أصابع متطابقة بسمة الخطيب

أصابع متطابقة

تعثّرت أصابع يدها بالمنديل الورقي الخشن الملمس. تركته في جوف الحقيبة وعاودت البحث عن بطاقة السفر.

منذ أيام تتفحّص هذه البطاقة وتتمنّى لو أن عينيها تخطئان قراءة تاريخ العودة. ولكنها مع الأسف تتأكّد أنه لم ينقص ساعة واحدة.

أعادت البطاقة إلى الحقيبة وسرحت مجدّداً في البحر المطلّ من النافذة اليتيمة في غرفتها. كان عدم وجود شرفة يزيد من غربتها في هذه المدينة التي تزورها للمرّة الأولى. منذ وصلت يرافقها شعور بأنها محاصرة, مع أن أهمّ ما يفرحها في حلقات التدريب الخارجية هذه هو إحساسها بمساحة أوسع من الانطلاق والحرية.

ولكن في هذه المدينة الساحلية بالذات وجدت نفسها خائفة ولسبب لم تشأ البوح به لنفسها.

عصر الغد ستعود الطائرة بها إلى بيروت, وستنتهي هذه الحلقة من المشاعر المرتبكة المتواترة كحركتي المدّ والجزر.

تساءلت, بما أنه لم يعد أمامها سوى ساعات معدودة: لماذا لا تطلق سراح الأرقام المسطورة في المنديل الخشن?

حينها ستحظى برفقة أحد أبناء هذه المدينة الذي وعدها, وهو يكتب على المنديل عنوانه وهاتفه بأيام لا تنسى. في تلك اللحظة, منذ سنتين, تمنّت أن يتحقّق لقاؤهما. كانت الصدفة قد جعلت كرسيه إلى جانب كرسيها في مطعم أجنبي مطلّ على ساحل الخليج, حيث يشاركان مع مجموعة من الأطباء الصيادلة في بعثة تدريبية علمية. وبعدما فشلا في العثور على ورقة لتبادل العناوين سحب المنديل الذي يحمل اسم المطعم وشعاره وكتب عليه بخطٍّ رقيق عنوانه ورقم هاتفه.

إنها حقاً كيمياء تلك التي تجمع بين قلوب البشر, فخلال تلك الجلسة القصيرة واليتيمة كانت على وشك أن تحكي له أحرج خصوصياتها. ولكنه استمهلها, ورفض أن يستغلّ اندفاعها العفوي. وبينما هو يسلّمها المنديل قال إن هاتفه دولي ويرافقه في كل مكان :(اتصلي في أي وقت).

ولكنها لم تتّصل. طوال سنتين لم تجد ما يمكنها قوله. كما لم تفكّر في نقل العنوان إلى دفتر الهواتف, ولم تخرجه من حقيبتها. صحيح أن خشونته خفّت مع الأيام لكنه صمد أكثر من المتوقّع.

تمنّت تلك الليلة في ذاك المطعم لو أنها تستطيع ترك زملائها لتنطلق حافية فوق رمال الخليج. كلما التفتت إلى محدّثها جذبتها الرمال المستكينة, حتى أنها أفلتت إحدى فردتي حذائها ذي الكعب العالي الذي تحتّمه مناسبات رسمية كهذه. لكنها سرعان ما عادت إلى رصانتها ولبست فردة حذائها, وتحمّلت ألمها حتى وصولها الى غرفتها في الفندق, حيث كانت ستمضي ليلتها الأخيرة في هذه العاصمة, وحيث لن تعود إلى رؤية زميلها النبيل واللطيف.

تقول في نفسها (إن كلّمته الآن والتقينا فلن يكون في الأمر خطر أو ورطة. سنتحادث في أمور عامة وقد يقلّني إلى المطار وينتهي كل شيء).

تستلقي فوق السرير وتغمض عينيها لتدرس مخاطر خطوتها المقبلة. تغفو ثم تفيق مذعورة, كعادة غفواتها النهارية غير المدروسة. تسمع أثناء غفوتها صوتاً مألوفاً يناديها, بالرغم من أنها ألفته لا تستطيع أن تتبيّن إن كان لإمّها أو أبيها ... تتابع مشيها غير قادرة على التلفّت إلى الخلف, مصدر الصوت, موحية أنها لا تسمع, متهرّبة من الأوامر والتحذيرات التي تلاحقها. تسرع خطوها, تعدو, تركض, والصوت يستمرّ بالالتصاق بظهرها. تتحول النداءات إلى رعب حقيقي إذ يعلو صداها ويتكرّر عشرات الأضعاف, فتتعثّر بحصاة كبيرة وتدمي أصابع قدمها وتقع. وهنا تفيق وتستجمع أنفاسها وتضغط على قلبها الذي ينتفض من مكانه لائذاً بالفرار.

تنتشل الورقة العاجية وتنقر الأرقام.

يصيح باسمها لمجرد سماع صوتها ولكنتها. يقول إنه سيكون عند مدخل الفندق بعد ربع ساعة.

في سيارته الصغيرة المخملية المقاعد يتكلّمان, يعاتبها لأنها لم تتصل به فور قدومها, فتلفّق له مجموعة من الحجج.

يعرف جيداً أنها كانت تتهرّب منه. يشعر بالبرد الذي يهزّ أطرافها. ولكنه لا ينجح في كبت دعوته لها لتمضية ما بقي لها من ساعات برفقته.

يقول: (اطلبي ما تشائين. سأحقّق لك أمنية غالية تتمنينها... ماذا تتمنّين في مدينة تزورينها للمرة الأولى, لا يعرفك فيها أحد, لا يلاحقك أو يعاتبك أحد?).

لم تتوقّع يوماً سؤالاً كهذا. ولم تسأل نفسها يوماً عن أمنيتها. تمسك حافة المقعد المخملية وكأنها تستعين بها. يعجبها ملمسها فتمسك بيدها الثانية حافة أخرى وتشعر أنها غارقة في قلب زهرة.

ماذا تتمنّى?

الأماني التي خطرت على بالها كزوال الظلم وتأمين بيئة سليمة فوق كوكب الأرض, العثور على كنز,... لم تكن تجرؤ على الإفصاح عن أي منها. حتى تلك اللحظة كانت تتجنّب أن تركّز النظر الى عينيه, ولكنه تنهّد فجأة وكأنه مستاء منها فنظرت الى وجهه لتتبيّن الأمر. عندها استعادت إحدى لحظات السهرة وتذكّرت الرمال البيضاء التي كانت تلمع خلفه وتدعوها إليها.

قالت مبتسمة بينما الفكرة لم تكتمل في ذهنها: (خذني إلى الشاطئ).

تركت مضيفها في السيارة من دون كلمة. خلعت حذاءها من رجليها, وتنهّدت فور تحررها من الحذاء. انطلقت نحو الرمال الرطبة والزبد الناعم.

مشت بهدوء وكأنها تنتظر أن يلحق بها لكنها بعد عدة خطوات نسيت وجوده تماماً. راحت تدندن وتتهادى ترسم بأصابع قدمها اليمنى خطوطاً ودوائر وحروفاً فوق الرمال ثم تسرع إلى المياه لتغسل قدمها. ما إن تلمس المياه حتى تقفز هاربة منها, ضاحكةً, كأنها طفلة تلاعب أباها. لا تكترث لبنطالها المبلول بالمياه المالحة تتابع المشي والغناء. ثم تتعثّر بحصاة ولكنها لا تقع. تنزع الحصاة من الرمال وتراقبها ملياً. تماماً كما تخيّلتها. بيضاء ملساء خبيثة. تسمع نداء, تفلت الحصاة وتلتفت. لأول مرة لا تهرب من النداء.

(رأيتك تتعثّرين, هل أنت بخير?)

جلسا فوق صخرتين بارزتين تحيطهما الرمال.

قالت:

(إنها أمنية قديمة. عمرها وعمري واحد. كيف أختصر لك عمري?)... أمسكت حفنة رمال وراحت تذروها فوق كفّ يده, ثم تابعت: )منذ سنواتي الأولى اكتشف أبواي تشوّهاً خلقياً في قدميّ, لدي أصابع شبه متساوية حجماً وطولاً. هذا قبيح ومؤلم, وعلاجه الوحيد تمرينات يومية وحذاء طبي خاص لا يشبه أحذية الأطفال. كان لونه أسود ويشبه أحذية الجنود, قاتم وصارم, يفاجئ أقراني ويدفعهم الى السخرية مني, كنت أحسّ بالغربة بينهم, وبالخجل.

... كانوا ينطلقون حفاة, يعدون, يسرعون, وأنا مكبلة القدمين. ويوم كنت أخلعه خفية عن أهلي كان أمري يفتضح بسرعة اذ أقع بين خطوة وأخرى وتمتلئ ساقاي بالخدوش وتنزف ركبتاي. في المساء أعاقب.

لا, لا يضربونني. مجرّد نظرة غضب من أبي تجعلني أبكي طوال الليل, مجرد تنهيدة أسى من أمي تشعرني بمذاق الملح في فمي وفوق جروحي. ولكن جدتي لا تنظر إلا إلى خدوشي وتسارع الى تطهيرها, وصبغها بالدواء الأحمر, ثم ترشّ عليها بودرة بيضاء اسمها (رشوش) كي تجفّ وتلتئم بسرعة...

تحسّن الوضع فيما بعد, واستغنيت عن الحذاء الطبي, ولكن كان أوان الركض حافية قد مضى. كبرت بما يكفي كي أتّزن في مشيتي وتصرفاتي وحتى أحلامي. ازدادت القيود, بل صارت أكثر قسوة وألماً... وما زالت الى اليوم. كلما حلمت بمرج أعدو فيه أكتشف حين أطؤه أنه سجن جديد. ربما لأنني فقدت جدتي. لم أعد أضمن أن يضمّد أحد خدوشي, وينقذني من نظرات اللوم ).نفض الرمل عن كفّه ومدّه الى كفّها. تجمّد. لم يعرف ماذا يفعل. في مواقف كهذه يمكن للبطل الفارس أن يضمّ البطلة الحسناء إلى صدره ويقبّلها ويخفّف عنها... ولكنه ليس فيلماً سينمائياً ما يحدث في هذا الليل الغريب الذي لم يتوقعه أحد منهما.

همّ أن يطلب منها أن يعودا. وجد أن في هذا الحلّ الوحيد للمأزق الذي تورّط فيه. فنطقت وهي تبتلع دمعة خجولة: (لنعد). عندها أحسّ أنه يريد أن يبقى إلى الأبد معها, يستمع منها الى حكايات طفولتها ويلتقط دمعتها ويحضنها ويقبّلها...

وقفت فأمسك يدها بقوة يدعوها إلى البقاء, ولكنها قاومت, فوقف وأمسك ذراعيها بيديه, وقال يستمهلها: (لحظة أخرى...).

أرادت أن تقول له بينما هو يضمّ رأسها الى كتفه: (يشبه هذا فيلماً رومانسياً), أو (حلمت بهذا أيضاً), أو (طالما خفت من لحظة كهذه)... ولكنها قالت بحزن خرج من أبعد نقطة في قاع جسدها: (عرفت بزواجك).

توقّعت أن يفلتها ويرتبك, ولكنه همس في شعرها: (حرصت على أن تعلمي).

حينها فقط رفعت ذراعيها وطوّقته. أرادت أن تختفي تحت جلده... أن تبتلعها رماله المالحة.

انزلق من بين أصابعها المنديل الخشن. استقرّ فوق كاحل قدمها اليسرى, ثم انزلق إلى الأصابع المتطابقة... لم يطيّره النسيم كما توقّعت. لكنه انتُزع عن جلدها أخيراً.

موجة لطيفة حملته معها إلى البحر وابتلعت أرقامه وشعار المطعم والخطّ الرقيق و...

 

بسمة الخطيب