الشيخ صباح الأحمد خبرة القيادة وعزيمة الإصلاح
الشيخ صباح الأحمد خبرة القيادة وعزيمة الإصلاح
أقل ما يقال عن انتقال السلطة الذي تم أخيراً في الكويت, أنه عملية سياسية راقية الأداء, تميز كل الذين شاركوا فيها بحرصهم على الديمقراطية وتمسكهم بالقانون. فللمرة الأولى في تاريخ الكويت يتم ترشيح الأمير الجديد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح من مجلس الوزراء, ويتم عرض هذا الأمر على مجلس الأمة المنتخب انتخاباً حراً من الشعب, فيثني على هذا الترشيح, ويقر هذا الاختيار بإجماع الآراء, الأمر الذي يعني أن الشعب الكويتي كله قد شارك عن طريق ممثليه في هذا الاختيار الذي يعد انتصاراً للديمقراطية ولروح الأسرة الواحدة التي سادت الكويت في هذه الفترة. كل هذا تم وفق روح الدستور الكويتي الذي تراضى به الجميع منذ العام 1965 حتى الآن, ووفقاً لهذا الدستور فقد تولى الشيخ سعد العبدالله إمارة الكويت في يوم 15/1/2006, استناداً إلى المادة (4) من الدستور من قانون توارث الإمارة. وعندما تأكد الجميع أن صحته لا تساعده على تولي مسئوليات هذا المنصب, تم إعفاؤه من منصبه يوم 24/1/2006, استناداً أيضاً إلى المادة (3) من قانون توارث الإمارة. وقد شارك في هذه العملية المؤسسة التنفيذية ممثلة في مجلس الوزراء, والمؤسسة التشريعية ممثلة في مجلس الأمة, وأفراد الأسرة الحاكمة, الذين بايعوا الشيخ صباح واضعين مصلحة الكويت العليا فوق الخلافات الجانبية فيما بينهم, وقد ثار جدل كبير, ولكنه تم كله في إطار من إبداء الرأي وقبول الرأي الآخر, ولم يتجاوز الخلاف حدوده القانونية, وتمت العملية السياسية كلها في شفافية تامة, فقد كانت الصحافة منبراً تتداول عليه كل الآراء وتتشارك فيه كل الأطراف, وقد وصلت الأمور في النهاية إلى مستقرها بقبول الجميع بما يقرره الدستور. وقد مرت تلك الأيام العشرة التي شغلت الكويت في إطار من الأمان الاجتماعي الذي عرفت به الكويت, فلم يقم أي طرف من الأطراف بأي إجراء استثنائي, ولم ينسق أحد وراء أي إغراء باستخدام السلطة ضد من يعارضونه, بل لم تسجل حالة عراك أو شجار تمت بين المختلفين في الآراء. لقد أثبتت تجربة خمسين عاماً من الحياة السياسية المستقرة في ظل الدستور أنها قادرة على امتصاص أي حدث عارض, بل وتحويله إلى حدث تاريخي يسجل في الكويت لصالح المؤسسات الديمقراطية والانسجام بين أفراد الشعب وأسرة الحكم, التي بادرت بالالتجاء إلى حكم هذا الشعب في تلك الأزمة التي اعترضتها. وهكذا نستقبل الشيخ صباح أميراً جديداً للكويت, وبالرغم من جدته في الإمارة فهو وجه يعرفه الجميع ويتفقون عليه, فهو بالنسبة لأهل الكويت يعد واحدًا من بناة دولتهم الحديثة, وبالنسبة للعالم, واحدًا من أشهر الساسة الذين عرفتهم المحافل الدولية. وهو صاحب تجربة حياتية وسياسية عريضة, امتزجت فيها تجربة الإنسان وواحد من أفراد أسرة حاكمة عريقة, شاء أن يسعى بإرادته إلى درجة من التواصل الحميم بينه وبين أبناء شعبه, وتجربة مواطن كويتي ارتفع بانتمائه وفكره إلى مستوى الحلم العربي. بناة الدولة كان الشيخ صباح الأحمد واحدًا من ثلاثة تحملوا قيادة البناء خلال السنوات الطويلة الماضية, والتغلب على كل ما واجهها من محن ومصاعب. أولهم كان الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح الذي أدار دفة البلاد على مدى 28 عامًا, تقدمت الكويت فيها من إمارة صغيرة على ضفة الخليج إلى تجربة حقيقية من البناء والديمقراطية. وثانيهم الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح الذي تولى مسئولية ولاية العهد ورئاسة الوزراء, وأمسك بأمور الدولة التنفيذية في مرحلة من أشد تاريخ الكويت حرجًا, وأعني بها مرحلة الغزو العراقي للبلاد عام 1990. وثالثهم هو الشيخ صباح الأحمد الذي عبر كل مسئوليات الحكم في الكويت, رئيساً لدائرة الشئون الاجتماعية والعمل, ثم رئيساً لدائرة المطبوعات والنشر (وصدرت (العربي) على يديه عام 1958), ثم وزيراً للإعلام في المرحلة الدستورية, ثم وزيراً للخارجية, ونائباً أول لرئيس الوزراء, ورئيساً لمجلس الوزراء, وأشرق اليوم ليتقلد دفة القيادة الأولى, أميراً للدولة, باختيار وترشيح شعبي من قبل المؤسستين التنفيذية والتشريعية, ومباركة شعبية واسعة من كل الطبقات والفئات. وفي كل هذه المراحل, كان الرجال الثلاثة تحكمهم روح الأسرة الواحدة ومصلحة الوطن الواحد, خاصة عندما كانت الأخطار تتهدد استقلال هذا الوطن, وعندما كان الأمر يتعلق بالبناء والتحديث والأخذ بأسباب النهضة الحديثة. ويحتل الشيخ صباح الأحمد بالنسبة لـ(العربي) مكانة خاصة, فهي أحد الإنجازات التي تحققت على يده عندما كان يتولى مسئولية دائرة المطبوعات والنشر منذ عام 1957, فهو الذي احتضن إنشاءها, وساهم في اختيار اسمها وتحديد سياستها كصلة وصل بين الكويت وعالمها العربي. وحتى بعد أن ترقى في مناصب الدولة, ظل يحيط (العربي) برعايته, ويعتبرها سفارة دائمة للكويت, مفتوحة لكل الآراء والاتجاهات الفكرية دون تحفظ, مادامت تصب في مصلحة الثقافة العربية وتخدم التطور العربي. وقد قام برعاية كل الملتقيات التي عقدتها المجلة في سنواتها الأخيرة, ولم يبخل بشيء من أجل إنجاحها. ويعد الشيخ صباح واحدًا من أشهر الذين تولوا منصب وزير الخارجية في العالم كله. فقد تولى هذا المنصب عام 1963, حتى أصبح رئيسًا لوزراء الكويت في عام 2003, أي أنه قضى في تحمل هذه المسئولية أربعين عامًا كاملة, استطاع فيها أن يشكّل صورة الكويت في عيون العالم الخارجي. ولم يفعل ذلك وفق رغباته الشخصية, ولكنه استمدها من التقاليد الكويتية العريقة القائمة على الانفتاح على العالم, والتوازن في العلاقات, واتخاذ نهج الحوار والتفاهم سبيلاً لحل أي مشكلة, أو للتغلب على أي عقبة. لقد كان لابتسامته - التي لا تختفي حتى في أحرج الظروف - أثر البلسم الشافي في إطفاء نيران أي أزمة. حتى عندما احترقت أصابع الكويت إبان أزمة الغزو العراقي, لم تختف هذه الابتسامة. وظلت روحه الوثابة تسعى من محفل عالمي إلى آخر, حاملاً الحق الكويتي حتى استطاع أن يجمع العالم كله وراء الشرعية الدولية من أجل خوض حرب تحرير الكويت. لم يكد الشيخ صباح يتعدى الخامسة والعشرين من العمر, حين وقع عليه الاختيار هو وعدد من طلائع الجيل الجديد من أبناء الكويت لتولي مناصب الدولة العامة من أجل الإشراف على عمليات البناء والتحديث. فقد أصدر أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم في عام 1954 مرسومًا أميريًا بتعيينه عضوًا في اللجنة التنفيذية العليا التي عهد إليها بمهمة تنظيم مصالح الدولة, ووضع خطة للارتقاء بأعمالها. ونظرًا للخبرة التي اكتسبها في ممارسة هذا العمل, فقد عهد إليه بمسئولية دائرة الشئون الاجتماعية والعمل, وهي الدائرة التي كانت تعمل بدأب من أجل تقديم الرعاية للأسر الكويتية من دعم ومساعدة, ومن أجل تنظيم حال العمل والعمالة الوافدة في وقت كانت أعمال البناء والإنشاء لا تتوقف في الكويت, ثم عهد إليه أيضًا بجانبها رئاسة دائرة المطبوعات والنشر. هذه الخبرات المتتابعة, بالرغم من كثرة أعبائها, لم تمنعه من القيام بالمهمة الكبرى, التي استند إليها في شرعية حكمه فيما بعد, وهي أن يكون عضوًا في المجلس التأسيسي الذي قام بوضع دستور الكويت عام 1962, وبذلك أخذت الدولة سمتها الحديثة, وتحولت كثير من الدوائر والإدارات إلى وزارات مسئولة. رعاية الثقافة وقد ظهر اهتمام الشيخ صباح بدعم الحياة الثقافية في الكويت منذ وقت مبكر, فعندما كان رئيسًا لدائرة الشئون الاجتماعية والعمل, امتدت رعايته إلى المسرح الكويتي, وحرص على إتاحة الفرصة أمام الشباب لممارسة هذه الهواية, وتقديم العروض المسرحية المختلفة. وقد غرست هذه الرعاية المبكرة بذور الحركة المسرحية, والتي ازدهرت فيما بعد, وأعطت الكويت مكانًا فنيًا مميزًا بين دول الخليج. وقام أيضًا وهو يرأس الإدارة نفسها بإنشاء مركز لرعاية الفنون الشعبية, كان هدفه حفظ التراث الشعبي الكويتي بما في ذلك ما يتصل بحياة البر والبحر, وما في الأدب الشعبي من شعر وقصص وأمثال, والحفاظ على الصناعات التقليدية كصناعة السفن والأزياء والعمارة. وتوسعت اهتماماته حين تولى إدارة المطبوعات والنشر, وقد استطاع أن يحولها من مجرد إدارة للمطبوعات الرسمية إلى قوة دافعة في الحركة الثقافية الكويتية والعربية معًا. فقد أنشأ مطبعة الحكومة برؤية واسعة تجعلها تطبع عشرات المطبوعات بجانب مهامها الرسمية, وحرص على إرسال طائفة من الشباب الكويتي إلى الخارج لتدريبهم على فنون الطبع والتجليد. وكانت الباكورة الأولى لهذه المطبعة, والتي تخطت نطاق الكويت إلى بقية العالم العربي هي مجلة (العربي) كما ذكرنا من قبل. ولم تتوقف مهمة دائرة المطبوعات عند هذا الحد, ولكنها تخطتها حين أولت اهتمامًا كبيرًا بإحياء التراث العربي, وإعادة نشر ما فيه من مخطوطات مهمة بعد تحقيقها وتنقيحها, كما أنشأ الشيخ صباح لجنة خاصة لكتابة تاريخ الكويت, وكان على رأسها المؤرخ العربي مصطفى أبو حاكمة, وقد أصدرت هذه اللجنة دراسة عن السنوات الأولى من تاريخ الكويت عام 1967. ومع استقلال الكويت, تحولت دائرة المطبوعات إلى وزارة الإرشاد والأنباء, وأصبح تطوير وسائل الإعلام الكويتية واحدًا من أكثر المهام, التي ألقيت على عاتق الشيخ صباح, فأخذ يعمل على تطويرها وتحسينها من أجل إيصال صوت الكويت إلى الخارج. وقد تصادف في هذه الفترة تصاعد الادعاءات, التي كان يطلقها النظام العراقي الذي كان يحكمه في ذلك الوقت عبدالكريم قاسم وأطماعه في أرض الكويت. وقد تصدى الإعلام الكويتي بشدة لهذه الادعاءات, ولعب دورًا مهمًا في الدفاع عن استقلال الكويت, وإيصال صوتها لكل الشعوب الصديقة والمحبة للسلام. وكانت عقلانية الشيخ صباح في اجتياز أزمة الأطماع العراقية محل إعجاب الجميع, فهو لم ينفعل, ولم يخضع للعبارات الإنشائية. ولكنه لجأ إلى حديث الوثائق, حيث قام بنشر العديد من الوثائق والخرائط الرسمية التي كانت تبين بوضوح حدود الكويت. بل إنه قام أيضًا بنشر الخرائط الموجودة في كتب المناهج الدراسية العراقية, والتي كانت تضع حدودًا واضحة ولا لبس فيها بين الكويت والعراق. السياسة الخارجية كأن كل هذه الخبرات والتجارب كانت تهيئ الشيخ صباح الأحمد لمنصبه الأهم الذي تولاه على مدى أربعين عامًا وزيرًا لخارجية الكويت, والذي جعله يستحق لقب عميد الدبلوماسيين العرب, بل عميد وزراء خارجية دول العالم أجمع. فقد أدار هذا المنصب وفق قاعدة واحدة لم تتغير على مدى هذه الأعوام, وهي عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى, وعدم السماح لأي دولة بالتدخل في شئون الكويت. وطوال هذه الفترة, شهد الجميع بانتمائه العربي الأصيل وحسه الوطني الذي لم يخفت في أشد المحن, مهما تصاعدت درجة الخلافات العربية. وقد عمل على مساعدة الدول العربية بكل ما تملكه الكويت من إمكانات مادية وسياسية, فلم يقتصر الأمر على تقديم المنح والقروض, التي تحتاج إليها العديد من الدول, ولكنه كان يتدخل دائمًا بدور إيجابي في محاولة رأب الصدع, وفض الاشتباك. ومن المثير للاهتمام أنه في أعقاب الغزو العراقي, ووقوف بعض الدول العربية إلى جانب ذلك الغزو, وقيام وسائل الإعلام الكويتية بتسميتها (دول الضد), كان صباح الأحمد دائمًا ضد هذه التسمية وضد إبعاد أي دولة عربية وقطع علاقاتها مع الكويت. فقد كان يؤمن بمنطق البعد الاستراتيجي لهذه العلاقات. وقد تحققت هذه النظرة المتعمقة حين عادت هذه الدول عن خطئها وأعادت علاقاتها مع الكويت بل وأدانت سياسة النظام العراقي البائد المتغطرسة والعدوانية. إنها سياسة (نكران الذات) كما أطلق عليها أحد السياسيين العرب, وهي السياسة التي اتبعها الشيخ صباح في تغليبه المصلحة العربية العامة فوق المصلحة المحلية والإقليمية. وبالرغم من الانتقادات التي كانت أحيانًا ما توجه لهذه السياسة من الصحافة الكويتية أو من قوى المعارضة داخل مجلس الأمة, فإنه كان يرحب بالنقد واختلاف الرؤى وكان حريصًا على عقد اللقاءات الصحفية لشرح وجهة نظره في كل السياسات التي ينتهجها. وقد برز الدور الإيجابي لدبلوماسية الشيخ صباح في القضية الفلسطينية, التي وهب لها من الوقت والجهد ما لم يهبه لقضية أخرى. ولعل هذا نابع من سنوات شبابه الأولى حين شاهد تدفق اللاجئين الفلسطينيين إلى الكويت عقب قيام دولة إسرائيل عام 1948. وقد أصبح الفلسطينيون يكوّنون أكبر جالية عربية في الكويت. لذا فقد كانت هذه القضية هي محور البيان الرسمي الأول الذي ألقته الكويت في الأمم المتحدة عند قبول عضويتها في مايو عام 1963, عندما رفع الشيخ صباح صوت الكويت عاليًا ضد الظلم الجائر الذي يعيش تحت وطأته الشعب الفلسطيني, وإن طول المدة الزمنية لا يجرده من أرضه ومن حقه في العودة إليها. ولم تكن هذه مجرد كلمات ولكنها ترجمت إلى مساعدات بملايين الدنانير ذهبت لمساعدة هذا الشعب المنكوب على مواصلة حياته. وإبان الغزو العراقي للكويت برزت صلابة الرجل, وظهرت أيضا أهمية العلاقات الدولية التي استطاع أن ينميها على مدى هذه السنوات. فقد استطاع أن يحصل للكويت على تأييد دولي لم يسبق له مثيل. وقد قضى القرار الذي أصدره مجلس الأمن في 15 يناير 1991 أن تقوم الدول الأعضاء بالتعاون مع الكويت باستخدام كل الوسائل لإعادة السلم والأمن إلى المنطقة, الأمر الذي كان يعني موافقة الأسرة الدولية على الأعمال العسكرية ضد النظام العراقي السابق من أجل تحرير الكويت. في هذه الأزمة الحرجة كان صباح الأحمد من سعة الأفق, بحيث لم يحمل الشعب العراقي جريرة النظام الذي ساقه إلى الغزو, بل إنه أيضا لم يحمّل الشعب الفلسطيني وزر القرار الخاطئ الذي اتخذته قيادته بالانحياز إلى جانب النظام العراقي ولكنه ظل يفرق بين أفعال النظم والعلاقات الأخوية مع الشعوب. فالخصومة مع العراق لم يكن لها أي جذور تاريخية ولكنها أطماع النظام. والفلسطينيون شعب محاصر يجب علينا ألا نعاديه أو نزيد من معاناته. وقد تولى مهمة قيادة الوزارة في مرحلة حرجة إقليمياً وكويتياً, ففيها اقتحمت القوات الأمريكية العراق وأسقطت حكم صدام حسين, وأعلنت نفسها قوة احتلال تسعى لوضع العراق على طريق الديمقراطية. تجاوز الحاضر إلى المستقبل لقد شهدت الكويت مراحلَ ثلاثاً, تطورت فيها سياسياً واجتماعياً, حتى تأخذ مكانة الدولة الجديدة. بدأت المرحلة الأولى في وقت مبكر في نهاية القرن التاسع عشر, وبداية القرن العشرين, حين تولى الشيخ مبارك الصباح السلطة, وقرر تحويل الكويت من قرية صيد خاملة على ضفاف الخليج إلى إمارة تعج بالحركة التعليمية والنشاط الاقتصادي. لقد وضع حدود الإمارة وصاغ شكلها الابتدائي وسعى إلى حمايتها من كل الجيران الأقوياء الذين يحيطون بها, وعمل على وضعها ضمن الاهتمام العالمي, وفي الوقت نفسه سعى لتزويد مواطنيها بقدر من التعليم والثقافة, مما يزيد من حسهم بالانتماء والولاء. وشهدت المرحلة الثانية بداية الخمسينيات, حين تحولت الإمارة إلى دولة حديثة مع وصول الشيخ عبدالله السالم إلى الحكم, لقد كان هذا الرجل مفتوناً بالتحديث, وكان يدرك أن بناء الدولة لا يتأتى إلا من خلال المؤسسات القانونية والدستورية, لذا لم يكتف بوضع الأسس للتعليم الحديث والخدمات الاجتماعية والطبية والانفتاح على العالم, ولكنه قام أيضاً بإرساء قواعد الدستور, وجعله منطلقاً لكل قوانين الدولة, وسمح بإقامة المجالس المنتخبة وفصل ما بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية, وسعى إلى ضم الكويت إلى منظمة الأمم المتحدة والجامعة العربية ونقل الكويت من الإمارة إلى الدولة الحديثة. وقد سار خلفاؤه من بعده على النهج نفسه, ولم تغب عملية التحديث لحظة واحدة عن بناة الكويت, وأظن أننا لا نتجاوز الحقيقة والواقع عندما نقول إن وصول الشيخ صباح الأحمد إلى قمة السلطة بعد 100 سنة من عهد مبارك الصباح, 50 عاماً عن عهد عبدالله السالم, إن مراحل البناء هذه سوف تتدافع, فهو لا يمتلك خبرة التجربة العملية فقط, ولكنه يمتلك حس الرؤية المستقبلية أيضاً, وهو يتسلم في هذه اللحظة دولة تمتلك بنيتها التحتية, ومؤسساتها الراسخة, ومراكزها المالية المستقرة, اضافة إلى رصيد غني من التجارب تعلمت فيها خطوات الصواب والخطأ, وتجاوزت أشد أنواع المحن مرارة مثل محنة الاحتلال واستطاعت بسياسة الصبر والحكمة أن تقيم علاقة وثيقة مع محيطها العربي والإسلامي ومع العالم أجمع. شمولية الإصلاح إن مرحلة الألفية الثالثة التي يأخذ الشيخ صباح بقيادتها تعد مفصلاً تاريخياً ثالثاً في التحولات التاريخية التي مرت بها الكويت, وهي سوف تكون مرحلة ذات مواصفات خاصة, لأنها تأتي وسط تحولات كبرى يشهدها العالم أجمع. وتأتي أيضاً وسط رغبة عارمة تعيشها كل الشعوب, خاصة شعوب منطقتنا العربية, في الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي, وهو الشعار نفسه الذي رفعه الشيخ صباح منذ أن تولى قيادة مجلس الوزراء في عام 2003, وهو مازال يصر عليه ويعي ضرورته وأهمية تفعيله على المستويات كافة. والإصلاح الذي نحتاج إليه هو عملية مرَّكبة وشاملة, ولا يمكن إصلاح أي قطاع بمعزل عن الآخر, فالوطن كالجسد الواحد, إذا اختل فيه جزء تضعضعت فيه بقية الأجزاء, لذا فالإصلاح السياسي يتطلب المواكبة في إصلاح التعليم والثقافة, وفي كل مراتب السلطة, كما أن الإصلاح الاقتصادي يتطلب إصلاحاً إدارياً في كل مؤسسات الدولة, ويتطلب إصلاحا قانونياً أيضاً حتى لا تعوقه عن الانطلاق. لذا فإن شعار الإصلاح الذي رفعه الأمير الجديد منذ وقت مبكر, يجب أن تتم ترجمته إلى سياسات تنفيذية. فالإصلاح السياسي الذي حرص على إقراره عندما تولى مسئولية الوزارة, وهي منح المرأة حقها السياسي في الانتخابات, وأن تمارس هذا الحق السياسي على الأصعدة الانتخابية كافة, كما أن اختياره لدخول أول امرأة الى مجلس الوزراء يعني أنه قد هدم الحاجز الذي كان يقف بين المرأة وبين تولي المناصب السياسية في الدولة. كما أن عليه أن يقوم بتفعيل كل القوانين التي تحمي العملية الانتخابية من التأثيرات الطائفية والمذهبية والقبلية والوقوف بشدة في وجه حركة المال السياسي الذي يذهب لشراء الأصوات. وسوف يكون لإصلاح التعليم الأولوية في تفكير الأمير الجديد, فقد حرص دوماً على التنبيه لضرورة الانفتاح على منجزات العلم الحديث, واعتبار التعليم هو الوسيلة الوحيدة لردم هوة التخلف والانطلاق الى مستقبل نستطيع اللحاق بالعالم فيه. وكذلك تحويل العملية التعليمية إلى وسيلة للإبداع والابتكار وإطلاق الأفكار الخلاقة. ولا مناص أيضاً من الاهتمام بإصلاح الإدارة الحكومية التي وصلت إلى درجة كبيرة من الترهل والبيروقراطية, فلابد من تحويلها من قوة فوق مصالح الناس. إلى أداة لخدمة الناس وتنفيذ احتياجاتهم, وذلك بسن النظم واللوائح التي تحولها إلى أداة فاعلة ومخلصة ومدربة وقادرة على تنفيذ برامج الإصلاح, ويأتي على رأس برامج إصلاح هذه الإدارة أن يطبق قانون (الثواب لمن يعمل وينجز والعقاب لمن يتكاسل ويهمل). ونصل إلى الإصلاح الاقتصادي الذي سعى الأمير الجديد إلى تحريره منذ أن تولى مسئولية البلاد وحرص على تفعيل كل المشروعات التي كانت مؤجلة ومتعثرة, حتى يتم التوسع في البنية التحتية لتكون قادرة على مواكبة الزيادة السكانية والامتداد العمراني. إن الإصلاح الاقتصادي في حاجة إلى حماية إصلاحه, فلابد للدولة من فرض رقابة صارمة حتى لا تجعل من الفساد الإداري سبيلا لتعويق حركة هذا الإصلاح ولا بد من سن القوانين والتشريعات التي تحمي التنمية الاقتصادية بقطاعيها الخاص والعام, والحرص على تطبيق هذه القوانين بكل حزم ودقة لضمان سلامة وأمن الاقتصاد الوطني الذي هو في النهاية أمن وسلامة الوطن والمواطن. وتبقى الديمقراطية هي النقطة المضيئة في فكر الشيخ صباح الأحمد. فقد اتخذها نهج عمل وأسلوب حياة, وقد حرص على أن تمارس السلطة التشريعية حقها في الرقابة والتشريع, وأن تظفر المرأة بحقوقها السياسية, كما حرص على أن يبقى مخلصًا لفكره حتى وهو يتولى سدة الحكم أميراً جديداً للكويت.
|