة في نماذج الكتب التي تتحدث عادة عن المدن، بل فعل ذلك من زاوية شديدة البساطة، من زاوية ذكريات فنان لبناني، عاش طفولته وسنيّ فتوته، في بيروت عقد الأربعينيات من القرن المنصرم، أي في خضم الحرب العالمية الثانية، فجاءت هذه الذكريات، عبر حساسية كاتبها التقاطاً لروح بيروت، بمواقعها وناسها وأحداثها، كما عبرت عن نفسها في عقد الأربعينيات، فيها حديث عن بعض مواقع بيروت، لكن بغرض البحث عن روح بيروت من خلال بعض من هذه المواقع، بعيداً عن مقتضيات العرض المنهجي لكل المواقع البيروتية. وفيها حديث عن ناس بيروت، ولكن ليس من خلال دراسة سوسيولوجية منهجية، بل من خلال الإحساس بالبيئة التي ولد الكاتب فيها وترعرع، ودائمًا بغرض النفاذ إلى روح ناس بيروت، وفيها حديث عن بعض العادات الشعبية، وبعض الممارسات التي فرضتها على الناس أجواء الحرب العالمية الثانية، في أيام كانت بيروت فيها مقرًا من مقرات قوات الحلفاء، كونها أحد مواقع الانتداب الفرنسي في هذه المنطقة من العالم.

أما الفنان كاتب هذه اللوحات البيروتية في مائتين وثمانين صفحة (من القطع المتوسط) فهو المخرج الإذاعي والمسرحي محمد كريّم، الذي مارس هذين الفنين في السياق نفسه، أي سياق البحث عن روح بيروت، والتعبير عنها، خاصة في أعماله الإذاعية والمسرحية التي كان يدير من خلالها عباقرة الكوميديا الشعبية البيروتية (شامل ومرعي وشوشو).

مظاهر الحرب الثانية في بيروت

«الأضواء المنبعثة من قناديل الكاز، خافتة شحيحة، وأنوارها بالكاد تنفذ إليك من الشبابيك المطلي زجاجها باللون الأزرق القاتم، بناء على أوامر الحاكم العسكري الفرنسي، خوفًا من غارات العدو. ولما كان الدهان عزيزًا في تلك الأيام، فقد لجأ الأهلون إلى أحجار «النيل» يذيبونها بالماء، ويجعلون منها صباغًا يطلون به زجاج نوافذهم وقناديلهم،حتى مصابيح السيارات العسكرية والمدنية، على قلتها، صبغت هي الأخرى باللون النيلي، ما عدا فراغ صغير على شكل حرف «T»، يسمح بمرور شعاع من نور باهت، بالكاد يحدد معالم الطريق».

«وإذا كنا ونحن صغار قد غمرتنا البهجة، يوم شاركنا في ورشة صبغ زجاج النوافذ والأبواب إلا أننا بعد انتهاء المهمة، ومع هبوط الليل، أصبنا بشعور غريب، هو مزيج من خوف وغم، أطبق على صدورنا لمرأى مدينتنا وكأنها حسناء متشحة بثوب الحداد، فقد اختفت الأنوار المنبعثة من مصابيح الكاز و«اللوكسات»، التي كانت تنير منازل العاصمة راسمة فضاءات ذات إشعاعات رومانسية تأنس لها الروح ولا تبوح، وحلّ محلها ليل بهيم، يحرّك خيال الناس على ما استبطن في أفئدتهم من بقايا معتقدات وأساطير رواها الأولون».

ومع أن بيروت لم تعرف من الحرب العالمية الثانية إلا الخوف من اقترابها، عند احتدام معركة العلمين في الصحراء الإفريقية قرب الإسكندرية، ونشوب معركة وحيدة على الأرض اللبنانية استغرقت شهرًا واحدًا في مدينة الدامور (بين بيروت وصيدا) ، فقد وقعت حادثتان ألقت خلالهما الطائرات قنابل على مقر المفوض السامي الفرنسي، ثم بالقرب من مركز عسكري فرنسي في حي «عائشة بكار» البيروتي، مما اضطر العائلات الميسورة للانتقال إلى مواقع جبلية أكثر أمانًا.

ويستعرض كريّم في ذكرياته عن أيام الحرب، إدمان أهل بيروت الاستماع إلى القسم العربي في إذاعة برلين، الذي كان يترأسه المذيع العراقي الشهير «يونس البحري»، ويفتتح إرساله بعبارته الشهيرة «حي العرب»، ويتحدث عن الاسمين الأكثر ترددًا في نقاش أهل بيروت عن الحرب: هتلر وتشرشل، إلى أن أضيف إليهما اسم ثالث هو ديغول، رئيس حكومة فرنسا الحرة. كما يتحدث عن اجتماع البيروتيين في الملاجئ التي أنشأتها السلطة في الطوابق السفلى من العمارات، كلما سمعوا صفارات الانذار تحذر من غارة جوية، لكن كريّم لم يلبث أن يوضح أن بيروت لم تعرف الغارات الجوية بالمعنى الحربي الحقيقي، وإن ما كان يجري كان أقرب إلى «البروفة» المسرحية، «فلا نسمع سوى صوت طائرة تحلق عاليًا، قد تكون للاستكشاف أو للتهويل أكثر منها لمهمة قتالية»، ولا ينفض جمع المتجمهرين في الملجأ، فيعود كل إلى بيته، إلا عند سماع الصوت المتواصل (غير المتقطع) لصفارات الإنذار.

ومن أطرف ذكريات تلك الأيام، ما يرويه الكاتب عن ظاهرة توزيغ المواد الغذائية الشحيحة في فترة الحرب، ببطاقات الإعاشة، حتى أنه عند نفاد الخبز، كان أفراد العائلة يعمدون إلى شرائه من المتسولين، الذين يحملون أكياسًا جمعوا فيها عددًا وافرًا من كسرات الخبز.

مظاهر شعبية: صندوق الفرجة

يحصر الكاتب الألعاب الشعبية التي كان يتلهى بها أولاد بيروت في مطلع عقد الأربعينيات، أي قبل عقدين من انتشار التلفزيون، بثلاثة مظاهر: صندوق الفرجة، وطبل الزغلول، وحرش العيد.

بالنسبة لصندوق الفرجة، فإن آخر جيل اطلع عليه، لابد أن يكون مولودًا في أحد العقود الخمسة الأولى من القرن العشرين. يبدع الكاتب في وصفه، فيبدو كأنه الجد البدائي للتلفزيون، فهو عبارة عن علبة تعرض فيها صور ملونة ثابتة، تروي مقاطع من سيرة عنترة وأبي زيد الهلالي والزير سالم والظاهر بيبرس، يجلس للفرجة عليها ثلاثة أطفال كحد أعلى، ويتوالى تحريك الصور من قبل صاحب الصندوق الذي يؤدي أيضًا دور الراوي الذي يرافق كل مجموعة من الصور بتلاوة أزجال شعبية توضيحية. لكن أطرف ما يرويه محمد كريّم في هذا المجال، تصرف الأطفال الميسورين مع أترابهم الفقراء، الذين يحيطون بصندوق الفرجة، ولا يملكون نقودًا تخولهم استئجار مقعد من مقاعد الفرجة الثلاثة المتاحة، فيعمد أحد الأطفال الميسورين إلى قطع فرجته في منتصفها، وإعارة مقعده لطفل فقير. ولم يكن صاحب الصندوق يمانع في عملية التبادل هذه، مادام مقعد الفرجة مدفوع الأجرة سلفًا.

ومع أن صور الصندوق لم تكن تتغير، وحكاياته كذلك، فيؤكد الكاتب أن شغف الأطفال بالإقبال على صندوق الفرجة كان يبقى على الدرجة نفسها من الاندفاع والرغبة، كلما عاود صاحب الصندوق المرور بالحي نفسه، بعد أيام قليلة.

أما «طبل الزغلول» فكان عبارة عن فرقة موسيقية محدودة، قوامها طبال وزمار، كان أهل بيروت يدعونها لإحياء مناسباتهم على اختلاف أنواعها، مثل ختان الأولاد، وعودة الحجاج، وخروج أحد «القباضيات» من السجن، أو ولادة طفل ذكر لإحدى العائلات. وكانت هذه الفرقة المحدودة العدد تحيي عادة أفراح الطبقة المتوسطة وطبقة الفقراء، أما الأغنياء، فكانوا يستعينون للمناسبات نفسها، بتخت موسيقي كامل، على رأسه العود (أمير الطرب)، مع مطرب معروف في معظم الأحيان.

وقبل أن ينتقل الكاتب للحديث عن أربعاء أيوب، وحرش العيد، يروي تفاصيل ممتعة عن كل واحدة من المناسبات التي كانت العائلات البيروتية تستدعي فيها «طبل الزغلول».

إن مَن يقرأ هذه الصفحات بالذات من كتاب «في البال يابيروت»، يجد نفسه أمام محمد كريّم المخرج المسرحي وليس الكاتب، حيث يعرض بما يشبه المؤثرات الصوتية والبصرية المستخدمة في الإخراج المسرحي، ممارسة المجتمع البيروتي لكل واحدة من هذه المناسبات (خاصة أربعاء أيوب)، طوال أسبوع الاستعداد للمناسبة، وفي يوم المناسبة، فيجد القارئ نفسه (وهو يقرأ الكتاب) كأنه أمام مشاهد مسرحية أو سينمائية عن حركة المجتمع البيروتي قبل ستين عامًا، في احتفالاته الشعبية بمثل هذه المناسبات والأعياد.

ينتقل الكتاب، بعد ذلك، إلى فصل جميل عن حلاقي ذلك الزمن، الذين كانوا يمارسون إلى جانب حلاقة الذقن وقص الشعر، مجموعة من النشاطات التي تبدو لنا في هذه الأيام شديدة الغرابة.

أول هذه النشاطات العزف على آلة العود، الذي كان شائعًا بين حلاقي ذلك العصر، ولكن بمستوى فني بسيط ومحدود طبعًا، فلم يعرف العرب في ذلك الزمن، حلاقًا استطاع أن يحتل موقعًا مرموقًا كعازف لآلة العود.

لكن النشاط الأكثر غرابة الذي كان يمارسه حلاقو ذلك الزمن، في بيروت وغيرها من المدن العربية، كان يمتد إلى مزاولة بعض مهمات الأطباء، مثل خلع الأضراس، وختان الأولاد، وسحب الدم الفاسد بواسطة «العلق»، حتى أن بعض صالونات الحلاقة في بيروت في ذلك الزمن، كان (على حد قول محمد كريّم) يرفع لافتة مكتوب عليها: «عندنا علق».

الأحياء، الأسواق، البحر

وبعد استعراض قصير لمجالات اطلاع الكاتب على ينابيع الموسيقى العربية، في احتفالات الإنشاد الديني المنتشرة كثيرًا في ذلك الزمن، والموسيقى الكلاسيكية الأوربية، في مجالس متذوقيها الأوائل المحدودي العدد في تلك الأيام، ينتقل محمد كريّم إلى استعراض ملامح التخطيط المدني لبيروت النصف الأول من القرن العشرين.

يبدأ عملية وصف أحياء بيروت السكنية بمقدمة قصيرة عن الروح التي تسود سكانها، والمتمثلة بمجموعة من القيم والمفاهيم السائدة فيما يسميه «الدستور الاجتماعي» لحياة أهل بيروت. ولعله كان في ذلك الوقت مشابها للدستور الاجتماعي في معظم أو جميع المدن العربية، والذي من بنوده «أن يحترم الجار حقوق جاره، وأن يحفظ العهد، ويصون الود، ويغض الطرف، ويحفظ الخبز والملح، وأن يكون ذا حمية، وكرامة، وخلق».

«وبدل التحاسد والتباغض، والتربص والضغائن، كان يسود التعاون والتعاضد».

لكن الكاتب سرعان ما يستطرد، فيؤكد أن ذلك «لا يعني أن الصورة كانت وردية على الدوام، وأن الناس كانوا كلهم من جنس الملائكة، وأن بيروت كانت بالتالي مدينة الفارابي الفاضلة، فلابد من الإشكالات، من حين لآخر، لكن تدخل العقلاء سرعان ما كان ينهيها».

بعد ذلك ينتقل محمد كريّم إلى وصف عمراني لأحياء بيروت السكنية، وكأنه يقيم منها ديكوراً مسرحياً لمدينته قبل ستين عاماً. فيقول:

«تألفت بيروت في تقسيماتها الجغرافية والإدارية من بضع مناطق رئيسية، لا يتجاوز عددها العشرة، تتصل فيما بينها بطرقات معبدة، قامت على جوانبها بيوت وعمارات لا يتجاوز ارتفاع معظمها الطبقتين. وكانت كل منطقة تتألف من مجموعة أحياء تربط بينها دروب ضيقة، ومسالك ترابية هي قادوميات (طرق داخلية مختصرة) للعبور من منطقة إلى أخرى».

«كانت الأحياء الداخلية لبيروت أشبه ما تكون بالقرى الصغيرة، إن لجهة عدد السكان، أو لجهة بساطة العيش، أو الهدوء والسكون المخيمين على أجوائها. ولم يكن يفرقها عن القرى الجبلية إلا تلك الزواريب التي حفرت في هضابها الرملية، فبدت معها البيوت المتباعدة كأنها نبتت على ضفتيها، مفسحة المجال لقيام البساتين والأراضي الزراعية، التي بما تحويه من دواجن وأغنام وأبقار وماعز، كانت تشكّل مصدر رزق لقسم من البيارتة، وتوحي إليك بأنك في قرية حقيقية».

«كان في كل حي حدائق مزهرة، وبرك تتدفق منها المياه فتسقي الزرع وترطب الجو، وبساتين مزروعة بالخضار على أنواعها، فضلاً عمّا حفلت به العودات والكروم من أشجار مثمرة، بالتين والزيتون والتوت والليمون والجميز، كنا نعتبرها ملكاً مشاعاً، وثمرها رزقاً حلالاً لأبناء الحي كلهم. وكان بوسع البيارتة على مر النهار أن يسمعوا زقزقة العصافير التي اتخذت لها في سقيفة قرميد (ما كان أكثرها وأبهاها)، مأوى لها وأعشاشاً لفراخها».

ثم ينتقل الكاتب، في موقع آخر من الكتاب، إلى وصف الأعداد الضئيلة جداً من السيارات التي كانت تجوب أحياء بيروت في ذلك الزمن بهدوء شديد يكاد يشبه الصمت، وبأعداد قليلة جداً، حتى أن صبية الأحياء كانوا يتسلون أحياناً برصد الأعداد المحدودة من السيارات التي تعبر حيهم في اليوم الواحد.

سوق سرسق

كان يحرس مدينة بيروت القديمة سور ذو سبعة أبواب: هي: بوابة يعقوب، بوابة الدركة، بوابة إدريس، بوابة السرايا، بوابة الدباغة، باب السمطية، وباب السلسلة، وكانت هذه الأبواب تفتح عند شروق الشمس، وتقفل عند غروبها.

وكان قلب بيروت، الذي يحمل اسم المدينة (مع تسكين حرف الميم باللهجة العامية لأهل بيروت) يتضمن أسواقاً عدة شهيرة، احتفظت بشهرتها لدى أهل البلد، وحتى لدى الزوار العرب، حتى نشوب الحرب الأهلية في سبعينيات القرن المنصرم، حيث هدمت الأعمال الحربية معظم هذه الأسواق، وما تبقى منها أزيل لصالح مشروع وسط البلد التجاري، الذي يعرفه زوار بيروت في مطلع القرن الحادي والعشرين.

وقد أحسن محمد كريّم باختيار سوق سرسق، من بين أسواق بيروت القديمة لتقديم صورة ممتعة عنه في كتابه، لأنه كان أشهر أسواق بيروت القديمة، خاصة بالنسبة لأهل بيروت واللبنانيين عموماً، وأكثرها ازدحامًا بالتجار والزبائن، على حد سواء.

يؤكد الكاتب أن سوق سرسق لم يكن مختلفاً عن أسواق المدن العربية الأخرى، وبالرغم من أن طوله لم يكن يتجاوز الأربعمائة متر، فإنه كان يستقبل آلاف الزوار يومياً، في سيل من المشترين لا يكاد ينقطع، من الطبقتين المتوسطة والفقيرة، يؤمونه لشراء حاجياتهم من الملابس والأقمشة وحوائجها. وقد اكتسب السوق اسمه من اسم العائلة البيروتية من أفراد أسرة سرسق، التي كانت تملك معظم عقاراته، بينما يملك الباقي أفراد من أسرة التويني. والأسرتان من المسيحيين من أبناء طائفة الروم الأرثوذكس.

يسترسل الكاتب في وصف السوق، بريشة فنان تشكيلي هذه المرة، فيقول:

«كان السوق قليل العرض، أربعة أمتار أو خمسة، فإذا ازدحم بالناس من مختلف الأعمار، وغص بالزبائن من شتى المناطق تولد عندك الشعور بالالتحام من فرط الزحام، وهيء لك أن التجار والزبائن والمارة، صاروا يؤلفون كتلة آدمية واحدة متراصة، يعرف بعضهم بعضًا منذ أمد».

«دكاكين متلاصقة على الجانبين، يملكها تجار لبنانيون: مسلمون ومسيحيون، وتمتد من أول السوق لآخره، حتى لتحسبها دكاناً واحداً متداخلاً».

بحر بيروت وشخصياتها

ولعل أجمل لوحات كتاب «في البال يا بيروت»، هي تلك التي تحتل الصفحات الاثنتي عشرة (622-832) ، والتي يصف فيها محمد كريّم بشفافية وشجن، تلك العلاقات الحميمة والدفيئة بين بحر بيروت وقدماء البيروتيين، عندما كان ارتياد شاطئ البحر، والاغتسال بمائه، هو ذروة الفسح لديهم في أوقات الفراغ وأيام العطل، خاصة طوال فصل الصيف.

لكن البحر في بيروت، لم يكن في تلك الأيام موقعاً للتنزه والاستجمام فقط، بل كان له وجه آخر، غدّار، يبتلع أعدادًا من السابحين، عندما تزمجر أمواجه وتياراته المائية. وقد أعمل محمد كريّم قلمه ببراعة وحساسية في وصف هذه العلاقة المركبة بين أهل بيروت في أربعينيات القرن العشرين، وبحرهم، في مشاهد حسّاسة هي هنا من اختصاص الروائيين المقتدرين.

بعد ذلك، يستخرج الكاتب من ذاكرته الشخصية ثلاثاً من شخصيات أهل بيروت، في ذلك الزمن، لكن هذه الشخصيات (ولا أدري إذا فعل الكاتب ذلك عن عمد، أم أن الأمر جاء مجرد صدفة طبيعية) قدمت ثلاث لوحات عن نماذج متنوعة من مجتمع بيروت في ذلك الزمن، كما قدمت في الوقت نفسه نمطاً من شبكات العلاقات الاجتماعية المعقدة، في مجتمع كان قد بدأ في ذلك الوقت يخرج من تكوينه القديم المتراكم عبر قرون طويلة، ليدخل ببطء شديد في البداية، ثم بسرعة هائلة بعد ذلك، في خضم عصر حديث من العلاقات الاجتماعية، أصبحت معه بيروت محمد كريّم، من ذكريات الماضي الجميل، الذي يستحق أن يدوّن في كتب أدبية وأبحاث اجتماعية. هذه الشخصيات الثلاث كانت على التوالي:

خالتي أم جرجي، التي يروي فيها الكاتب ببساطة شديدة تعتمد فقط على عرض واقعي لنمط الحياة الحقيقية، عن علاقات المسيحيين والمسلمين من سكان بيروت في تلك الحقبة الهادئة، سواء كانوا يتشاركون في العيش في حي واحد، أو يتوزعون على أحياء بيروت المختلفة.

عمي عبدالرحمن وشريكه محمود، يعرض الكاتب من خلال هاتين الشخصيتين المتناقضتين نموذجين مختلفين من رجال المجتمع البيروتي القديم، كما يقدم عبر شراكتهما في محل للحلاقة في وسط بيروت، لوحات من أحد أهم شوارع الوسط التجاري في بيروت القديمة، المحاذي لمسرح وسينما «التياترو الكبير».

البارون بيزانت، الخياط الأرمني البارع المتخصص في تفصيل ملابس رجال الطبقة الاجتماعية والسياسية العليا. الذي يعرض الكاتب من خلاله لشبكة العلاقات بين لبنانيي ذلك الزمن، بشتى مكوناتهم، ومنها الجالية الأرمنية التي تدفقت إلى لبنان منذ الحرب العالمية الأولى، إثر أحداث اضطهاد الأرمن في تركيا العثمانية آنذاك.

مقاربة ومفاضلة بين النشال واللص
في أسواق بيروت القديمة

«والنشال غير اللص، ولا يجوز الخلط بينهما. اللص يعمل في الليل، في الأجواء الساكنة، أما النشال فلا يمارس مهامه إلا في وضح النهار، وفي الأماكن التي تضج بالحياة.

اللص يعتمد على العنف، على العضلات: يتسلق، يكسر، يخلع، يقفز، وقد يستعمل السلاح، وهو عادة من ضروريات أمنه الشخصي، أما النشال فيعتمد على عقله، وأنامله، وهو يكره العنف، أو لنقل إن العنف ليس من طبعه، أو إن مجال عمله لا يتطلبه بالضرورة، هو يخطط، ويصمم، ثم ينقضّ على فريسته، وينفّذ بسرعة: يخطف خطفاً. واللص بطيء الحركة، دائم الحذر، جبان، أخف حركة تثيره، وأبسط ضجة ترعبه، لذا فهو متوتر، قلق، طوال فترة عمله، حتى وبعد الانتهاء منه. بينما النشال أخف حركة، وأرشق خطوة، وأسرع عدواً، وأكثر ثقة بالنفس. اللص جبان يتجنب الناس، أما النشال فرزقه حيث الزحام، لذلك فهو يقتحم الجمع غير هيّاب. اللص طماع، بوده لو يسرق الدنيا كلها دفعة واحدة، ويضعها في كيسه، أما النشال فقنوع يكتفي بقطعة واحدة، محفظة، أو ساعة، أو سوار.. والقناعة كنز لا يفنى.

اللص يعمل بكلتا يديه، والنشال يعمل برءوس أصابعه: يكون بقربك، وراءك، أو إلى جانبك، وبلمح البصر، ينقض، فيصبح ما في جيبك في جيبه، وعادة يكون الصيد ثميناً، فقاصد السوق شارياً تكون محفظته عامرة. ومهنة اللص أكثر خطراً، وقد تؤدي به إلى ارتكاب الجريمة، ففي بعض المواقف يكون موزعاً بين خيارين، «أحلاهما مر»: فهو إما أن يطلق النار، وإما أن تطلق عليه. لهذا فمهنة النشال أكثر طمأنينة من هذه الناحية، فلا جريمة فيها، ولا قاتل، ولا مقتول، وأسوأ ما يمكن أن يتعرض له «علقة» ساخنة، أو عقوبة سجن لا تتعدى بضعة أشهر ولا سنين فيها ولا مؤبد، وفي المحصلة فإن ما يجنيه قد يكون أغلى ثمناً، في بعض الأحيان، مما يحصده اللص.

بيد أن مهنة النشال محفوفة بالمخاطر، هي أيضاً، لأنه يعمل والناس قيام، فقد يخطئ الحسابات، وغلطة الشاطر بألف، كما يقولون فيمسكون به، ويصبح ضربه مباحاً: من صاحب العلاقة (المنشول)، لأنه تجرأ عليه و«استهبله»، ومن المحيطين به، لأنه كان من الممكن أن يكونوا هم الضحية، ومن المارة، ولا ندري دوافعهم على وجه التحديد، سوى أن يكسبوا به ثواباً، كل ذلك يصيب النشال قبل أن تتسلمه الشرطة، فينال ما لا يتمنى من الضرب، والركل، والإهانات، خصوصاً إذا كان من أصحاب السوابق، ونزيل سجون».

عن كتاب «في البال يا بيروت»

 

 

عرض: إلياس سحاب 




 





وسط بيروت في الاربعينيات من القرن الماضي