إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

أول الطريق إلى الأدب

كان الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر يعتزّ اعتزازًا شديدًا بكتاب كتبه في شبابه الأدبي عن الأديب الفرنسي فلوبير صاحب رواية مدام بوفاري. وكان سارتر يقول في سنواته الأخيرة إنه يتمنى أن تتاح له فرصة لمراجعة هذا الكتاب لأنه يودّ أن يضيف إليه أشياء جديدة. وكان الكثيرون يعجبون لفرط اهتمام سارتر بروائي فرنسي كلاسيكي، نظرًا للبون الشاسع الذي يفصل فكر وأدب كل منهما عن الآخر. ولكن سارتر كان يجيب بأن الكاتب الذي يدير ظهره لأسلافه ولا يعيد قراءتهم، إنما هو كاتب لا يستحق عضوية النادي الأدبي.

وللإنجليز من أسلافهم موقف مماثل لموقف سارتر. فمن تقاليد الحياة الأدبية الإنجليزية أن يبدأ الكاتب رحلته إلى الأدب بكتاب يراجع فيه أحد أدباء التراث، أو بكتاب يعيد فيه تقييم عصر من عصور الأدب الإنجليزي. ويستوي في هذا التقليد الكاتب والناقد والشاعر. فعلى كلّ من هؤلاء، لكي يثبت كفاءته، أن يبدأ الأدب بكتاب عن أديب من أدباء التراث يجلو فيه غامضاً أو ملتبساً، ويأتي بجديد حوله. ويقف الإنجليز موقفاً سلبياً من الشاعر، أو من المبدع، الذي يبدأ حياته بقصائد نثر أو بنصوص مبهمة، دون أن يكون بدأ تلك البداية الأدبية السويّة التي أشرنا إليها، أي بكتابة دراسة علمية عن أحد أدباء السلف. فمثل هذه الدراسة تؤلف بنظرهم قرينة على أن الكاتب الناشئ هو كاتب حقيقي. أما أن يغرق الكاتب من أول الطريق في تلك المعميّات والألغاز التي ذقنا نحن عرب هذا الزمان الأمرّين منها، فدليل دامغ بنظرهم على أنه سلك طريق المجانية السهلة، وهي طريق لا مكان لها في الأدب.

ومع أن الدكتور محمد النويهي الناقد المصري الكبير الراحل قد أشار إلى مثل هذه التقاليد الأدبية الغربية في كتاب له يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضي دافع فيه عمّا سُمّي في تلك المرحلة بالشعر الجديد، أو شعر التفعيلة، إلا أن هذا التقليد، أي أن يبدأ المتأدب حياته بدراسة علمية عن أحد أدباء السلف، لم يدخل حياتنا الأدبية بالرغم من جدارته بذلك. فأكثر الأدباء والشعراء العرب يبدأون رحلتهم الأدبية عادة بتلك النصوص الغامضة المبهمة التي لا يستطيع أن يفهمها، أو أن يُبحر فيها، حتى صفوة المثقفين. في حين أنهم لو خضعوا لموجبات هذا التقليد، لربما تردّدوا في ولوج بحر الظلمات هذا، أو لتردّد جمهور المثقفين في استدعاء تهمة المجانية يلقونها في وجوههم، نظراً لأنهم أثبتوا عبر نصّ نقدي أو بحثي سابق رصانتهم وعدم مجانيتهم.

في مطلع كل يوم، تخرج إلى النور عشرات الكتب الأدبية العربية التي يصفها أصحابها، أو أصدقاؤهم من النقاد بالإبداعية أو الطليعية أو الحداثوية، لا لشيء إلا لأنها تحتوي على نصوص الساري فيهم كالساري في ليل مظلم، وما هي في الواقع سوى نتاج مراهقة أدبية، أو مخيلة سائبة غير منضبطة لم تخضع لتربية علمية أو أدبية أو فنية. وأصحاب هذه النصوص لا يعرف أحد من أين أتوا، وما مؤهلاتهم، وما الذي يريدون أن يقولوه بالضبط.

ولذلك فإن القارئ يسيء الظن عادة بهم، أو بنصوصهم التي لا يفهمها ولا يستطيع أن يفك لغزًا واحدًا منها. ولاشك أن من شأن اقتباس هذا التقليد من الإنجليز، والعودة إلى تراث السلف، كما عاد إليه سارتر، وإرسائه في حياتنا الأدبية، ما يساعد على ضبط الوضع الفوضوي الذي تفاقم في السنوات الأخيرة، وجعل الكثيرين منا يفضلون نعمة الجهالة على جحيم المطالعة!.

 

 

جهاد فاضل