العرب والتعصب.. مقاومة الخروج عن المألوف جابر عصفور

العرب والتعصب.. مقاومة الخروج عن المألوف

كان التعصب دائمًا في مواجهة كل ما هو حديث, فهو في اعتقاد المحافظين يعد خروجًا عن المألوف, وانتهاكًا لكل ما هو متوارث ومعتاد. في هذا المقال يواصل الكاتب بحثه عن جذور هذه العصبية في تاريخنا الأدبي.

لا يمكن أن نغفل - في هذا السياق - الخصومة بين القدماء والمحدثين التي شغلت العقود الأولى من العصر العباسي, وظلت مشتعلة إلى ما بعد أبي تمام الذي أصبح زعيمًا للمحدثين, في مقابل البحتري الذي أصبح تمثيلاً لمذهب القدماء. وقد اقترن التعصب للقديم بطوائف اللغويين الذين اعتادوا الشعر الجاهلي وألفوه, ودرسوه, فنفروا من أي شعر يخالفه, كما اقترن هذا التعصب بالفئات العربية المعادية للفئات الفارسية التي صعدت مع صعود الدولة العباسية. وأضيف إلى ذلك الطوائف الاجتماعية التي صدمتها المتغيرات الجذرية التي حدثت في العصر العباسي, مقترنة بتأسيس عادات وظواهر مغايرة, غير مألوفة ثقافيًا واجتماعيًا. ويلفت الانتباه - في هذا السياق - اقتران صفة (المحدثين) ومصدرها (الحداثة) لغويًا - بالفعل (أحدث) الذي يشير إلى بعض ما ينقض الوضوء تحديدًا, وإلى ما هو انتهاك للمتوارث والمعتاد, وخروج جذري على الأعراف التي أنزلتها الجماعة منزلة التسليم.

ولقد سبق أن أوضحت - في مقال سابق - أن حداثة الشعر, عند بشار بن برد وصالح بن عبدالقدوس وأبي نواس وأبي تمام وأقرانهم, قرينة مواقف متميزة من مثلث القيم الذي ينطوي على تصورات شاملة, تبدأ بالإنسان, وتشمل العالم, وتمتد لتنسحب على مفاهيم الألوهية من حيث صلتها بالإنسان والعالم. وقد كان الشعر المحدث لهؤلاء الشعراء تمردًا إبداعيًا يوازي غيره من أنواع التمرد الفكري. ولذلك كانت الصلة قوية بين الشعراء المحدثين والفلاسفة والمتكلمين من المعتزلة, كما كان التجديد في الشعر نوعًا موازيًا للتجديد في النثر, والتجديد في الموسيقى والغناء. ولذلك كانت دائرة الخصومة بين القدماء والمحدثين دائرة كبرى تشمل دوائر عديدة, متفاعلة في مجالات متباينة من حياة العرب في العصر العباسي, وهو العصر الذهبي للحضارة العربية في انفتاحها على المعمورة الإنسانية من حولها, وعلى التراث الحضاري السابق عليها, وفي تنوعها الثقافي الخلاّق الذي أتاح للجنسيات المتعددة من الموالي الإسهام الفاعل في الإنجازات الحضارية لهذا العصر.

فكر الموالي

ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكون أنصار المحدثين - دعاة الحداثة - من الموالي الذين أسقطوا الدولة الأموية وأقاموا الحكم العباسي, آملين في الوصول إلى وضع آمن.

وكانت الطليعة الفكرية لهؤلاء الموالي تتراوح, فكرًا, ما بين الاعتزال الذي يؤكد أولوية العقل وينفي التمايز بين البشر, والفلاسفة الذين تميزوا بشمول النظر, ومضوا في الاعتماد على العقل إلى نهايته القصوى. أما أنصار القديم فانحصروا في طائفتين على وجه التقريب.

الأولى: طائفة علماء اللغة الذين هم معلمون ورواة عاشوا على رواية الماضي الأدبي وتفسيره لغويًا. والثانية هي أهل السلف الذين تمسكوا بالنقل والتقليد, وردّوا المعرفة إلى الرواية فحسب, من غير نظر في الأدلة العقلية. وكان شعارهم القول الشعبي: (إياكم والقياس فإنكم إن أخذتم به حرَّمتم الحلال وأحللتم الحرام).

ولم يكن من الغريب أن يصدر عن بعض أنصار الحداثة ما يؤكد تعصبهم للجديد على إطلاقه, ونفورهم من القديم بكل ما فيه, وأن يصدر عن أنصار القديم ما يؤكد تعصبهم لما ألفوه, ولما كان بمنزلة رد فعل لحماسة المغالين من أنصار الجديد. ولذلك أجاب إبراهيم الموصلي الخليفة هارون الرشيد, عندما سأله عن الغناء القديم والمحدث, بقوله: (الغناء القديم كالوشي العتيق الذي يعرف فضله, ويُبين حسنه, بتكرار النظر فيه, والتأمل له, فكلما ازددت له تأملاً ظهرت لك محاسنه. والغناء المحدث كالوشي الحديث الذي يروقك منظره, فكلما تأملته بدت لك معايبه ونقصت بهجته). وهي عبارات لا تختلف كثيرًا - في انطوائها على مجالي التعصب والعصبية - عن العبارات التي ردّدها اللغويون المتعصبون للشعر القديم. وابن الأعرابي - عالم اللغة الشهير في الثلث الأول من القرن الثالث - يذهب إلى الاتجاه نفسه في الشعر, فيؤكد: (أن أشعار هؤلاء المحدثين - مثل أبي نواس وغيره - مثل الريحان, يُشمُّ يومًا ويذوي فيرمى به, وأشعار القدماء مثل المسك والعنبر كلما حركته ازداد طيبًا). وقال عالم لغة ثان هو أبو حاتم السجستاني, عندما استمع إلى شعر أبي تمام زعيم المحدثين: (ما أشبه شعر هذا الرجل إلا بثياب مصقلات حلقات لها روعة وليس لها مفتش). وهوقول لا يفترق كثيرًا عن رأي الأصمعي في شعر العباس بن الأحنف الذي تسخّطه, وجعله سخيف اللفظ, رديء المعنى أو ما قاله ابن الأعرابي عندما سمع شعرًا لأبي تمام: (إن كان هذا شعرًا فما قالته العرب باطل).

ويؤكد موقف ابن المعتز من بديع المحدثين التجاوب بين السياسي والديني والاجتماعي في العصبية التي انطوت عليها مواقف أنصار القديم المعادين لشعر المحدثين. وقد مال ابن المعتز إلى مذاهب أهل التقليد والنقل في التأويل الديني, ودعا إلى نفسه حين تطلع إلى عرش الخلافة بوصفه (الخليفة السني البربهاري) نسبة إلى مقدم الحنابلة في عصره, وصاغ كتابه الشهير (البديع) من منظور التهوين من شعر المحدثين بوجه عام, فاختزل جديدهم كله في خمسة عناصر, هي: الاستعارة, والطباق, والجناس, ورد العجز على الصدر, والمذهب الكلامي. وهي عناصر موجودة في كل الكلام فيما يزعم, وأن المحدثين أسرفوا فيها, فأساءوا و(تلك عقبى الإفراط فيما يقول). ولو كانوا قد تعاملوا مع هذه العناصر كما تعامل معها القدماء لأحسنوا, وكانوا مثل أسلافهم الذين لم يسرفوا إسراف المحدثين. والتعصب في موقف ابن المعتز قائم في مغالطته التي تختزل شعر المحدثين في عناصر بلاغية ليست هي ما يمايزه في نهاية الأمر, وفي نفي صفة الجدة عن شعرهم بردّ عناصر مذهبهم إلى القدماء, بما يجعل المحدثين عالة على أسلافهم الذين لم يحسنوا اتّباعهم.

صراع العرب والموالي

وكما لا يمكن أن نفصل الجانب السياسي (التحزّب للعباسيين) عن الجانب الاعتقادي (الانتساب إلى المتشددين من الحنابلة) عن الجانب الاجتماعي (المحافظة على التراتب الاجتماعي بما يؤكد موضع ابن الخليفة العربي القرشي الذي ارتقى سدّة الخلافة ليوم وبعض يوم) في موقف ابن المعتز المحافظ من شعر المحدثين, وهو الموقف الذي يتكرر في كتبه ورسائله, فإننا لا يمكن أن نفصل بين هذه الجوانب من حيث اقترانها باستمرار نزعات التعصب التي ظلت مستمرة في التراث العربي الإسلامي في تيارين متوازيين. أولهما التيار السياسي الذي اقترن بالصراع بين العرب والموالي, والذي انتهى بهزيمة العرب بانتهاء خلافة الأمين, وتصاعد نفوذ الموالي مع الخليفة المأمون. وقد أظهر كلا الحزبين من أشكال التعصب ما لم ينته بانتهاء عصر الأمين الذي كان آخر مجلى لنفوذ التيار العربي. ولم ينفصل عن هذا التيار المعارك التي دارت بين العباسيين - بعد انكسار التيار العربي - وخصومهم الذين ضموا الخوارج والشيعة الذين قتل منهم الكثيرون فيما ذكره الأصفهاني في كتابه الشهير (مقاتل الطالبيين). وتصاعد حضورالتعصب مع الصراع السياسي والأيديولوجي الذي دار بين الدولة العباسية بدعاتها والمدافعين عنها من ناحية, والدولة الفاطمية بدعاتها والمدافعين عنها من ناحية موازية. وقس على ذلك غيره من أنواع الصراع الذي لم يخل من التعصب في أحواله التي أدّت إلى كوارث كثيرة.

وقد أدّت هذه الكوارث إلى إيجاد نوع من التأليف يختص بالحديث عن (الفتن), ويقرن هذه الفتن بما يلازمها من (المحن) التي صارت نتيجة متكررة لكل أشكال الصراع الذي ظل منطويًا على التعصب. ومثال هذا النوع من التأليف (كتاب المحن) الذي كتبه محمد بن أحمد بن تميم التميمي المتوفى سنة 333هـ, وقبله (كتاب الفتن) لأبي عبدالله نعيم بن حماد المروزي المتوفى سنة 229هـ, وذلك في السياق التاريخي الذي تصاعدت محنه وفتنه إلى أن نصل إلى كتاب (النهاية في الفتن والملاحم) للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير المتوفى سنة 774هـ, ويكشف الكتاب الأخير - على وجه التحديد - عن شيوع وعي جمعي محبط, يملؤه اليأس والإحساس بانتهاء الدنيا وأفولها الذي يفضي إلى يوم القيامة, أو يوم الدين الذي يحل فيه العقاب الأكبر على كل من تسبب في الفتن والمحن, في تاريخها المحزن الذي هو تاريخ من التعصب المتصاعد. أما التيار الثاني الذي لا يقل قوة في تأثيره وتضافره مع التيار الأول فهو التيار الديني الذي تجسّد في صراع التأويلات التي اقترنت بالتحزبات السياسية, ودعمتها كما تدعّمت بها, وذلك في سياق تاريخي شهد تعصب المعتزلة لأفكارهم, ومحاولتهم فرض رأيهم الشهير في قضية (خلق القرآن) بالقوة على خصومهم. وهي المحاولة التي وصلت إلى ذروتها فيما عرف بمحنة ابن حنبل الذي تحمل السجن والاضطهاد, وظل على رأيه إلى أن ذهب الخليفة المأمون الذي تحالف مع المعتزلة, وأخواه المعتصم والواثق, إلى أن وصلنا إلى عهد المتوكل الذي قام بما يطلق عليه المؤرخون (الانقلاب السني), فنصر الحنابلة على المعتزلة, وأبطل الجدل والكلام, وأتاح لخصوم المعتزلة أن يثأروا منهم, وأن يطلقوا العصبية المكبوتة داخلهم, حسب القاعدة المعروفة: لكل فعل رد فعل, مخالف له في الاتجاه, ومساو له في القوة.

وكانت النتيجة العداء للفلسفة وإعمال العقل, ومطاردة الفلسفة التي هربت إلى أطراف الدولة الإسلامية, خصوصًا بعد أن كتب الغزالي كتابه الشهير (تهافت الفلاسفة).

وكانت أصداء هذا الكتاب - في القرن الخامس للهجرة - متزامنة مع تصاعد نزعة فكرية جامدة, استبدلت التقليد بالاجتهاد, والاتباع بالابتداع, والانغلاق بالانفتاح, والعصبية العرقية الدينية بالتسامح العرقي والديني. وتزايدت هذه النزعة مع تزايد عوامل الضعف والفساد التي دبّت في بناء الدولة الإسلامية, غير بعيدة عن طبائع الاستبداد التي يقترن بها الحكم المطلق, والاستبداد السياسي هو الوجه الآخر من التعصب الديني والثقافي, بل إن الاستبداد نفسه, في أي شكل من أشكاله, هو فعل من أفعال التعصب الذي تتعدد أوجهه ومظاهره السياسية والفكرية والأدبية والاعتقادية.

الاستبداد الفكري

ولذلك لم يواز الاستبداد السياسي للحكام الذين تعاقبوا في القرون المتأخرة من الحضارة الاسلامية سوى التعصب الفكري الديني الذي لم يتوقف, وأدى إلى خنق روح الإبداع والتفكير الخلاق في الحضارة التي انتهى ازدهارها إلى انحدار كامل في الأزمنة التي أطلق عليها اسم (عصور الانحطاط), وهي العصور التي كان استبداد حكامها الوجه الآخر لضعفهم وسرعة الانقلاب عليهم بأيدي مستبدين من أمثالهم, الأمر الذي اقترن بتزايد القمع للمخالفين سياسيًا, وفكريًا, وذلك بأشكال وحشية من التعذيب الذي يندى له جبين الحضارة.

وقد جمع هذه الأشكال عبود الشالحي في عمله المهم (موسوعة العذاب) بمجلداتها التي ترصد أنواع التعذيب المختلفة للمخالفين للسلطة السائدة, فكريًا, أو سياسيًا, أو دينيًا.

وليس أدل على ذلك, فكريًا, من أشكال التعصب التي اقترنت بأنواع عديدة من القمع الذي وقع على من تمسكوا بالنزعات العقلانية في القرون التي شاعت فيها مقولة: (من تمنطق تزندق). وهي القرون التي شهدت حرق كتب الفلسفة, أو الكتب المغايرة في الاتجاه كما حدث في حرق كتب الغزالي, وهو الحرق الذي اقترن بتعذيب الذين ألصقت بهم تهمة اقتناء كتب الفلسفة أو تعاطي علم الكلام وأمثاله من المجالات الفكرية التي اقترنت - في عقول التعصب - ببدع الضلالة المفضية إلى النار. وقد رصد جولدتسيهر آثار التعصب ضد العلوم الفلسفية, والعداء للاتجاهات العقلانية, في بحثه عن (موقف أهل السنة القدماء بإزاء علوم الأوائل) الذي ترجمه عبدالرحمن بدوي في كتابه (التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية).

وما حدث لابن رشد في الأندلس كان الصفحة الأخيرة البارزة في تاريخ التعصب المظلم, فقد أدّت هذه المحنة إلى خوف أهل الفكر من المضيّ في اجتهاداتهم العقلانية, خصوصًا بعد أن وقعت شبهة الكفر على كل مشتغل بالفلسفة, فانصرفت العقول عن صناعة الحكمة, ولم يقم بعد ابن رشد فيلسوف كبير يكمل عمله, وانشغل محبو الفكر بالدفاع عن أنفسهم وإثبات إيمانهم, وتسلط منطق المكفّرين من المتعصبين, فانحدرت الحركة الاجتماعية الفكرية, في موازاة انحدار الحركة السياسية التي أطاح بها صراع أمراء الطوائف وملوكهم من المستبدين الصغار الذين تحالفوا مع التعصب على غروب شمس الحضارة العربية.

التسامح ضد الكوارث

ولا بأس - في النهاية - من تقبل ما يقال من أن التعصب هو السبب الذي يستدعي نتيجته ونقيضه. فالتسامح هو الضد الذي يترتب على ضده, ويواجهه بما يقوّض من أسسه, ويعالج أسبابه, ويتصدى لآثاره الماثلة في تجلياته وظواهره العديدة. وإذا كان علينا البدء بفهم التعصب من حيث هو مفهوم وظاهرة, ووضعه موضع المساءلة التأملية التي تتيح لنا فهم أسبابه كي نتجنبها, وملاحظة ظواهره كي نظل على حذر منها وانتباه لأخطارها, فإن الإلحاح على التسامح يغدو ضرورة نواجه بها الكثير من الكوارث التي لاتزال تنتج عن التعصب, ولايزال يغتال الآلاف المؤلفة من الذين أوقعتهم شروطهم التاريخية أو أحوالهم الاجتماعية أو أوضاعهم السياسية في براثن التعصب الذي ينتج أفعال القمع التي تتسلط بها طائفة دينية أو سياسية أو اجتماعية على غيرها من الطوائف, وتحرمها حق الوجود والحضور, وذلك في سعيها إلى استئصال نقائضها بكل الطرق الممكنة ماديا ومعنويًا.

لَيسَ فِي الغَابَاتِ عَدلٌ لا وَلا فِيهَا العِقاب ْ
فَإِذا الصَّفصافُ أَلقَى ظِلَّهُ فَوقَ التُّراب ْ
لا يَقولُ السّرو هَذي بِدعَةٌ ضِدّ الكِتاب ْ
إِنّ عَدلَ النَّاسِ ثَلجٌ إِن رَأَتهُ الشَّمسُ ذابْ


(جبران خليل جبران)

 

جابر عصفور