هل يستطيع العالم أن يتجنب الحروب والنزاعات المسلحة?

 هل يستطيع العالم أن يتجنب الحروب والنزاعات المسلحة?
        

          يرى البعض أن الحروب لازمت المجتمع البشري في مختلف ظروفه وتقلباته, حتى بات الإنسان يعتقد أن الحرب من طبيعة الأمور, وأنه لا مفر منها من وقت لآخر, لتجديد النشاط وبعث الحيوية في شرايين المجتمع فهل هي.. كذلك حقا?

          ساد هذا الاعتقاد في عقول بعض الساسة والقادة وتغلغل في أذهانهم منذ أقدم العصور حتى اليوم, بل إن عدداً لا يستهان به من كبار المفكرين قد رأى في الحروب ظاهرة إيجابية ونادى بتشجيعها, إذ عّدها امتدادًا طبيعياً للعمل السياسي, وبخاصة في مجال السياسة الخارجية.وذكر أبو النصر في كتاب جولة في القضايا الدولية المعاصرة (1995), أن مفهوم الحرب هذا ظل سائداً لدى العديد من المفكرين حتى برزت أسلحة الدمار الفتاكة على الساحة والتي تأتي بالخراب والدمار والقتل الجماعي والمعاناة البشرية, فكان لا بد من وقفة تفكير وتأمل وإعادة النظر في مسألة قبول الحرب أو اللجوء إليها, كما كان سائداً من قبل. وقد ساعد على ذلك زيادة القوة التدميرية للحروب التي أتاحت التكنولوجيا الحديثة توفيرها, وتكاد تصل إلى درجة الانتحار الجماعي للبشرية بأكملها.

          وكان للآثار الخطيرة للحروب مفعول الصدمة الصاعقة التي هزت أسس التفكير لدى المجتمع قادة وساسة وأفراداً عاديين. وبات من المسلم أن الحرب أمر غير مرغوب فيه, لأنها شر مطلق, كما كشف الواقع الملموس. بيد أنه لتجنبها كان لابد من فض المنازعات بين الشعوب والدول بالطرق السلمية واللجوء إلى المفاوضات شريطة توافر معطيات فكرية وأيديولوجية وعاطفية لتغليب ظاهرة السلام.

ظاهرة الحرب.. المفهوم والتعريف

          الحرب لغة هي القتال بين فئتين. وورد ذكر الحرب في القواميس المختلفة: فالحرب في المورد تعني حالة الحرب أو فن الحرب, وهي تعني العداء والخصام والتصارع. وفي قاموس اكسفورد تعني كلمة الحرب War التحارب, وجاء حرب بلا هوادة knife to the War أي حرب شعواء اشتد وطيسها. وفي قواميس أخرى تعادل كلمة war كلمة figth و Battle وكلها على وجه التقريب تعطي المفهوم نفسه. وجاء في الموسوعة العربية العالمية (1996) أن الحرب هي صراع بين مجموعتين كبيرتين تسعى إحداهما لتدمير الأخرى.

          ويؤكد البعض أن الحرب بمفهومها المعاصر ـ نظراً لخطورتها القصوى ـ باتت مرفوضة, لأنها شر مطلق يجب الامتناع عنه. وقد نادت قلة من المفكرين المصلحين في قرون خلت بوقف الحرب ونبذها, فيما كان القادة العسكريون والسياسيون ينظرون إلى الحرب على أنها عمل سياسي بوسائل مختلفة, أي بمعنى أنها عمل مشروع, أما اليوم فيجمع الناس على أن الحرب أمر يجب عدم الاقتراب منه, حتى ولو كانت عادلة. والجدير بالذكر أنه حتى المنافقون من الساسة والقياديين لا ينفكون عن التغني بمنافع السلام والأمن ومهاجمة العسكريين والمتهورين, الذين لا يترددون في خوض غمار الحرب.

          ويرى كنسي رايت Quincy Wrigth, الذي يهتم بالمظهر التشريعي للحرب, أن الحرب هي الأساس القانوني الذي يتيح لجماعتين, أو عدة جماعات متعادية, أن تحل النزاع بينها بقواتها المسلحة. أما كلوفتز Clouvtz فيذكر أن الحرب عمل من أعمال العنف يهدف إلى إرغام الخصم على تنفيذ إرادة الآخر. ويرى آخرون مثل مارتين martin أن الحرب عبارة عن صراع بين الناس أو بين دول مستقلة, ويعرِّف فون بوجلسيلافسكي von Pogulslawaski الحرب بأنها المعركة التي تشنها جماعة معينة من الرجال أو القبائل أو الأمم أو الشعوب أو الدول ضد جماعة مماثلة أو شبيهة لها. ويعرِّف لوجرجت Le gorgette الحرب بأنها حالة من الصراع العنيف الذي يقوم بين جماعتين أو عدة جماعات من أفراد ينتمون إلى النوع نفسه بناء على رغبتهم أو إرادتهم. واقترح توماس بلاس وزملاؤه في كتابهم (العنف والإنسان) (1990) تعريفاً آخر يقول: إن الحرب صراع مسلح ودموي بين جماعات منظمة, وهي صورة من صور العنف لها خاصية أساسية, هي أنها منهجية ومنظمة بالنسبة للجماعات التي تقوم بها, وبالنسبة للطرق التي يديرونها بها, وهي قواعد تتغير وتتبدل تبعاً للأماكن والعصور, وتكمن خاصيتها الأخيرة في كونها دامية, إذ إنه عندما لا تؤدي الحرب إلى تدمير حياة البشر لا تعدو أن تكون نزاعاً أو تبادل تهديدات.

الحروب لها أسبابها

          هناك أسباب عديدة تشعل الحروب في العالم, منها المرتبطة بمحاولات السيطرة على المواقع الاستراتيجية التي تربط يابس العالم بمحيطاته, كالجزر والمضايق (مثل سيطرة بريطانيا على العديد من المضايق في العالم القديم), من أجل تسهيل طرق التجارة, وضمان أقصر الطرق للأساطيل عبر البحار. ومنها أسباب تتعلق بالاستحواذ على الثروات الطبيعية من مواد أولية وخامات صناعية ومواد طاقة أو حروب المياه التي شهدها العالم وسيشهدها في المستقبل القريب.

          وهناك أسباب سياسية للحروب تتمثل في تسلط الأنظمة الفاشيّة والديكتاتورية على مقدرات الشعوب, واستيلاء الأقلية الفاعلة على مصالح الأغلبية. ويحكي التاريخ أمثلة لهذه الأنظمة في الماضي في دول مثل إسبانيا والبرتغال واليونان وبولونيا وإيطاليا, ويؤدي ذلك بالطبع إلى انتفاضات شعبية, وحركات رافضة, وتصادم بين الشعب والحكومة تنتهي بحروب أهلية. وتأتي مشكلات الحدود كبواعث أساسية للحروب بين الدول, فقد ذكر كاشمان (في كتابه لماذا تنشب الحرب, الصادر عام 1996) أن النزاع الإقليمي على الحدود وادعاءات الأحقية في تعديل مسارات الحدود ما فتئت تنشب من أجلها الحروب, كما حدث بين العراق وإيران على شط العرب, والنزاع السوفييتي على الحدود على نهري آمور وأوسري, والخلاف الحدودي بين الصومال وإثيوبيا على منطقة أوجادين, فضلاً عن الحروب في دول العالم الثالث الأخرى, ومن بينها دول في الوطن العربي.

          ولا يمكن أن نغفل المشكلات الطائفية والعرقية كبواعث أساسية للحروب, حيث تعاني بعض الدول من تركيبة سكانية معقدة, تختلط فيها الأعراق والطوائف, مما يترتب عليه العديد من المشكلات السياسية والاجتماعية, التي سرعان ما تتطور إلى توتر بين الطوائف وبعضها أو بين الطوائف والحكومة, ومن ثم تنقلب إلى حروب أهلية. والأمثلة على ذلك كثيرة: (أكراد العراق ــ خاصة قبل الإطاحة بالنظام السابق ــ والأقليات الزنجية في السودان ــ قبل التوصل إلى الاتفاق الأخيرــ وبربر المغرب العربي, والمشكلات في تركيا وقبرص وباكستان). وهناك أسباب للحروب تأخذ أشكالاً دينية, مثل الحرب الصليبية ضد الشرق والمسلمين في فلسطين, والحروب الأهلية بين البروتستانت والرومان الكاثوليك في الولايات الألمانية, وحديثا تعرض المسلمين في البوسنة والهرسك إلى حملة شرسة استهدفت الكيان والوجود. وهناك أسباب أخرى عديدة للحروب لا يتسع لها المجال, مثل الحروب الاقتصادية التي تقوم نتيجة كساد اقتصادي إلى مشكلات سياسية خارجية, فضلاً عن حروب أخرى ترتبط بعوامل نفسية, فقد ربط البعض بين النزعة الحربية ومركبات هي أساس التحليل النفسي, ومن بين هذه المركبات مركب الفشل ومركب الشعور بالذنب والإحساس بالنقص في جميع صوره.

هل يستطيع العالم تجنب الحرب?

          يرى بعض الباحثين إمكان تجنب الحروب في العالم وسيادة ثقافة السلام, فقد خلصت آراء كل من كوهين COHEN وويليام WILLIAM وويد WEED وراي RAY إلى أن السلام يمكن أن يتحقق عن طريق محاور مختلفة أهمها التركيز على التعاون والتبادل الاقتصادي بين دول العالم من أجل تحقيق السلام والتفاهم, فضلاً عن سيادة النهج الديمقراطي. وفي هذا السياق يؤكد ماوز MAOZ على دور الديمقراطية في تحقيق السلام ويذكر أن الديمقراطيات نادراً ما تصطدم إحداها مع الأخرى, ولا تخوض إحداها حربا ضد الأخرى, وظهر أن هناك علاقة بين الديمقراطية والسلام على الأقل بالنسبة للفترة بين عامي 1946 و 1986.

          ويرى البعض أن نزع الأسلحة والحد من سباقات التسلح ـ وهي عامل رئيسي يغري بشن الحروب وإثارة النزاعات ـ يبقى أمرًا ذا أهمية كبيرة للمجتمع الدولي, وذلك لوجود ارتباط بين نزع الأسلحة والتنمية, فنزع السلاح يمكن أن يسهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية عن طريق تحقيق السلام وتخفيف حدة التوترات الدولية, وكذلك عن طريق رفع القيود عن الموارد المستخدمة عسكريا لاستثمارها في الاستخدامات السلمية (مثال ذلك مواد إنتاج الطاقة النووية).

          ويعتقد بعض الباحثين ومنهم أديب أبي صناهر (تجارة السلاح أسرار وأرقام, 1992) أن نزع الأسلحة يحقق مزايا عديدة منها توفير الأموال والإمكانات المادية لمجالات حياتية مهمة مثل تطوير العلوم والطب من أجل مصلحة الإنسان, وتوفير الطاقات المادية في الدول المتقدمة لاستخدامها في محاربة المرض والجهل والجوع والتخلف في العالم النامي, من أجل التعاون والرخاء بين شعوب العالم. كما أن تخفيض نفقات التسلح في عهد السلام يؤثر إيجابياً على التنمية, ويجعل قادة الدول النامية يلتفتون إلى أولويات في بلدانهم كانت غائبة في الخطاب السياسي والخطط الاقتصادية. ولا شك في أن توفير الأموال التي تنفق في سبيل تطوير الأسلحة التقليدية والجرثومية والكيميائية والنووية لاستخدامات سلمية كتطوير أبحاث أمراض السرطان والإيدز والأمراض الفتاكة الأخرى هو أنفع وأجدى, ويسهم في إيجاد قاعدة سلام تجنب العالم شرور الحروب, كما أنه بإمكان العالم تخفيض ميزانيات البرامج النووية العسكرية لصالح تطوير الموارد المائية وأبحاث البحار والهندسة الإليكترونية وأبحاث التلوث, وتنمية وتطوير شبكات النقل, وغيرها من المجالات التي تعود على الإنسان بالنفع, وتشعره بالأمن والأمان وتبعد عنه شبح الحروب.

          ويرى بعض الباحثين أيضاً إمكان تحقيق السلام عبر ما يعرف بالتقدم الأخلاقي, إذ يمكن وضع نهاية للحروب الدولية عبر القبول الواسع والشامل للقاعدة المتعارف عليها, وهي أن شن الحرب أمر غير مقبول على أسس عقلانية أو أخلاقية, وخاصة أن العالم قد رفض الأفكار غير السوية في السابق مثل ظاهرة الرق بعد بزوغ عصر التنوير, وأيد المفاهيم التي تدعو إلى العدل والمساواة ومنح الإنسان جميع حقوقه.

تجنب الحروب.. وجهة نظر خاصة

          فيما سبق طرحنا بعض الآراء والآليات التي تدفع باتجاه تحقيق السلام في العالم, بيد أن لكاتب هذه السطور تصورات خاصة في مجال تحقيق السلام, ونبذ ظاهرة الحروب في العالم ومنها ما يلي:

          1- تفعيل سلطة محكمة العدل الدولية للنظر في الصراعات والاعتداءات وإصدار الأحكام ضد أية دولة معتدية, على اعتبار أن ذلك يعرض الأمن الدولي للخطر, ومن ثم التشاور مع مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن تنفيذ الأحكام والعقوبات الصارمة ضد هذه الدولة.

          2- التزام جميع الدول الأعضاء بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن بعدم التعاون مع هذا المعتدي أو ذاك, مع المراقبة الفعلية لسلوك الدول الأخرى التي يعتقد أنها يمكن أن تخترق هذه القرارات. وتأكيد التزام المجتمع الدولي عدم الكيل بمكيالين, وتطبيق العقوبات على جميع الدول الأعضاء دون استثناء أياً كانت هذه الدول.

          3- يكون اعتماد النهج الديمقراطي كسلوك للدول في سياساتها الداخلية مطلباً عالمياً, (تراقبه المنظمات العالمية ذات الاختصاص), وذلك لتحقيق العدالة والمساواة, دون التوقف عند اعتباره شأناً داخلياً يمس السيادة الوطنية, فهناك مؤسسات تتدخل إنسانياً لدى العديد من الدول وتناشدها إطلاق الحريات مثل اللجنة الدولية لحقوق الإنسان دون أن يقال إن ذلك مساس بالسيادة الوطنية.

          4- فرض رقابة صارمة على تجارة السلاح, بحيث يكون التسلح بالقدر الذي يحفظ سيادة الدول, ولا يتعدى ذلك إلى التسلح من أجل تهديد الغير, مع إدانة الدول الرئيسية في سوق السلاح الدولي في حالة خرق هذه المبادئ, وملاحقة عملاء وسماسرة السلاح كمجرمين دوليين.

          5- توجيه جزء (ولو كان متواضعاً) من الإنفاق العالمي المخصص لتطوير برامج التسلح وعلوم الفضاء الخارجي وحرب الكواكب إلى تمويل البحوث الخاصة بمشكلات العالم الثالث الاقتصادية والاجتماعية.

          6- تطوير برامج المساعدات من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة, بما يكفل الحد من ظاهرة الفقر والجوع والمرض, ويتيح الفرص لخدمات أفضل, على اعتبار أن هذه الأمور تعتبر من البواعث الرئيسية, والأسباب الكامنة وراء ظهور النزاعات المسلحة والحروب المحلية والإقليمية.

          7- تشجيع إنشاء جمعيات للسلام ونبذ الحروب في غالبية دول العالم, تسهم من جانبها في نشر ثقافة السلام والوعي السلمي, وتقرب وجهات النظر بين الدول المتخاصمة, وترتبط فيما بينها - إن أمكن - لتعزيز التفاهم الدولي خاصة بين الشعوب.

          8- إسهام الأمم المتحدة وبشكل يتسم بالجدية من خلال منظماتها المتخصصة في مناقشة مشكلات العالم الثالث والدول النامية قبل أن تستفحل, واقتراح الحلول لها, والسعي وراء تمويل الإجراءات القاضية بتنفيذ وتفعيل هذه الحلول.

          9- محاصرة أي خلاف أو نزاع في العالم, محلياً كان أو إقليمياً, قبل أن يتطور ويتفاعل إلى حرب أو تدخلات عسكرية أو مواجهات, إما عن طريق منظمات إقليمية نشطة أو عن طريق مجلس الأمن مباشرة.

          10- اعتبار الاتفاقات والمعاهدات الدولية بين الدول المسجلة والموثقة في الأمم المتحدة والمحافل الدولية وثائق نافذة وملزمة لأطرافها ولا يجوز التنازل عنها أو إنكارها أو رفضها أو العبث ببنودها.

          11- اعتبار الأنظمة السياسية التي تثير القلاقل والنزاعات في إقليم ما من العالم بشكل متكرر ودون وجه حق - وتمثل ممارساتها خطرًا على السلام الدولي وخروجاً على ميثاق الأمم المتحدة - أنظمة مشاغبة, يجوز عزلها وعدم التعاون معها حتى تعدل عن نهجها العدواني وبشكل واضح.

          وقبل كل هذا وذاك يجب أن تتوافر النيّة الصادقة والرغبة الأكيدة والإجماع الدولي للتصدي لظاهرة الحروب والنزاعات المسلحة من أجل التقدم والتنمية لصالح الإنسان أينما كان.

 

غانم سلطان