العلم يُخمد أم الحرائق مظفر شعبان

 بالنسبة للرئيس العراقي كانت "أم المعارك": حرب تحرير الكويت، فشلا ذريعا. وهو فيها لم ينجح إلا في تلويث البيئة وفي إضرام النار في 700 بئر نفطية كويتية في عملية أجمعت المصادر على أنها "أم الحرائق". ففي تاريخ الصناعة النفطية لم تشهد الإنسانية حرائق بهذا الحجم الهائل. فحتى حادثة انفجار موقع الحفر في اكستوك 1 IXTOXC1 في خليج كامبشي أمام ساحل المكسيك في الثالث من حزيران عام 1979، والتي جعلت "البحر يحترق" لم تؤد إلى انسكاب أكثر من 4000 طن من النفط يوميا، بينما كانت الكويت تخسر- حسب التقديرات العالمية- ستة ملايين برميل من النفط يوميا، تبلغ قيمتها أكثر من 120 مليون دولار تضيع في الدخان واللهب بمعدل ألف دولار في الدقيقة.

ومن البداية كان واضحا أنه لا بد من الاعتماد على الشركات الأمريكية نظراً لخبرتها الطويلة في هذا المجال. كما تقرر الاستعانة باختصاصيين مرموقين من جميع دول العالم ذلك بقية إطفاء الحرائق المشتعلة في أسرع وقت ممكن.

عملية "حجيم الصحراء"

واجهت رجال الإطفاء عند مكافحة النيران في حرائق الكويت صعوبات جمة زادتها حدة ظروف العمل القاسية وشروط البيئة الملوثة والحرارة المرتفعة. ولهذه الأسباب مجتمعة اتفق الجميع على تسمية العملية باسم "جحيم الصحراء".

تعود بداية تعامل الإنسان مع حرائق آبار النفط إلى 100 سنة قبل الآن. وكما هو متوقع فقد استعملت في البداية في إطفاء مثل هذه الحرائق الطرق العادية التي تعتمد على نوافير المياه المنطلقة من مضخات الإطفاء. ومع الزمن ازدادت استطاعة آبار النفط ولم يعد بإمكان حتى عشرات رجال الإطفاء المجهزين بالمضخات والخراطيم التعامل مع هذه النيران. عندها تم الانتقال إلى طرائق جديدة للإطفاء حيث سعى الإطفائيون إلى تعليق المتفجرات فوق البئر المحترقة، إذ يؤدي انفجار المتفجرات إلى نشوء فراغ خال من الهواء يساعد على إطفاء الحريق.. ومع تطور آبار النفط كان من الضروري زيادة كتلة الخليط المتفجر.. ولكن تطور هذه الطريقة كان محدودا وأبطأ من تطور آبار النفط بحيث أصبح من غير الممكن إطفاء حرائق النفط حتى باستعمال أطنان كثيرة من المواد المتفجرة.. كان واضحا أنه من الضروري البحث عن طرق جديدة لهذه الغاية.

وقد لجأ الأمريكيون إلى تبريد التجهيزات بالمياه الغزيرة، وفي الوقت ذاته قاموا بتفجير الديناميت فوق البئر المشتعلة مما يؤدي إلى نقص كبير في الأوكسجين اللازم للاحتراق فتنطفئ البئر على الفور. وإن أمكن تغطية الثقب النفطي بسدادة، فإنهم كانوا يضخون في البئر على الفور مزيجا ثقيلا وذلك لوقف التدفق النفطي المنطلق.. ولسوء الحظ فإن ثلث الآبار التي تم إخمادها بهذه الطريقة اشتعل من جديد وذلك نتيجة امتلاء المنطقة المحيطة بالبئر بالأوساخ الكثيرة.

طرق مختلفة وهدف واحد

ومع ذلك فإن الطرق التجريبية الأخرى أعطت نتائج مماثلة أيضا. فبطريقة أسطوانة النتروجين (الآزوت) يتم بواسطة رافعة ذات ذراع طويلة إيصال أسطوانة فولاذية قطرها متر واحد إلى مكان الحريق بالضبط حيث تركب على فوهة البئر المحترقة بينما يقوم الماء الغزير بتبريد الأسطوانة. بعدها يحقن الآزوت السائل تحت الضغط. وهذا الأخير يتبخر بشكل آني "فيخنق" النار (الشكل رقم ا) وعلى الفور يغطي البئر بشكل كتيم.

واعتمادا على طرق الإطفاء المختلفة تمكن رجال الإطفاء من إخماد ثلاث آبار مشتعلة يوميا، علما أن القسم الأعظم من العمل يتركز على إخماد الفوهة. وتتخلف عن العملية بركة سوداء نفطية ضخمة، وهي قابلة للاحتراق، كما أن التخلص منها ليس سهلاً. ولهذا السبب فقد عرضت الحكومة الكويتية على رجال الإنقاذ مكافآت قيمة لتركيب "قفل" على البئر النفطية، أي أن تصبح البئر بعد إطفائها و "قتل" نافورتها في حالة جاهزية تامة من أجل العودة إلى "الحياة" بغية الاستثمار التالي.

وهذه المسألة تحل بنجاح تام بمساعدة الطريقة الجديدة التي اقترحها الأمريكيون، فعلى بعد خمسين متراً من النار يقوم رجال الإطفاء بحفر بئر مساعدة تصنع زاوية غير كبيرة مع البئر الأصلية بقطر عشرة سنتيمترات. وعلى عمق حوالي كيلو متر واحد تتقاطع البئران حيث يقوم الحاسوب بتوجيه عملية الالتحام ومراقبتها. وبعد إنجاز عملية الالتحام تضخ المواد المتبلرة البولية POLY UREA الممزوجة بالنتروجين عبر البئر الجديدة وهي تتصلب عند فوهة البئر المشتعلة السفلية مشكلة سدادة صلبة (الشكل رقم 2). والميزة الرئيسية لهذه الطريقة أنها لا تخلف وراءها بركا نفطية بعد إطفاء الحريق، إلا أن أظهر مساوئها أن السدادة المتشكلة في العمق ستنسى مما يجعل عملية فتح البئر من جديد أمراً صعبًا.

أما الاختصاصيون السوفييت فقد تقدموا بطريقة جديدة لاقت استحسان الجانب الكويتي (الشكل رقم 3). وبموجب هذه الطريقة تقذف النافورة النفطية المشتعلة من مسافة تقدر ب 50 متراً بمسحوق أساسه بيكربونات الصوديوم. بعد القذف ترتفع جزيئات المسحوق وقد امتصها تدفق الهواء الساخن في أقل من ثانيتين إلى أعلى نقطة في النافورة النفطية وتطفئ الشعلة المحترقة بكاملها.

تحتاج هذه الطريقة إلى بالونة مطاطية من الغاز المضغوط توصل بأنبوبة ذات سبطانة تحتوي على غشاء. وبمقدور شخصين أو ثلاثة من رجال الإطفاء تجميع المعدات كلها خلال نصف ساعة ووضع حوالي 200 كيلو جرام من المسحوق في السبطانة وتجهيز المدفع للإطلاق.

وهناك طريقة أخرى اتبعها المجريون والرومانيون وتمكنوا بواسطتها من إطفاء أكثر من عشر آبار وسط دهشة وإعجاب جميع الفرق في الكويت، إذ لجأوا إلى تركيب محركات ميج النفاثة القديمة على دبابات ت 54 بشكل معكوس بحيث أصبحت تمتص كل الأوكسجين من اللهب المشتعل.

وكما هو واضح، بدون أوكسجين لن يكون هناك أي احتراق! وقد تبين أن ذلك فعال تماما وبسيط للغاية.

إنجازات الفرق القومية في إطفاء حرائق الكويت

الولايات المتحدة

403

كندا

194

الكويت

72

إيران

20

الصين

10

المجر

9

فرنسا

9

رومانيا

6

روسيا

4

بشكل عام نجحت الفرق في تطوير تقنيات جديدة للتعامل مع النيران. ويستدل على ذلك من النتائج الفعلية التي دلت بوضوح على أن الآبار المشتعلة تم قتلها في وقت قصير للغاية لا يتجاوز خمسة أشهر مع أن التقديرات الأولية كانت تشير إلى أن العملية يمكن أن تستمر خمس سنوات.

كشف الحساب

في منتصف شهر تشرين الثاني الماضي، قام أمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح بالضغط على زر أطفأ آخر الآبار المشتعلة. وهكذا أسدل الستار على أضخم عملية إطفاء نفطية في العالم. وقد احتل الأمريكيون المرتبة الأولى في عدد الآبار التي "قتلوها" برقم قدره 403 آبار بواسطة ست شركات مختلفة، بينما قتل الكنديون 194 بئراً بفريقين فقط عملا في حقل صابريه. كان فريق شركة سيفتي بوس الكندية بقيادة مايك ميلر صاحب الرقم القياسي في عدد الآبار التي تم إطفاؤها: 176 بئرا. ومن بين جميع أفراد فرق الإطفاء لم يقتل سوى إطفائي واحد من الفريق الصيني، إذ قتل لدى مصارعة النيران في حقل الأحمدي.

بطلة كويتية

وقد برهن الكويتيون أنهم على مستوى المسئولية والكفاءة المهنية في هذا المجال إذ نجحوا في إطفاء 72 بئرا.. والجدير بالذكر أن الفريق الكويتي كان بقيادة الآنسة سارة صلاح التي أثبتت أنها بطلة بالفعل. وباعتبارها من العاملين في شركة النفط الكويتية (KOC) فإنها قامت إبان الاحتلال العراقي بإخفاء شرائط الكمبيوتر المحتوية على البيانات التفصيلية عن آبار النفط الكويتية، وذلك قبل أن تنضم إلى صفوف المقاومة الوطنية. وبعد التحرير أعادت الآنسة صلاح هذه الأشرطة إلى شركة النفط الكويتية. وقد تبين آنذاك أن هذه الأشرطة ساهمت في إنقاذ الصناعة النفطية الكويتية. وعندما شكل الفريق الكويتي لمكافحة النيران في أيلول (سبتمبر) الماضي، أسندت إليها مهمة قيادته.

ويبين الجدول النتائج التي حققتها الفرق المختلفة حسب دولها، ومنه يتضح أن أداء المجموعات الأخرى كان ناجحا كذلك. فالإيرانيون مثلاً أطفأوا 20 بئراً يليهم الصينيون برصيد قدره 10 ثم المجريون والفرنسيون ولكل 9 ويأتي بعدهم الرومانيون 6 والروس 4. ولم يشارك البريطانيون بأي فريق مع أن المملكة المتحدة هي خامس أكبر دولة منتجة للنفط في العالم.

كان أخطر الحرائق في الكويت تلك المشتعلة في مناطق بعيدة عن العاصمة، وهذه تركت للنهاية.

وبينما يفكر الجميع في الدروس القاسية التي أفرزتها حرائق الكويت، فإن الاختصاصيين من جميع أنحاء العالم باتوا يفكرون في الطريقة المثلى لحماية آبار البترول من كارثة مماثلة. وأحد إجراءات الاحتياط الممكنة هي تركيب صمامات احتياطية على عمق 10- 15 متراً تحت سطح الأرض يمكن تحريكها كهربائيا. وعند حدوث الحريق فإن فتحات الصمام تغلق آليا بأوامر موجهة من الكمبيوتر. وبالطبع فإن كلفة البئر في هذه الحالة تزداد. ولكن، ما هي الكلفة الحقيقية لاستخراج النفط؟ والجواب أن التكاليف مهما زادت فلن توازي الخسائر الناجمة عن الحريق، والتي تقدر ب 120 مليون دولار يوميا.