اللغة حياة

اللغة حياة

استوقفني طالب، ذات يوم، قرب مصعد الكليّة، وسألني عن سبب قولهم: غير واحد، وخطأ القول: أكثر من واحد، فأجبته على البديهة: «لأنّ الواحد لا يدلّ على الكثرة حتّى يكون شيءٌ أكثرَ منه»، واعتقدت أنّني أتيت بما لم يستطعه الأوائل والأواخر، وأنّني أرحتُ نفسي ونفس جمهور المنشئين من حيرة لاتزال تركبني وتركبهم منذ زمن بعيد. وبدا الطالب معجبًا بعبقريّة أستاذه، فتابع السؤال: «هل هذا رأيك الخاصّ أم هو رأي مسبوق؟». وأخذتني العزّة بالإثم، وأجبته بشيء من الشموخ: «بل هو رأيي الشخصيّ»، فأثنى وشكر ومضى.

ومازلت أصارع القلم كلّما اضطررت إلى استخدام تلك العبارة أو شبهها، لأنّ «غير واحد» لا تستقيم في كل موضع، ولاسيّما حين تلتبس «غير» بمعنى «لا» أو تأتي في صيغة سقيمة، كالقول: يتألّف الاسم من غير حرف، وحينئذ أُكره نفسي على الاحتيال على الجملة، فأقول مثلًا: يتألّف الاسم من حرفين على الأقلّ.

ولا أخفي أنّني، بطبعي التيسيريّ، كنت أميل إلى استعمال عبارة «أكثر من واحد» وأشباهها، ولا يضيرني توهّمي أنّ أصلها أجنبيّ كما في ، والفرنسيّة، مثلًا: Plus d'une fois (أكثر من مرة) وPour plus d'une raison (لأَكْثَرَ مِن سبب) ما قد يقابل ذلك في الإنجليزية، لكنّني كنت أخشى انتقاد المتشدّدين، فأحجم؛ إنّ للمتشدّدين إرهاباً يؤثّر حتّى في نفوس المتخصّصين.

وذات يوم آخر، كنت أتصفّح كتب الحديث النبويّ الشريف، فوقعت على عبارة «أَتيْتُهُ أكثر من مرّة»، فكدت أرقص فرحًا، على ضعف عضلاتي، ومضيت أبحث عن أدلّة أخرى، فوجدتها، لحسن الحظ، كثيرة، ابتداء من كلام الفقهاء والمحدِّثين القدماء، وانتهاء بالأساليب المعاصرة. وأدركت أنّ التشابه بين تلك العبارات وبعض العبارات الأجنبيّة مجرّد توافق في المنطق اللغويّ، وقد يقع حافر على حافر.

والأهمّ من ذلك اكتشافي أنّ عبارة «أكثر من..» لا تدلّ بالضرورة على الكثرة، بل تتضمّن معنى الزيادة أحيانًا كثيرة، فتوحي معنى التعدّد، فعبارة «أكثر من رأي» مثلًا، تعني «آراء متعدّدة»، فيغلب على تصوّر المستعمِل أنّه يتكلّم على الكثرة، لا على الواحد.

إنّ في أصل العبارة مفاضلة بين الكثير وبين ما يزيد عليه كثرة، نحو قولنا: هم أكثر من عشرة، والكثرة قد تكون ضمنيّة، بمعنى أنّ الاسم المستعمل قد يكون اسم جمع، أو اسم جنس جمعيّ، أو اسمًا يشبه اسم الجمع في دلالته على متعدّدين من غير لفظه، مثل الساعة (ستّين دقيقة) واليوم (أربع وعشرين ساعة) والأسبوع (سبعة أيام) إلخ. ومنه قول الصحابّي جابر بن عبدالله لأحدهم: «شَعرُ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أكثرُ من شَعرِك»، وكقول أحد الصاغة لعبدالله بن عُمر بن الخطّاب: «أبيع من ذلك بأكثر من وزنه»، وكقول الجاحظ على لسان بعضهم: «وأنا منذ أكثر من سنة أشفق أن يراني». لكن يبدو أنّ معنى العبارة انتقل مجازًا إلى الدلالة على الزيادة المطلقة من غير اعتبار للكثرة، أحيانًا، فأشار الترمذي المحدِّث، مثلا، إلى أنّ العلماء «لا يرون أن يوصي الرجل بأكثر من الثُُلُث»، ومعروف أنّ الثلث أقلّ من واحد ولا يدخل في الكثرة.

فلا غرابة أن نجد أئمّة الفقه والحديث واللغة والأدب وغيرهم يستعملون صيغة «أكثر من واحد» ونظائرها، فيقول شُعبة بن الحَجّاج العَتَكيّ: «أتيتُه أكثرَ من مرّة»، ويقول الإمام مالك بن أنس: «ولا يُسْهَم لأكثر من فَرَس» أي لا يزيد سهم الغنيمة على الفرس، ويفسّر سيبويه عبارة: أُدخلْ على زيد أو عمرو أو خالد، بعبارة: «لا تَدخلْ على أكثرَ من واحد من هؤلاء». ويقول الجاحظ: «لا يجوز أن يلي أمرَ المسلمين (...) أكثرُ من واحد» ويقول في بعض الطيور: «ويفرّخ أكثر من مرة» ويقول: «لو رجع منها واحد أو أكثر من واحد». أمّا قوله: «يَشمُّ ريحَ القانص مِن أكثر مِن غَلوة» فهو يدخل في الأسماء الدالّة على متعدّد. ونجد الطبريّ يقول في تفسيره، في موضوع تعدّد الزوجات: «إنْ نكحتم من الغرائب أكثر من واحدة، إلخ» وتابعه كثير من المفسرين في مثل هذه العبارة، ووصَفَ ابنُ عبد ربّه الجدارَ المحيط بقبر النبيّ فقال: «ولُبِّسَ بإزار رخام أكثرَ مِن قامة»، ونسب أبوالفرج الأصفهانيّ إلى بعض محبّي الغناء: «وجرْتُ عليه في سؤالي إيّاه أكثر من صوت واحد»، وقال الواحديّ في «شرح ديوان المتنبيّ»: «ولا يكون للإنسان أكثرُ من اسم واحد»، وأكثرَ ابنُ قُدامة في تفسيره من استعمال هذه الصيغة، فقال مثلًا: «ولا يضربه أكثرَ من ضَرْبةٍ واحدة»، وقال ابن خلدون في تاريخه: «فوقع له ذلك أكثر مِن مرّة»، وتحدّث عن مخارج الحروف فقال: «وبين كلّ مخرجين منها حروف أكثر من واحد». ونترك ما جاء في أساليب المحْدثين والمعاصرين فهو كثير جدًا.

فهذا الاستعمال مستقرّ منذ القرن الهجريّ الثاني، على الأقلّ، والشواهد عليه كثيرة لا تُحوج إلى الجدل، ولا إلى تأويل نصوص غير صريحة، كما فعل مجمع اللغة العربيّة في القاهرة، إذ فسّر الآية الثانية عشرة من سورة النساء: فَإنْ كانوا أكثرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ في الثُلُثِ بأنّ (ذلك) تعني الأَخَ الواحد أو الأخت الواحدة»، أي أوّل الآية بـ: فإنْ كانوا أكثر من أخٍ أو أخت، والحقيقة أنّ المقصود بكلمة «ذلك» الأَخَوان أو الأختان لأُمّ ٍ، وما فوقهما، وهذا يجعل العدد اثنين على الأقل، ثم إنّ «ذلك» كناية عن العدد «اثنين» وليس عن المعدود. وقد اكتفى المجمع، بعدئذٍ، بالاستشهاد بعبارتين لابن دُريد وللجوهريّ، وهما متأخّران، ولا بأس في تأخّرهما، فمرور أكثر من ألف سنة على الاستعمال يجعله سائغًا، لكن «العربيّ» التي يفيد كتّابها من أجهزة الإحصاء الحديثة تضع بين يدي المجمع ما قمّشتْه في هذا الموضوع، مشيرة، بكل احترام، إلى أنّها تخالفه في تعليله لذلك الاستعمال، إذ ذهب إلى أنّ التفضيل قد يخرج عن معنى المشاركة بين أمرين، مع زيادة أحدهما على الآخر، إلى معنى الوصف، وهذا يعني أنّه جعل لـ «أكثر» معنى «كثير»، وهو، إذا صحّ فهمنا، غير مقنع هنا، ونكرّر أنّ عبارة «أكثر من» تدلّ على الزيادة دائمًا، لكن من غير المفاضلة بين كثيريْن بالضرورة.

 

 

مصطفي الجوزو