حاتم الصكر وعلي المقري

حاتم الصكر وعلي المقري

  • أؤكد اعتقادي بوجود أدب نسوي
  • مسألة الهوية الثقافية أحد بواعث الحديث عن نظرية نقدية عربية وهو حق مشروع لثقافات الشعوب كلها
  • (الشعر) و(الجمهور) مصطلحان مستهلكان يعكسان توظيف الكتابة الشعرية للرؤية الشفاهية التي تؤكد على المزايا الخطابية والإلقائية

يعتبر الدكتور حاتم الصكر أحد أبرز المشتغلين بالنقد الأدبي العربي الحديث، فقد تميّز خلال العقود الثلاثة الماضية بتناوله لقضايا نقدية حديثة تحتل موقعاً سجالياً في الثقافة العربية، مثل: قصيدة النثر وعلاقتها بالشعر، القول بوجود أدب نسوي، مقاربات النص الشعري والسردي والبصري، إمكان تطبيقات اللسانية والأسلوبية والمناهج الحديثة مع تفهم الدعوة إلى إيجاد نظرية عربية للنقد، وهي القضايا التي يتحدث عنها في هذا الحوار. إلى جانب رؤيته في مفاهيم زمن الرواية، والنقد الثقافي، وأسبقية الرؤية النقدية على المنهج.

لحاتم الصكر، الذي يعمل أستاذاً للأدب العربي الحديث والنقد في جامعة صنعاء منذ1995، الكثير من المؤلفات، أهمها: الأصابع في موقد الشعر - مقدمات مقترحة لقراءة القصيدة - بغداد 1986، مواجهات الصوت القادم - دراسات في شعر السبعينيات - بغداد 1987، .الشعر والتوصيل - القصيدة في شبكة الاتصال المعاصر - بغداد 1988، البئر والعسل - قراءة معاصرة في نصوص تراثية - بغداد 1992، ما لا تؤديه الصفة - المقتربات اللسانية والأسلوبية والشعرية - بيروت 1993، كتابة الذات - دراسات في وقائعية الشعر - عمَان 1994، رفائيل بطي وريادة النقد الشعري في العراق - كولونيا 1995، ترويض النص - تحليل النص الشعري في النقد المعاصر - القاهرة 1998، مرايا نرسيس - دراسة لقصيدة السرد الحديثة - بيروت 1999، انفجار الصمت - الكتابة النسوية في اليمن صنعاء 2003، قصيدة النثر في اليمن - أجيال وأصوات - صنعاء 2003، حلم الفراشة - الإيقاع الداخلي والخصائص النصّية في قصيدة النثر - صنعاء 2004، المرئي والمكتوب - دراسة في التشكيل العربي المعاصر - الشارقة 2007. إضافة إلى ثلاثة دواوين شعرية و ثلاثة كتب للأطفال.

ويحاوره الشاعر علي المقري، من شعراء جيل الثمانينيات في اليمن، صدرت له ثلاث مجموعات شعرية، وكتابان نثريان.

في كتابك (حلم الفراشة - الإيقاع الداخلي والخصائص النصّية في قصيدة النثر) تذكر قصيدة من الشعر الصيني القديم، تستيقظ فيها المرأة الحالمة فلا تعلم إن كانت فراشة حلمت أنها امرأة، أم امرأة حلمت أنها فراشة.

  • ومن هذا التماهي الذي تغدو فيه المرأة والفراشة كائناً واحداً، بحلم واحد مشترك، تعتبر أن «بين الشعر وقصيدة النثر وشيجة حلمية شبيهة بذلك أيضاً، حيث لا ندري هل أصبح الشعر نثراً أم النثر هو الذي حلم أنه صار في القصيدة شعراً».
    فما هي الأسباب، برأيك، التي أدت إلى محدودية آفاق قصيدة النثر العربية بحيث لم تشهد تجارب مهمة تمضي بها إلى أشكال مغايرة للبنية الشعرية كحال الكثير من توجهات قصيدة النثر الأوربية والأمريكية التي ذهبت إلى نثرية خالصة،غير شعرية؟

- دعني أولا أصارحك القول إن سؤالك ممتلئ معرفيا، ومعضد بالتجربة الشعرية التي تخوضها مع زملاء من جيلك بكدّ ملحوظ ، تحت راية التحديث والبحث عن طرق جديدة للشعرية العربية. هذا يهب تساؤلاتك قوة إضافية، كما أن تشخيصك صائب تماماً بصدد الخوض في أزمات الشعر وقَصْرها على مرجعيته، أي بالمقايسة إلى القرب منه، فقد أربكت التحديث ووضعت سيرورته التطورية في طرق ضيقة لا تسمح بالتقارض مما هو ثقافي أو معرفي مقارب.

يمنح السؤال كذلك فرصة التأكيد على أن التفكير المعرفي بالشعر - الضروري نظرياً - ظلَّ عندنا تفكيراً شعرياً، أي مستجيباً للنظم نفسه في حالات تَشكُّله معيارياً، ومطابقته للحدود والتعريفات الجاهزة، وليس على افتراض ما يمكن أن يكون عليه خارج أنساقه المستقرة المتوارثة كتابةً وتلقيا وبمديات وآفاق مجترحة ومبتدعة ، من هنا نشأت نظرية القصد وشاعت وتسلطت على الرؤية الشعرية فعطلت أي توجه أو ميل وحنين للتغيير، فما يراد له أن يكون شعراً في تصورها ، هو ما كان مقصوداً منه مسبقاً أن يأتي على مثال يطابق اشتراطات النوع ويكرّسه لا أن يعدّل فيه، وتراجعت تماماً نظرية أخرى ممكنة هي نظرية الأثر التي ترى أن الشعر يوجد حيث يوجد أثره في النفوس ، وكل ما يحقق ذلك فهو شعر وإن جاء في غير هيأته المعروفة، هكذا عدّوا الأراجيز نوعا لا شعريا، وأزيحت عن البرنامج الشعري لتنحصر في الارتجال الحماسي والنظم التعليمي والألغاز وسواها، وهمّشوا الموشّح والفنون الشعرية الشعبية وحصروها في الغناء واللحن كي لا يشيع نظامها القائم إيقاعياً على مفارقة الشكل البيتي ذي الشطرين والقافية الموحدة، وتوسعوا في العيوب الإيقاعية المستنبطة من مدى موافقة الانضباط المطلوب في العروض الخليلي ، ورافقَ ذلك تنظير لوحدة البيت التي لم يفرط بها حتى مفكر متقدم كابن خلدون، فكرّر- موافقا - ما قاله النقاد حول ازدحام بيت ابن خفاجه بالمعاني ، وحول استقلال البيت عن سواه واكتفائه بنفسه ، وكذا تركيزه على الموسيقى الخارجية المتحصلة من الوزن والقافية في تعريفه للشعر.

ويمكن أن ترى الهيمنة النظرية للنموذج الشعري في النثر الفني نفسه، فقد جاء تقسيمه الإيقاعي إلى فقرات متوازنة عددياً ومسجوعة، تجسيداً لتقليد الشعر في نظامه وتأكيداً لهيمنته على الرؤية النثرية المفترض فيها الترسل لبسط الفكرة، والسماح للنثر بجلاء مزاياه الخاصة لا تكرار الخصائص الشعرية امتثالاً للحس الشعري المهيمن على الأدب.

ولا أدري إذا كان المقام هنا مناسباً للتذكير بمناقشتي للدكتور جابر عصفور حول فرضيته القائلة إن الزمن الآن هو زمن الرواية والتي ضمّها كتابه بالعنوان نفسه، فقد رأيت ضمن الحجاج والرد أن شيوع التفكير الشعري، وشاعرية النثر ومحاكاته للشعر هو الأخطر من هيمنة الشعر كنتاج مكتوب والدعوة للتحرر من سطوته.

لعل هذا يفسر لنا ما ورد في السؤال حول البقاء في دائرة الشعر والتحرر بناء على قواعده وأعرافه، والمدافعة عن التحديث - وقصيدة النثر خاصة - بالقول بقرابتها بالشعر كنوع معروف، بل الذهاب إلى البحث لها عن سلالة في التراث، كما فعل أدونيس، خاصة في التركيز على النصوص الإشراقية الصوفية - والنفّري تحديدا - لا من أجل القول بصراحة إن هذا شعر آخر، وإن لم يطابق شروطه السائدة، ولكن لإثبات وجود الشعر كما يراد له في تلك النصوص وانتمائها إلى اسمه.

نقص الوعي بالحداثة

  • أليست قصيدة النثر التي ساهمتَ في تحديد مزاياها بأنها قصيدة قراءة تخاطب عبر الجسد الورقي عيني القارئ لا أذنيه؟ وإنها تستفيد من نصّيتها وإفلاتها من التجنيس في الإفادة من الخصائص السردية؟ ولها إيقاع داخلي يعوض عن الموسيقى الخارجية الغائبة؟ وأنها قصيدة كلية لا جزء فيها، تولد إيحاءات لا معاني؛ هي قصيدة موجودة على المستوى النظري؟ وغير محققة عربياً، على الأقل في منتجها الغالب؟ وأنت كشفت عن أنماط إنشادية وشفاهية شائعة في نصوص تتدثر بأردية الحداثة؟

- القراءة تقدم في العادة حدوساً وافتراضات وتستقريء الجانب المتحقق لقياس مدى وجود ذلك كله. بهذا لا نفترض أن تكون الكتابة الشعرية بدرجة واحدة من تلقف شعارات الحداثة ولافتاتها، بل تتأسس الحداثة الشعرية أصلاً على هذا التفرد وتلك الخصوصية والجهد الذاتي, وأي تجويق جمعي أو اصطفاف قبلي يضر بمشروع الحداثة وبرنامجها، وهذا ما كتبته قبل فترة لمناسبة مرور50 عاما على صدور العدد الأول من مجلة (شعر) إذ تساءلت عن جدوى ودلالة إطلاق اسم (جماعة شعر) على شعراء قصيدة النثر الأوائل، لأنهم أصلاَ هاربون من سلطة الجماعة وتبعيتها، وهذا التكتل يصنع - وقد صنع فعلا - اجتراراً وتماثلاً وتقليداً، وكأن الجميع أحياناً يقولون قصيدة واحدة أو يعيدون صوغها، بل تشيع مفردات بعينها وطرق تعبير واحدة، لاحظ مثلاً إقحام الشعراء أسماءهم في قصائدهم والحديث عن أنفسهم وأجزاء من سيرهم كذوات نموذجية لفحص ما في العالم من بؤس، وانتشار ذلك في أغلب الكتابات اليوم، وكذلك شيوع المفارقة القائمة على الانزياح لا سيما في العناوين.

العمر المتاح حتى الآن لقصيدة النثر لا يسمح بالمغادرة التامة لأعراف ونواميس القصيدة الحرة أو حتى العمودية، شعراء قصيدة النثر أنفسهم مازالوا يرون جدوى في الأشكال التي دعوا لهجرها، ويعودون إليها في أعمال متأخرة أو لاحقة مما يبلبل المنطلق النظري ويدعو للتساؤل عن إمكانات الشكل الأقدم وقدرته على المعاصرة وصلاحية الحداثة بديلا له.. وأنا أفهم أن التلقي وجماهيرية الشعر ونجومية الشاعر وانتشاره والمنافسة تضغط بهذا الاتجاه - اتجاه العودة للأشكال القديمة - لكنها في التحليل المعرفي تؤشر إلى نقص الوعي بالحداثة والجانب التدميري لها، تدمير الذائقة القديمة والنموذج القديم والأعراف الشعرية القديمة كتابةً وتلقيا.

  • في الجانب النقدي، لماذا حاولت أكثر المنطلقات النقدية المصاحبة لمنجز قصيدة النثر أن تبرهن، فقط، على مشروعية هذا الشكل في الحياة الثقافية العربية، من حيث إنه ينتمي إلى الشعر، وليس بعيدا عنه، من خلال محاولة إعطائه الخصائص القريبة من الشعر؟

- تحدثت في إجابة سابقة عن هيمنة الشعر كفكر ونظرية على الخطاب الأدبي العربي والثقافي أيضاً. الثقافة في تصور الكثيرين هي الأدب ، والأدب هو الشعر حصراً، هكذا تؤسس المناهج الدراسية وترسخ هذا الاعتقاد في الأذهان. وهذا ما نجده في الصحافة والملتقيات وبرامج الهيئات الثقافية الرسمية وغيرها.. في أغلب منشوراتها ومحاضراتها وندواتها، وفي الإعلام وبرامجه ومسابقاته وجوائزه.

يسري أثر هذا التمركز الشعري ليهيمن على الجدل والنقاش حول هوية قصيدة النثر، وهو جدل حدث في الغرب، ولكن على مستوى المصطلح أولا والاستمرار الشعري ونسقه. الحداثة هناك في حاضنتها ليست بحاجة للمحو لتوجد.. محو الأشكال ومعاداتها وتبذير الجهد في دحضها.. فالأرض مهيأة لها تماماً، ونماذجها وأنساقها تتكامل في الشعر والفن بأنواعه، وفي اللغة والفلسفة، كما في البنى المادية للحياة وطُرُزها وطرائق العيش والتعليم والطب والعمارة والسياسة والتقنية.

الشعر يتسلل حتى إلى لا وعي ذواتنا، وليس مصادفة أن مترجمينا الأوائل وهم فلاسفة ونقاد ترجموا بويطيقا أرسطو بـ (فن الشعر) مثلاً ، وهي مسألة تتنزل رسّياً حتى من اعتقاد قريش بأن القرآن شعر حين أدهشهم أثره في النفوس فاتهموا الرسول بأنه شاعر، في ظن ألاّ قول ممكن خارج الشعر يؤثر كما يفعل الشعر.

جماليات القراءة والتلقي

  • تقول في كتابك «ما لا تؤديه الصفة» 1993، الذي تدرس فيه المقتربات اللسانية والأسلوبية والشعرية، أن الهروب من النقد المضموني (الموضوعاتي العام)، وقراءة التعليق أوالدردشة والتفوهات المجانية الانطباعية والغائمة، إلى علمية صارمة تجسّدها الأسلوبية الإحصائية أو البنيوية المدرسية(المنغلقة) لا يحل إشكالية المنهج بل يزيدها تعقيدا.
    أليس ما تقوله يعني رفض ما أنجزته التطبيقات الأسلوبية واللغوية وإلغاء أهمّيته، مهما تمحورت حول الشكل، واقتصرت على أنساق أسلوبية ووظيفية ونفسية، وقد نقلت ما لاحظه دامسو ألونسو، مستدركاً على دو سوسيير حصره الدال بالصورة السمعية للمفردة، بأن الأسلوبية أرادت نقل البلاغة «من وظيفتها الزخرفية إلى تتبع مستويات المعنى بتوسيع المدلول نفسه تبعاً لتوسيع الدال»؟

- تتركب النصوص من التئام عناصر متعددة تستوعبها مستويات النص وطبقاته بشكل كلي موحد، لكن القراءة تتعرف على تشكل هذه العناصر وتراتبها النصي من حيث الأهمية والهيمنة، وادعاء اقتصار التحليل على عنصر واحد منها يحدد الفاعلية التحليلية ويقلصها أياً كانت: أسلوبية أو تفكيكية أو سيميولوجية أو تأويلية أو موضوعاتية. والأسلوبية تستدعي أدوات البلاغة وترتكز إليها بكونها وريثتها، أو هي بلاغة المحدثين في بعض التعريفات المبسطة، ولكن طبقات النص أغنى من المقترب البلاغي بالرغم من الاستعانة بالإحصاء وقياس التوتر والتردد اللغوي، وفي اتجاهاتها المختلفة: سياقية أو إحصائية أو لغوية لسانية تظل الأسلوبية منهجاً أحادياً يركز التحليل في عنصر نصي مفرد، وذلك هو أساس اعتراض الكثير من المشتغلين بالتحليل النصي، فضلاً عن السياقات التي لا تلتفت إليها كعوامل فاعلة في النصوص، أو جزء من جماليات أدائها. وقد ناقشت ذلك مفصلا في كتابي (ترويض النص) الذي عرضت فيه لأنماط من التحليلات النصية ورصدت المنهجيات المتعاملة مع النص في النقد العربي الحديث، ومنها ما ذكرته في سؤالك، وهي تلتقي بالنص في نقطة ما لتكشف جمالياته وانتظام عناصره، لكن بعضها يتوقف عند جزئية بنائية، فيما تنطلق مناهج ما بعد الحداثة من المشغّلات المعرفية التي تولّد النص وتحدّد كيفيات التعبير وأشكاله ودور المتلقي في تلمس ذلك كله، وهي أعادت التوازن للعلاقة بين القارئ والنص بعد إقصائه ضمنياً في المناهج البنيوية، وانغلاق النص كنسق لغوي صرف..

نظريات التحليل النصي اليوم تؤكد على المهيمنات النصية وتدعو لاستخدام مقتربات مناسِبة لا الركون إلى عنصر واحد والتمحل في البحث عنه وليّ عنق الجُمل والمفردات والصور والدلالات لتندرج تحته.

وهذا ما يتيح صعود المناهج المستندة إلى جماليات القراءة والتلقي أو التأويل والتفكيك، لأنها تطلق طاقة القراءة واكتشاف مستويات نصية تعزز شعرية النصوص وتجلو فنيتها.

  • يبدو أن الدعوة إلى تأسيس نظرية عربية للنقد تندرج في إطار أطروحات الحفاظ على الهوية الثقافية، وتأصيل التراث النقدي. كيف تنظر إلى منطلقات هذه الدعوة، في عالم متشابك وموصول؛ إلى جانب أن «تراثنا» النقدي، كما تقول، «نغترب عنه مصطلحاً ومفهوماً، لأنه وُضع لغير نصوصنا، ووفق تزامنية نصّية تجاوز مستواها وخطابَها المنجزُ المتحققُ اليوم الخاضعُ لتبدلات الشعرية ومستوى الحساسية والخطاب»؟

- أحد بواعث الحديث عن نظرية نقدية عربية هو مسألة الهوية الثقافية وهو حق مشروع لثقافات الشعوب كلها..ولكن ذلك لا يكون بمناداة الماضي لينوب عنا أياً كانت مستويات إجابته عن أسئلة زمنه المنبثقة من سياقات نصية ليست قائمة اليوم. وتحميل التراث النقدي تلك المهمة المنهجية لا يقل خطأً في علم المنهج عن افتراض أن ما يقدمه الغرب وصفة معرفية جاهزة لأسئلتنا كلها.. فلا المصطلح العربي القديم ومفاهيمه، ولا الإجراءات النقدية، ولا الرؤية الفنية قادرة على أن تكفي النقد المعاصر جهد البحث عن جديد يلم بالتبدلات النصية وآفاق القراءة معاً. وأرى أن مجال الاستفادة من المنجز التراثي النقدي يظل محدوداً ولا يقدم حلاً متكاملاً وكافياً حتى للمنهجيات البلاغية أو الأسلوبية أو اللسانية التي نفترض أنها تجد إرثاً مشتركاً مع اهتمامات النقد العربي، لكنها ستصطدم بالمعاصرة التي لا تتوافر عليها أحكام وأدبيات ورؤى تكونت بوعي مختلف وانطلاقا من مستويات نصية مختلفة أيضا، ولم تفلح جهود الأسلوبيين على مستوى المصطلح إلا في إحياء عدد لا يعتد به من المصطلحات التي كانت جارية في النقد العربي القديم.. وبعد تعديلات وتكييفات قاسية لجعلها تلائم الجهاز المفاهيمي للتفكير الأسلوبي المعاصر. فالمسألة مرتبطة بالقوانين التي اشتقتها الشعرية العربية القديمة من نصوص لها سياقاتها المتغيرة اليوم، لذا فنحن نقرؤها ضمن سياقها وتظل المسافة بيننا وبينها على المستوى النظري قائمة لهذا السبب.

الرؤية والمنهج

  • في كثير من مقارباتك تؤكد على أسبقية الرؤية النقدية على المنهج، مما يعني أولوية النظرية في الممارسة النقدية. ما أهمية النظرية في ظل تراجع المنطلقات الثقافية الأيديولوجية؛ بما فيها ما سُمّي بـ (صحوة النظرية)، والتي اقترنت في الولايات المتحدة بالاحتجاج على التحول الكبير للسياسة الأمريكية إلى اليمين المحافظ، حيث سرعان ما تم تكييفها، كما يلاحظ، إعجاز أحمد، لتقوم بتدجين نفسها أشكال الانشقاق التي سعت حركات ستينيات القرن العشرين الراديكالية إلى وضعها في المقدمة، وإحلال ثقافة نصّية محل ثقافة تحريضية؟.

- الانشقاقات التي ذكرتها والثورات الفكرية، لا سيما في الستينيات - حركة الطلاب في فرنسا وصعود الثوريين المثقفين كنموذج جيفارا والدور القيادي للفن والأدب وتأثيرهما الحاد - أدت إلى اصطفافات عامة وواسعة تتصاغر معها الاختلافات وتتقارب المواقع، وهذا يظهر في الفلسفة كما في النقد. فالماركسية والوجودية والظاهراتية وجدت نفسها في مواقع متقاربة في تقييم التحولات في البنى الفكرية المعاصرة، وتجسد لقاء اليمين واليسار التقليديين بسعة لم تكن ممكنة في الخمسينيات مثلا. ومن هنا صارت الأولوية للرؤية والموقف أكثر من اعتبارات المنهج والموقع: فكرياً واجتماعيا .

وتوفر الرؤية عندي تكافؤ المنهجية وتتفوق عليها، وقد لاحظنا ذلك في الشعر والموقف من تحديثه، حيث اجتمع التحديثيون من مدارس وحاضنات فكرية متنوعة لينجزوا مشروع الحداثة برؤاهم التي تتقارب بالرغم من الاختلافات المنهجية.

وهذه الملاحظة لا تعطي للنظرية أولوية على التطبيق مثلاً في الممارسة النقدية، وإنما هي محاولة للتأكيد على الرؤية الحداثية الشاملة قبل اعتناق منهج ما والتقيد بضوابطه، وصيرورته مثل عينة الدم بالنسبة للكاتب تلزمه وتقيد جهوده وتوصلاته، وهذا يفسر وجود بنيوية تكوينية مثلا تُطوّر علم الجمال الماركسي ورؤية العالم وتربط النص بالمحيط ولكن وفق المستندات النصية لا الافتراضات الإيديولوجية. وتفضح مقاربات ميشيل فوكو تلوّنات السلطة وتنوعاتها، والأشكال التي تتخذها كقوة، وتعلن التفكيكية عبر ديريدا هدم المراكز الكبرى وتفك الارتباطات المعرفية بها لتضيء بؤر الهوامش المقصاة، وهذا أفاد النقد والفكر العربي عموما في التنبه لهذه الأطروحات وإضاءة الهوامش غير المدروسة تراثاً وحاضراً.

  • مع أن إدوارد سعيد ألح على ضرورة مقاومة النظرية، فإن بعض النقاد رأى أنه أدمج في أفكاره عن النقد المدني مبدأ مقاومة النظرية ضمن تأسيسه لها. كيف تقرأ مستقبل الممارسات النقدية التي تشتغل على بعض مقترحاتها في النظرية الأدبية والنقد التطبيقي، وكذلك مستقبل ما يمارس في التاريخ الأدبي الأكاديمي والتفسيرات الأدبية في المؤسسات الجامعية، على ضوء ما طرحه إدوارد سعيد في النقد المدني واعتبره البعض تجاوزاً للممارسات النقدية المذكورة؛ من منطلق أن «النصوص الأدبية والنقدية نصوص دنيوية، تنتمي إلى العالم، من حيث هي أحداث تقع فيه، ومن حيث هي جزء من العالم الاجتماعي والحياة الإنسانية، وبالطبع جزء من اللحظات التاريخية التي تقع أو تُفسَّر فيها»؛ إلى جانب ما طرحه إعجاز أحمد في خطابه الضدي، ما بعد الكولونيالي في النظرية. وما ذهب إليه عبدالله الغذامي في النقد الثقافي باعتباره بديلا لموت النقد الأدبي؟

- الميتات الكثيرة في الفكر والنقد هي ميتات مجازية أو افتراضية أو تكتيكية في أحسن الأحوال، هكذا نفهم إعلان بارت موت المؤلف ، ومقولة فوكوياما عن نهاية التاريخ، والآن بصدد موت النقد الأدبي كنشاط وممارسة في ما عرّبه الغذامي عن «ليتش» بمصطلح النقد الثقافي الذي يوسع النقد من دائرة تعقّب أفراد النصوص وأساليبها وموضوعاتها، إلى وجودها الحياتي والثقافي بالمعنى المتمدد للثقافة، وهو ما اشتغل عليه إدوارد سعيد حين كشف الصور النمطية التي غلّفت الاستشراق ونصوصه، وهي تعيد تمثيل الآخر على وفق تصوراتها، وبذا تحررت النصوص من كونها وقائع أدبية محضة إلى كيانات ذات وجود ثقافي أي أنها تربط الملفوظ بالعالم وتعكس طرق تمثّله وإعادة تمثيله.

ولكن المراجعات التي قام بها الغذامي للنصوص وأصحابها - المتنبي - أدونيس - نزار قباني..صوّرت النقد الثقافي وكأنه ارتداد على الأدبي في النصوص، وصار الاقتراب من الأدبية فيها هو دليل عنده على الفهم القبَلي لوظيفة الأدب وجمالياته، وقد أشرت لهذه المناوأة في مساهمتي ضمن الكتاب التذكاري الذي صدر عن الغذامي وعنونتها بالشبيه المختلف.. فالروح النقدية الغالبة على جهد الغذامي في مرحلة النقد الثقافي، حوّلت القراءة الثقافية إلى محاكمات أخلاقية بالمعنى الفلسفي، وتراجعت بالنقد - وحتى معالجات الغذامي النصية والتفكيكية والتأويلية السابقة - إلى النبش في السِّير، والاستدلال بالنصوص.. على ضِعة المتنبي ونرجسية أدونيس، إلى آخره، مما يعيد النقد للعمل داخل الحياة الخاصة والتاريخ والوقائع الإخبارية المشكوك في صحتها أصلاً، فضلاً عن إزاحتها للنصوص كمستندات وحيدة يمكن اتخاذها أساساً للتحليل الذي نراه حتى الآن الإجراء المناسب للممارسة النقدية رغم تغير العناوين واختلاف المنهجيات والظواهر أو الموضوعات.

  • اعتمدت في دراستك للقصيدة السردية الحديثة على وجود ضمائر السرد فيها، أو متابعة إطارها الزمني وما تحيل إليه من مراجع زمنية محددة ماضيا وحاضراً، وما تتحدد به الوقائع من تسلسل وفق ذلك. منطلقا بذلك من تأثر الشعر العربي الحديث بتقارب الأجناس الأدبية، واستفادته من الانتقال - في زاوية الخطاب الشعري - من الغنائية إلى الدرامية والموضوعية، وعبر مظاهر محددة من أبرزها: النظم الحكائي، واستمداد الموروث الأسطوري والشعبي، والأقنعة والرموز والمرايا ، والسيرة وقصائد الحدث والتاريخ والحكاية.
    وما يلفت في كتابك (مرايا نرسيس) 1999، أنك أعطيت أهمية للجانب البنائي ذات الصلة بتحقق هوية القصيدة السردية، وأولها «تقريب فضاء اللغة من الواقع اليومي ونثره الحكي، وانعكس ذلك بشكل تقريب للمفردات، وهجر للقاموسي منها»، وباعتبار أن السرد «يحرر القصيدة، ليس من هيمنة الرؤية الغنائية فحسب، بل من هيمنة الشعر الخالص بتجريديته وفضائيته»، إلا أنك في تطبيقك لأعمال عدد من الشعراء المختارين مضيت أحياناً، كما يبدو لي، بعيداً عن هذه المنطلقات، خاصة في دراستك لقصيدة المرايا لدى أدونيس، وهي نصوص تنتمي إلى فضاءات المطلق الأسطورية وليس إلى فضاء الواقع اليومي للغة. ويهيمن فيها نبرة غنائية بتجريدية غنائية، وذاتية كونية متضخمة.
    ألم يكن صلاح عبد الصبور في الكثير من قصائده، وكذلك محمد الماغوط في أكثر نصوصه، بالرغم من غنائيتهما، أقرب إلى السردية بتحولاتها الحديثة، وفي مستويات مختلفة? ولماذا لم تشملهما دراستك؟

- في كتاب مهم وحديث لميشيل ساندرا بعنوان (قراءة في قصيدة النثر) ترجمه الدكتور زهير مغامس)، وصدر عن وزارة الثقافة بصنعاء، يفرد الكاتب فصلاً مطولا لقصيدة النثر والسرد، يعرض فيه أولا التمييز الذي كان قائما بين السرد وطبيعة النص الشعري بينما تقدم قصائد النثر القصيرة مثالا لتطابق الشعر والسرد ومع القصة القصيرة خاصة، ولم أكن طبعا قد اطلعت حين درست السرد في القصيدة على تطبيقات ساندرا وتحليلاته لنصوص ذات صلة بالقصة وبالوصف والرسم والتخطيطات، وهي احتمالات شجع على تحققها عاملان: الانفتاح بين الأجناس والأنواع الأدبية والفنون من جهة، والبنية النثرية لقصيدة النثر التي تتيح هذا الاقتراض، وهو ما كنت أشرت إليه مراراً ورصدته أنت في سؤالك.

بإزاء اطّراح الغنائية من جهة والإيقاعات المصاحبة للشعر الموزون واستبدالها بإيقاعات الفكر والتناظر والتقابل - إيقاعات داخلية - والسرد كوسيلة نثرية مقاربة لاحظت - وحتى قبل كتابي (مرايا نرسيس) المخصص لتمظهرات السرد وكيفياته في القصيدة - أن الاتكاء على السرد يأتي لتحقيق ملموسية للوجود الشعري لقصيدة النثر، وتناولت في كتابي (مالا تؤديه الصفة) تطبيقات على قصائد نثر للماغوط وأنسي الحاج وأدونيس، فالضمائر والتسميات والأمكنة والزمن والأحداث وزاوية النظر كلها تشجع على استقدام السرد للقصيدة - لا بمعنى تحويلها إلى قطعة سردية، ولا بحضور السرد بآلياته التي تُستخدم في القصة والرواية - ولكن باستثمار التمدد السطري وممكنات الخطاب المتمثلة بالاسترسال والتخلي عن هيمنة الغنائية وسيطرة الذات كبؤرة للنص وأخيلته وتوتراته اللغوية. ولاحقا في كتابي (حلم الفراشة) المخصص لإيقاعات قصيدة النثر وأبنيتها النصية تابعت ذلك في شعر الموجة التالية من شعراء قصيدة النثر.

  • بالنسبة لتداخل الاهتمام النصي للناقد، فقد عرفنا الكثير من الذين يجمعون بين نقد الشعر والرواية. ولكن صدور كتابك الأخير، قدّم ميزة نقدية أخرى، وهي قدرتك على التعامل هذه المرّة مع نص مختلف، هو النص البصري، عبر دراسة التشكيل العربي المعاصر.
    وكنت في كتابك (البئر والعسل)، والذي تعتبره أولى محاولاتك في تطبيق مناهج النقد الحديثة والاستعانة بآليات القراءة والتقبل وإطلاق طاقة التأويل في تحليل النصوص، قد أظهرت ضعف حدود أجناس النصوص التراثية المختارة إزاء مزاياها الداخلية وخصائصها النوعية المستقلة، فالقارئ سيجد حكمة وخبراً وأسطورة ومعتقداً ونصوصاً أخرى مختلفة الجنس.
    ما هي السياقات التي تجمع في رأيك بين تجليات مختلف النصوص الكتابية والبصرية في التجربة العربية؟

- علاقة الشعري بالتشكيلي والبصري عموما بحاجة لدراسات من جهات مختلفة (نقد أدبي وفني - أبحاث - رسائل جامعية..) لاسيما بعد انتشار الثقافة البصرية كعامل جمالي في البيت والشارع والفضاء العربي عامة ولو بقدر غير كافٍ قياسا للبيئة والسكان والمؤسسات..، إضافة إلى الانفتاح بين الفنون الذي أشرنا إليه أكثر من مرة في حوارنا، فالحوار بين البصري والكتابي تعدى العلاقة الإيضاحية (الرسوم المحايثة للنصوص أو المستمدة منها لأغراض النشر)، في ( المرئي والمكتوب) كنت قارئاً بصريا ومتذوقاً، تقودني هواجس الحداثة وتبدل المرجعيات والمؤثرات لأشير إلى ظواهر جديدة في التشكيل المعاصر عربياً، وظاهرة الحروفية خاصة, والاتجاهات الجديدة التي يمثلها رسم الشباب دون إغفال الدور التأسيسي للفنانين الأوائل.





 





 





من أغلفة مؤلفات الصكر