يدان (قصة مترجمة) رانكو مارينكوفيتش ترجمة: طالب عبد الأمير

يدان (قصة مترجمة)

نظرت إليهما مسترخيتين فوق المؤخرة, تغفو الواحدة في حضن الأخرى. كانت اليسرى تداعب اليمنى وهي ترقد في حضنها بأكثر مهارة وقوة وذكاء وجدية. ولو لم أكن أعلم بأنهما ولدتا من ذات الأم وبالتأكيد من ذات الأب, والأكثر من ذلك أنهما من نطفة واحدة, خلقتا بناء على رغبة الوالدين كي تستمدا قوتهما من الأرض, لقلت بأن اليسرى أكبر سناً.

جاءتا الى الدنيا نتيجة تجامع الأبوين ولحظات الانتشاء بينهما في ليلة ما. الآن هما تجوبان العالم, متجانستين متعانقتين أبداً. عانقت اليد اليمنى اليد اليسرى بأصبعها, حملتها بعناية ورقّة مثلما تحمل الكلبة جروها, واليسرى تغدو كطفلة في المهد, تقفز على إبهامها من أصبع لآخر وهي تغني: دو ري مي فا صول, وتنقر على الأصابع إيقاعاً حماسياً. سألتها اليمنى:

- ماذا تفعلين?

أجابت: ماذا يمكن أن أفعل? أغني.

- تغنين? وماذا تغنين?

- أغني دو ري مي فا صول بلحن حماسي.

- لحن حماسي كما لوكنت جندياً, إن هذا لغباء,

- أنا أعرف, على الأقل, كيف أتصفح الكتاب, وأنت حتى هذه لاتعرفينها, كل ما تعرفينه أنت هو كيف تمسكين له الكتاب عندما أتصفحه أنا. هو يقرأ وأنا أتصفح, أما أنت فمهمتك الإسناد فقط, وهذا كل ما تجيدينه. فلم يسبق لك أن تطلعت في كتاب. إنك تعرفين الكتب من أوزانها ولكنك لاتفهمين محتوياتها.

- وأنا أعرف أن أتصفح, ولو تيسر لي لعرفت القراءة أيضاً, وأفضل منك.

- أكنت تعرفين تحريك الدمى بأصابعك?

- لكنت بالطبع.

- ولكنت تتقنين التصوير?

أستطيع أن أفعل كل شيء بنفسي.

- وأن تشدي ربطة العنق?

- نعم.

- وأن تقطري في العيون?

- حتى هذه أستطيع أن أفعلها.

- وأن تحلقي له ذقنه?

- وأحلق له ذقنه.

- ولكنه لايعطيك ماكينة الحلاقة.

- لم لا? لحلقت له أفضل منك.

- لكنت جرحت له حنجرته!

- أنا لست قاتلة, هذا ماتفعلينه أنت. وعلى أية حال فهذا ماحاولته مرة معي.

(خيم الصمت قليلاً, صمتت اليد اليمنى, إرتعشت عند سماعها هذه الكلمات, وكأنها فوجئت بسيل من الذكريات). تصورت أنه أراد أن يفعل ذلك حقاً, أردت فقط أن أكون مطيعة له. قالت اليمنى وهي تشعر بالمهانة وتأنيب الضمير.

- مطيعة? إنه لم يأمرك بقتله.

- إن رغبته بالنسبة لي أمر, كنت اعتقدت أنه أراد ذلك حقاً?

- آها! تريدين القول بأنه غير صادق? آ. عفوك, من قال لك إنه أراد ذلك?

- أنا أعتقد أنه رغب أن يفعل ذلك. فقد ظل يتألم طوال الليل ولم يغمض له جفن. مسحت له قطرات العرق التي تصببت على جبينه, أشعلت له سيجارة بعد أخرى وكتبت له رسالة وداع. تشنج وأخذ نفساً عميقاً ثم أخذ يصرّ بأسنانه على الوسادة وهمس بصوت خفيض: (يجب أن أضع حداً لهذا, لا أستطيع أن أتحمل أكثر, لا أستطيع أكثر), ثم قادنى هو الى أن أمسك بالموسى.

- وعند ذاك عرفت بأنه أراد قطع عروقه?

- كفى, لاتعذبيني ماذا كان بمقدوري أن أفعله, إذا كان هو قال لي ذلك.

- ماذا قال هو? بأنه لايتحمل أكثر? وأنه يجب أن يضع حداً لمأساته? إن ذلك كله كان كلاماً لايأتي من رغبة, ولكنه ينساب على اللسان, ومن السهل على اللسان أن ينطق بأي شيء من هذا القبيل. الموتى هم فقط من تضمهم الكتب التي تتصفحينها.

اقذفي باللسان في عالم الكلمات (وعلى أية حال, فالكلمات هي ذاتها المعروفة منذ زمن بعيد). والعالم يظل يواصل المسير, يأكل ويشرب وينام, وثانية ينطق بكلمات, وثانية لايحدث شيء. إن العالم يود أن يقول شيئاً ولكن رغبته لايبرزها بالكلام. إنه يترك الكلمات كي يخفي بها الأماني. الكلمات قناع, وهو لا يرغب بفعل مايقوله.

- آه, كيف لنا أن نعرف ماذا يريد, إذا لم يوضح ذلك بالقول?

- إنه يوضح ذلك على الأقل بالكلمات. نعم, هو قال بأنه (يجب أن يضع حداً) لكنه لايعني ذلك, أنا أعرف هذا جيداً.

- وأنت وضعت نفسك بينه وبين الطبيعة حكماً, مراقباً مدنياً ورسمياً, وبكلمة أخرى, إنك كمصفاة, وكل ما يأتي اليه يصفّى عبر أصابعك. كل شيء يجب عليك لمسه وفحصه. إنك تحللين ما يصل إليك حسب ذوقك, بالرغم من ذوقه هو. على أي حال, عليك ان تضغطي على إصبع إبهامه. فربما لاتتمنين له أن يمضغ الأوراق ويقضم الشجر? فالطبيعة لاتمازحه.

- نعم, لذلك أنت (انتصرت), أقمت الهضاب و (ألفت الماء) و(أسرت البرق), حيث إنك تملكين الآن قوة جبارة تستطيعين بها تدمير العالم في ساعة واحدة, والأرض ترقد على كفك كالكرة, إذ إن بإمكانك رميها إلى الفضاء.

نعم, فلماذا تترددين? أووو, كل شيء بإمكانك, فلماذا لاترمين إذن بالكرة بين النجوم كي تتحول إلى غبار? لماذا لاتنجزين عملك الجبار هذا?

- أنا لا أرغب في فناء العالم.

- لاترغبين? فهل مرت حقبة من الزمن دون أن تطعنيها بالخناجر وتنخليها بالرصاص? ألم تكن تلك كلمات وقد حولتها أصابعك الخمسة هذه إلى فعل?

- قبل ذلك كان الأمر كلاماً فقط.

- نعم, على فكرة (إيفان افانجيليتس). وماذا تستطيع الكلمات أن تفعل من دونك? لتخاصمت بالطبع وسقطت المهزومة منها. ثم من هذا الذي سُحق?

- الشرف.

- الشرف? أي شرف? اجتهدي في تفسير هذه الكلمة النبيلة! هل هو شرفك أنت? أتدعين الشرف? حينما تدعكين باطن كفه, عندما يصيبك التخبط, حينما تلعب أصابعك وتسرع للإمساك بمقبض السكين? هل الشرف أن تضعي أصبعك على الزناد متأهبةً في كل لحظة? أهو الشرف عندما تفعلين منكراً وتطلبين غفران الرب? أهو الشرف عندما تمسكين بأصابع ثلاثة القلم الذي تقتلين به?

- قلم? عن أي قلم تتحدثين?

- قلم قاضي المحكمة العرفية, هل نسيت ذلك?

كان هو قد جلس الى جانبنا بسبب بعض الكلمات وليس بفعل يديه, بل بسبب الكلمات. فلايهمك كيف زلت الكلمات من لسانه. إن ما يهمك هوالتشبث بالوقائع فقط. إنه قال واعترف.

كان ذلك كافياً بالنسبة لك. وفي ساحة الإعدام وقف هو شاحب الوجه مرتعش الشفتين وكأنه يهتز من البرد. عدّ ثوانيه الأخيرة... نظر إليك بفزع, تابع كل حركة من أصابعك وكأن ذلك كان سبباً كافياً لتحكمي عليه بالقتل. لقبوك حينها باليد الفولاذية, واليد الدموية. لقد تآكلت ريشة قلمك الذهبي من جراء القتل. فهذا الرأس المدبب يمر على الورق دون مراعاة, وكأنه في حفرة. جلسة مملة لاتعنيه, ولكن من أجل قتل الوقت لا أكثر. أخذ هو يرسم كلمات صينية: يو ـ كاور تسينغ ـ تاو, بان ـ موكاي, ويرسم بيتاً تحيط به حديقة ووسطه باحة, بل وحتى دخان يتصاعد من مدخنة فوق السطح. لكن نهاية ريشة القلم كانت ـ كله ببو ـ كاوه, تسينغ ـ تاو, تدمر البيت بحديقته وباحته ولم يبق منه سوى الدخان يتصاعد من عامود المدخنة. كنت أنت أخذت قلم الباركر بأصابعك الثلاثة وقررت بحزم أن تخطي على الورقة. هرعت أنا نحوك, لم أكن أعرف ماذا سأفعل. مسكت سبابتك وأخذت أنظفها من بقع الحبر وسألتك (ماذا فعل لك هو? انظري كيف غدا وجهه مصفراً! وجسمه يختض! ألا يكفيك هذا? إنه ينصت إلى دقات قلبه, ليعدّها فلاتقاطعيه.

- نبضات القلب? لا, إنه يحاول إيجاد فرصة للنجاة ياعزيزتي, أي قلب هذا? إنه يحاول التأثير فينا من خلال مظهره الباهت. إنه قد خدعك. أما أنا فلم يستطع ذلك, لأنني أعرف تلك الحيل جيداً.

- أتسمين هذا حيلة? ارتعاش رجل واهن عاهد نفسه العد حتى الثلاثمائة. لكنك أخذت القلم, ثانية, وبدأت الكتابة.

ارتعشي الآن على الاقل! أليس بمقدورك الارتعاش?

لابد أن يصيبك الارتعاش, على كل مافعلته. ولكنك, أنت هكذا هادئة, وكأنك تسجلين درجة لتلميذ في الامتحان.

- ليس لدي سبب للارتعاش, فأنا أقوم بواجبي.

- ها, وبدأت تكتبين على مهل وبخط منمق, بخطك الجميل المعروف, (م), الحرف الاول من كلمة موت.

(اسمعي, قلت لك, انظري له كيف يعد, يستحث العد حتى يصل إلى (الثلاثمائة), لاتقاطعيه).

- يجب أن أقاطعه.

- لماذا يجب أن تقاطعيه? سوف يتوقف هو وحده.

فليس بمستطاع أحد أن يعد إلى مالا نهاية. فهذا فقط اختلاف الأرقام, كي يبدو الفرق في اللانهاية مجهولاً تماماً. إنه بالنسبة لنا مجهول, إننا لا نعيش في اللانهاية, بل على الارض.

والآن هيا باسم الساطور والصليب المعقوف, اكتبي, اقتلي يديه فلو كان عنده ذرة من الشرف لما جعل منهما رفضاً. الحق معك لا أريد أن أقف في طريقك.

اكتبي الحرف (م) بذات الخط المنمّق وأضيفي له الحرفين اللازمين لكلمة (موت), ولايهتز لك جفن.

في تلك الليلة (وحتى دون أن تستحمي) داعبت شعرها الحريري ومسدّت وجهها حتى ارتعشت أصابعك من الحب. هذه الأصابع التي لم تهتز, في الصباح, من الموت, ارتعشت هذا المساء من الشبق. فمن قال إن الحب ليس أقوى من الموت? وخاصة حبنا بالنسبة لموت الآخرين.

- لماذا تتكلمين عن الحب? إنك لاتعرفين معناه.

آه من الحب, من اللمسة الأولى, عندما تبحث الأصابع في الظلام, وفجأة تتلامس وترتعش كقطبين مشحونين بالكهرباء.

- نعم, ويتطاير الشرر, تماس قصير وظلام, ثم ينتهي الحب. وماذا بعد? الشرف? الواجب? الساطور? القنبلة? والقلم الذهبي الذي ينساب منه الموت?

- إنك مجنونة وذات نزوات.

- وأنت ذكية وحكيمة, وهنا يكمن الفرق. اتركيني (حاولت اليسرى أن تفلت من قبضة اليمنى).

- ماذا دهاك? لماذا تتصرفين بهذه الحماقة على حين غرة. إنك فقط تجلبين لنا الفضائح, في الشارع أمام الناس.

- وليكن, اتركيني لا أريد أن أكون معك بعد الآن.

- ومع من تريدين أن تكوني? مع الرِجلين?

- ولو, حتى مع الرجلين, فإنهما محترمتان وشريفتان كالخيول, أما أنت فخبيثة ومسمومة كالحية.

- نعم, وغبيتان كالخيول. الأرجل لاتعرف سوى المشي وحمل الأثقال. ومع ذلك فلستِ سوى يد.

- أنا لست يداً ولا أريد أن أكون. أخجل من كوني يد.

- وماذا تريدين أن تكوني? أطرافًا أمامية?

- أي شيء سوى أن أكون يداً.

- ومع ذلك فأنت يد مثلي.

- مثلك? لا أبداً, أتركيني.

استطاعت أن تفلت وتنحسر في الجيب. ثم أخذت تتحرك بسرعة وكأنها تبحث عن شيء فقدته. لكنها في الواقع لم تكن تبحث عن شيء, بل إنها كانت غاضبة. انسحبت من الجيب واستقرت فوق المؤخرة وظلت تتابع إيقاع السير.

أتطلع اليهما متخاصمتين, لكني أشك في خصامهما, فهما كحيوانين أو كنبتتين تتعايشان وتتضادان. تنظف إحداهما الأخرى. كانت اليمنى قد قالت الحقيقة عندما ذكرت بأنهما, وبرغم كل شيء, يدان.

قبالتهما كان يقف طفلان, صبي وصبية يمسك أحدهما بيد الآخر وهما يصفران, يبتعدان عن اليدين حين يمران بقربهما, كما تبتعد الجنادب عندما يقترب منها إنسان.

فك الطفلان شباكهما وافترقا. مرت الطفلة بقرب اليد اليمنى بهدوء محاذر كما لو أنها ارتكبت خطيئة ما. نظرت اليمنى إلى شعر الطفلة الأصفر بحنان ابوي فتطلعت نحوها الطفلة شاكرة.

مر الصبي بقرب اليسرى, نظر إليها باستهزاء, لا بل بوقاحة وكأنها عثرة في طريقه, فصفعته بأصابع البنصر على أنفه. بصق الصبي عليها فلوحت له بطريقة وكأنها تنش الذباب من على وجهه. لكن اليد اليمنى ثارت ثائرتها فصفعت الصبي على وجهة صفعة جعلته يبكي.

- لماذا صفعت الصبي? سألتها اليسرى.

- لأنه بصق.

- إنه بصق علي وليس عليك!

- عليك أم علي, فالأمر سيان. أنا لا أوافق أن يبصق علينا أحد.

- ولكنني أنا التي تحديته, فقد لطمته على أنفه.

- وهل توجب عليه أن يبصق?

- ربما أوجعته الضربة, فلم أكن حذرة في تصرفي معه.

- تصوروا...ولكن مع ذلك, فما كان من الداعي أن يبصق فهذا أمر غير لائق.

- وهل الضرب على الأنف لائق?

- إنك لم تضربيه بقوة, وهذه تختلف عن تلك. ومع ذلك فإن أنفه مازال في مكانه ولم يسقط.

- وماذا سقط مني حين بصق علي?

- أن تبصقي على أحد, فهذا أكبر تجريح.

- تجريح للشرف, ها!

- نعم, للشرف.

أجابت اليمنى وهي فاقدة الصبر. غير أن الصبي صرخ باكياً بسبب إهانة اليمنى له.

- بابا, بابا, آه, آه, آه ـ ماما, ماما,آه, آ, آه...

للحظات انسابت من أنفه دفقتا مخاط, نزلتا على ذقنه حيث استقرت فوقه دمعتان.

- انظروا, صياح وهرج ماذا جرى. قالت اليمنى وكأنها تعجب لكل هذه المبالغة, ثم تلتفت لليسرى قائلة:

- دعيني أمسح وجهه.

- لاداعي, فأنا قمت بذلك وحدي.

- أوو, بكم المعطف. وعلى أية حال احذري فإن أباه قادم.

خرج الاب من البيت مرتدياً قميصاً مشمّراً كميه, ليكشف عن يدين شاحبتين معروقتين ككل أيادي المستخدمين.

- لماذا صفعتما ولدي? سأل الأب مدارياً غيظه, كمن يستطلع أمراً فكر بالعقوبة فيه مسبقاً.

- لأنه عديم التربية والحياء, أجابت اليمنى بتحدٍ.

- وماذا فعل? سأل الاب متحفظاً, حيث أحس بإهانة مزدوجة.

- لأنه بصق علي, قالت اليمنى بمرارة, وكأنها لم تصّدق نفسها بأنه بصق عليها هي.

- لم يبصق عليك, بل عليّ أنا, قالت اليسرى ذلك وهي تتمتع بذكرها للحقيقة.

- الأمر سيان, فقد بصق هو والسلام, صرخت اليمنى باليسرى كولي أمر.

- بصق! هكذا من دون سبب?

مازال الأب يتساءل وهو يعرف بأنه يجب أن يعاقب أحداً.

- لم أبصق يا بابا, إن هذه ضربتني أولاً في أنفي, قال الطفل باكياً.

- ضربَته ضربة خفيفة للمزاح ولكنه بصق في الحال, ادعت اليمنى ذلك.

- إن له كل الحق, وليبصق, صرخ الأب مهووساً حيث تطاير منه الغضب بصورة مفاجئة.

وأبصق أنا أيضاً: تف, موجهاً بصقته نحو اليدين.

ارتفعت اليمنى وبكل ما أُتيت من قوة, فقد أرادت أن تسدد ضربتها, ولكن الاب تصدى لها. لوّح بيده وأمسك بإبهام اليمنى بشدة حتى أخذت بالصراخ. عند ذاك تحركت اليسرى, انطلقت كالسهم ماسكة بقميص الرجل قرب صدره. كانت تلك إشارة إلى اليمنى لتسدد الضربة. تسلمت اليمنى الإشارة, جمعت قبضتها ولكمت الأب على وجهه فسال الدم من أنفه وقطّر على أصابع اليسرى, واليمنى تواصل الضرب على المكان المدمي.

رأت الطفلة الدم وهو يسيل من أنف أبيها فأسرعت تتلقف قطرات الدم هلعة, في حين أسرع الابن وأمسك اليسرى بين أسنانه وعضّها بقوة على المعصم حتى صرخت من شدة الالم, فاضطرت أن تفك قبضتها من القميص.

حين ذاك قفز الأب بسرعة وهرول مهزوماً, كانت رجلاه قد اصطكتا من الخجل أمام طفليه. حرر الطفل اليسرى من قبضة أسنانه, فربتت هذه الأخيرة على رأسه تداعبه, كتعبير عن الامتنان, لكن الطفل تحمل الضربة بكبرياء.

عندما حاولت الرِجلان العدو كحصانين طائعين, تريدان اللحاق بالأب الهارب, أمسك الطفل بهما في الحال لإيقافهما عن العدو. وبالفعل فقد وجدت اليدين نفسيهما طريحتين على الارض وسط الغبار.

- آه, تأوهت اليمنى من شدة الألم الذي أصابها من جراء صفعتها للأب. استلقتا على الأرض واحدة جنب الأخرى, في وسط الطريق, داميتين مهانتين, عاجزتين عن القيام بأي شيء, وكأنهما قفازان طُرحا على الأرض.

- أيتها النحس, قالت اليسرى لليمنى, محاولة النهوض بالاعتماد على أصابعها.

- أنك تستحقين كل ماأصابك, لأنك لم تعرفي كيف تضربينه حتى يسبح بدمه.

- لقد ضربته.

- نعم, ضربته, كما يفعل المبتدئون, ساعديني على النهوض, أحس أن أصابعي قد تكسرت.

- هل تؤلمك?

- تؤلمني آلاما مبرحة.

كان حديث اليسرى مليئاً بالحنان, تماماً كما يفعل الأخوة الطيبون.نهضتا, تاركتين وراءهما آثار الدم على قارعة الطريق. مسحت إحداهما للأخرى آثار الدم. كانتا تشتعلان رغبة للانتقام. وعند ذاك جاءتهما بصقة لتغسلهما من الدم والأتربة..

- في ظلام الليل ينادي بعضُنا بعضًا.
في ظلام الليل نصرخ ونستغيث, وخيالُ الموت منتصب في وسطنا, وأجنحتُه السوداء تُخَيِّم علينا, ويدُه الهائلة تجرف إلى الهاوية أرواحنا.
أَمَّا عيناه الملتهبتان فمُحَدِّقتان إلى الشفق البعيد.

(جبران خليل جبران)

 

رانكو مارينكوفيتش