جمال العربية
جمال العربية
فدوى طوقان يمامة الشعر الفلسطيني أيّ اقتراب من شعر الشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان لابدّ أن يقابله ذلك التوهج النادر الذي لم تنطفئ شعلته على مدار أكثر من نصف قرن من الإبداع. فقد خُلقت فدوى طوقان، وأهّلتها مكوناتها الإنسانية لتكون شاعرة حتى وإن لم تكتب قصيدة واحدة، فما بالنا بمن أصبحت شاعرة الأسرة والأرض والوطن والهمّيْن: الذاتي والقومي، وكأنما أتيحت لها عشرات الروافد لتغذية هذه الطاقة الشعرية العارمة. أخوها الأكبر إبراهيم طوقان - شاعر الثورة الفلسطينية - أستاذها وموئلها وراعيها، إلى روحه أهدت ديوانها الأول «وحدي مع الأيام» اعترافًا بفضله عليها، وكأنها تعلن له وبين يديه عن ميلادها الشعري. ووجدانها المرهف الشديد الحساسية كالرادار، يهتز لتجارب الحياة والوجود، ويمور بفيض هائل من الأحاسيس والمشاعر الجارفة. وعشقها الحميم للوطن الفلسطيني والأرض الفلسطينية بكل ألوانها وعطورها وروائحها جعل من دواوينها سجلاًّ حيًّا ناطقًا باللوحات الشعرية المعبرة، والصور البديعة لطبيعة تمتزج بالإنسان وقضيته، ويمتزج بها الإنسان امتزاج حياة ومصير. وأصبح شعر فدوى فضاء لانطلاق مفردات فلسطين إلى الذاكرة المرئية لكل عربي، وهو يقرأ عن نابلس وبيسان وجرزيم وطوباس ورفيديا، ويطالع هذه الجغرافيا الشعرية الحية، التي نجحت في إبقاء اسم فلسطين - والأماكن المختلفة التي انتظمها عالم فدوى - شاخصاً في دائرة الرؤيا والذاكرة، محرّكاً للهمم والعزائم، قادحاً لزناد الحسّ القومي والوعي بقضية العرب الأولى: فلسطين. ولدت فدوى طوقان عام 1917، وتلقت تعليمها الابتدائي في نابلس، وبعد ذلك ثقفت نفسها بنفسها، فالتحقت بدورات في اللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي. وخاضت معارك ضارية ومواقف محبطة وهي تصارع العادات والتقاليد والظروف البيتية والبيئية والعامة من أجل أن تصنع نفسها على عينيها كما تريد، وأن تكون لها كلمتها وقلمها ودورها، وهي مسيرة الحياة الحافلة التي سجلتها في كتابها الشديد التميز والتفرد «رحلة صعبة، رحلة جبلية». واتسع شعرها في كل دواوينها المتتابعة: وحدي مع الأيام - الذي نشرته في القاهرة عام 1952 بمساعدة الناقد المصري البارز أنور المعداوي الذي جمعت بينه وبين فدوى علاقة أدبية وروحية ملهمة، ثم ديوانها الثاني: وجدتها، وبعده: أعطنا حبًّا، أمام الباب المغلق، الليل والفرسان، على قمة الدنيا وحيداً، تموز والشيء الآخر، مختتمة مسيرتها بهذه الكلمات: عارية تحت فحيح الشمس في كل شعر فدوى - في غنائياتها الحزينة، وفي عنفوانها الهادر المتوهج بالغضب، المؤازر للثورة الفلسطينية - يسطع وجه الأمومة الكامنة في فدوى. أمومة حانية على الألم، وأمومة حانية على المناضلين والشهداء، وأمومة حانية على الكون والوجود - كل ما تبدعه يصل إلينا قادماً من ينابيع هذه الأمومة، وكأنه هديل يمامة الشعر الفلسطيني، التي انسكبت شاعريتها الذائبة في عناق الطبيعة حيناً، والإنسان حينًا آخر، والمشهد الفلسطيني المحتشد باحتمالات الظفر والفجيعة معاً. ولم يحل هذا الهديل بين كلماتها التي تشبه الهمس في رقتها الآسرة وصفائها النادر، وكلماتها المغموسة بدم القلب وكأنها جيش مقاتل، طلقاته وذخيرته قصائد تنسكب عليها إرادة النضال والبطولة والتحدي. وعندما التقت فدوى طوقان - للمرة الأولى - بشعراء المقاومة: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم في شهر مارس عام 1968 في مدينة حيفا، بعد حدوث نكسة 1967، تفجرت أمومتها الإنسانية والشعرية في هذا اللقاء بقصيدة بديعة تحمل جوهر هذه العلاقة الحميمة بينها وبينهم، وهي تقول: أحبائي وفي ختام ترنيمتها المفعمة بالحنوّ واحتضان الأمل المتمثل فيهم تقول: أحبائي، مصابيح الدجى، من بين قصائد ديوانها الأول «وحدي مع الأيام» قصيدة لفدوى من وحي زيتونة مباركة تقول عنها في تقديمها للقصيدة: «في السفح الغربي من جبل «جرزيم» حيث تملأ مغارس الزيتون القلوب والعيون هناك ألفت القعود في أصيل كل يوم عند زيتونة مباركة تحنو على نفسي ظلالها، وتمسح على رأس عَذَبات أغصانها: وطالما خُيّل إليَّ أنها تبادلني الألفة والمحبة، فتحسّ إحساسي وتشعر بشعوري. وفي ظلال هذه الزيتونة الشاعرة، كم حلمت أحلامًا، ووهمت أوهامًا». لقد استطاع إحساس الأمومة في وجدان فدوى أن يتصل بإحساس الأمومة في الشجرة التي حنت بظلالها عليها، فأصبحت القصيدة وثيقة جميلة لعناق أمومتين جمعت بينهما - كما تقول فدوى - الألفة والمحبة: هنا، هنا في ظل زيتونتي *** هنا، هنا، في ظل زيتونتي *** هنا يهيم القلب في عالم *** عالم أشواقٍ سماويةٍ *** واهاً، هنا يهفو على مجلسي *** أكاد بالوهم أراه معي *** زيتونتي، الله كم هاجسٍ *** نَجيّتي أنتِ، وقد عزّني *** يا ليت شعري إن مضت بي غدَا *** تراك تنسين فؤاداً وعتْ *** زيتونتي، بالله إما هفتْ *** وحين يستهويك طير الربى *** تذكّريني، كلما شعشعت *** إن يزْوها المغرب عن عرشها *** ويحي! أتطويني الليالي غداً *** ونور قلبي، والرؤى والمنى *** أما لهذا القلب من رجعة *** يا ربّ، أما حان حين الردى *** وبات هذا الجسم رهْن الثرى *** جذورها تمتصُّ من هيكلي *** حتى إذا يا خالتي أفعمت *** وأفرعت غيْناءَ فينانةً *** حلم حياة سُرّبت وانطوت وهي لوحة شعرية فاتنة، تصور حلول الزيتونة المباركة في الشاعرة وحلول الشاعرة فيها بدورها، وأُمْنيتها الأخيرة أن تنبعث من تربتها زيتونة تكون كهذه الزيتونة - التي عاشت في ظلالها ورضعت فيض أمومتها - ملهمة وشاعرة. وهي أمنية تذكرنا بنشوة الفرح، وعمق البهجة التي عاشتها فدوى وجسّدتها في قصيدتها «مع المروج» أولى قصائد ديوانها الأول، فرح العودة إلى الطبيعة، وبهجة الحياة بينها وفي ظلالها، وكأن اكتمال الشاعرة والإنسانة لا يكون إلا من خلال تحقيق هذا العشق الكوْني، والحلول الذي يشبه الحلول الصوفي والوجْد الروحي: هذي فتاتك يا مروج، فهل عرفْتِ صدى خطاها *** هي يا مروج السفح مثلك، إنها نبت الجبال *** روحاً شفيفاً رقّقتهُ لطافةُ الجوّ النضير *** قد جئت، ها أنا، فافتحي القلب الرحيب وعانقيني وعندما رحلت يمامة الشعر الفلسطيني عن ثلاثة وثمانين عاماً، منذ عدة سنوات، تركت بيننا أنفاس أمومتها الشعرية والإنسانية العاطرة، وترانيم هديلها الذي تُرجّعه أشجار الزيتون في كل الأرض الفلسطينية.
|