غادة السمان.. قلب تسكنه دمشق
غادة السمان.. قلب تسكنه دمشق
غادرت غادة السمان دمشق مبكرًا، ولكنها لم تغادر قلبها. ظلت دمشق هي حبها الأول ومأوى روحها، وعندما بدأت تستعيد سيرتها الذاتية، وتكتب روايتها المستحيلة تفجرت كل العطور القديمة من عاصمة الياسمين، وتلونت سطور غادة السمان بنوع من الأسلوبية الغنائية الفريدة. إن «العربي» في هذا الملف تحاول أن تستعيد دمشق من خلال غادة السمان، ذاكرة وأدبًا، وهي ترسل التحية إلى تلك المدينة العربية العتيدة التي تشهد هذا العام 2008 احتفالاتها كعاصمة للثقافة العربية. ولم أَخُنْ النص الذي سأخطه الآن عن دمشق لن يكون موضوعيًا. وعلى من يبحث عن معلومات محايدة وموثقة بالأرقام عن تلك المدينة السحرية ألا يتابع القراءة. فأنا أتحدث عن مسقط قلبي ورأسي، امبراطورية الياسمين، مدينة غبارها النجوم وأنشودتها نغمة التحدي للفاتحين على مر الدهور.. مدينة تكسرت محاولات الزمن لإذلال شعبها الرقيق كحد سيوفها، الشرس كأحصنة العرب البرية التي تستعصي على ترويض يد غريبة. دمشق مدينة أحزاني البضة، مدينة القبلة الأولى، دمشق التي يتعذر على عشاقها مثلي سجنها داخل صناديق الذاكرة الموصدة، وستظل إلى أبدي تهيم في قاع روحي، وعبثًا أحاول أن أنسى بإتقان ما كان، أو أتذكر بدقة كل ما كان، أو أختم بالشمع الأحمر ذاكرتي معها. جدتي تحت الشجرة.. والعقرب ثمة لحظة شامية لم أنسها يومًا، وأستعيدها كلما أحاقت بي المتاعب والأحزان (كما يحدث للبشر جميعًا) كانت جدتي تصلي، وأخي سلمان وأنا نتقافز كقردين حولها ونلعب (كأي طفلين تقوم بتربيتهما بعد وفاة أمهما) حين تسمرت وسليمان ونحن نرى عقربًا مرعبًا يتجه صوبها، وشاهدته جدتي لكنها تابعت صلاتها بهدوء بينما هو يقترب منها ثم يمر من بين قدميها، وركعت دون أن تلفت إليه وسجدت ولم يرف لها جفن. ومضى العقرب إلى حديقة المصيف عبر الباب المفتوح والرعب حجّرنا، شقيقي وأنا. جدتي الشامية العتيقة المنحدرة كجدي لأبي من أسر متجذرة في (الشام) منذ مئات السنين علمتني يومئذ درسًا لم أنسه يومًا، ولولاه لما استطعت أن أستمر طويلًا هكذا. بالمقابل، علمتني اللاذقية البحرية مدينة أمي والشاطئ السوري (مهد الأبجدية الأولى) عشق الرحيل والتعامل مع الحرف باحترام خاص يكاد يلامس حدود التقديس. وحين أخط نصًا (كما أفعل الآن) تظل حشرة التفكير السوداء تعذبني فيما بعد تهمس كالوسواس: بدّلي هذه الكلمة - اشطبي هذا السطر - أعيدي كتابة هذا النص كله.. أسرار «حكاية غرامي» مع «الشام» حسنًا. لأمعن اعترافًا لم أغادر دمشق وأرحل لمجرد أنني ولدت وفي فمي بطاقة سفر، أو لمجرد رغبتي في متابعة دراسة (الماجستير) في الجامعة الأمريكية ببيروت. قبلها تشاجرت مع دمشق شجارًا كبيرًا كما هي الحال في شجار العشاق.. حيث الحب مرادف للقتل وكانت المحصلة الحكم عليّ بالسجن لثلاثة أشهر بقانون رجعي المفعول ولذنب أفخر به وهو عشق الرحيل، وباللغة الرسمية: لأنني من حملة الشهادات العالية وغادرت بلدي دونما إذن مسبق). لم أعد وقتها طبعًا لأن فكرة السجن لم ترق لي!! ويوم أصدر رئيس البلاد عفوًا عامًا شملني عام 1970 كنت قد تزوجت قبلها بأشهر وحاملًا أيضًا.. وببطني الكبير ورأسي الصغير استقررت في لبنان.. وكنت دائمًا أعرف أن الاستقرار في بيروت يشبه توازن بيضة على دبوس فوق طاولة في قطار! وعبرت عن ذلك القلق في نبوءة عرافة روايتي «بيروت 75» بالحرب الأهلية والرواية صدرت عام 1974.. شجار العشاق بيني وبين دمشق لم يطل، وحين قصفت إسرائيل دمشق عام 1973 أعلن الحب العتيق وفاءه وكتبت: «دمشق، أيتها العتيقة كسنديانة الأساطير. طيورك المهاجرة تقطنك أينما كانت، تحترق أجنحتها إذا مرت بصمودك صاعقة. دمشق، يا لؤلؤة الزمن! ليست مصادفة أن تضربك إسرائيل فأنت أقدم مدينة مأهولة في التاريخ وفي مجرد (وجودك) تحدٍ لكل من يفتقد إلى العراقة والأصالة والعظمة الإنسانية، وكنت دومًا مقبرة للغزاة.. إنه الحب الكبير، يستمر على الرغم من تماريني السويدية اليومية على النسيان. جائزتي الأولى كانت من لبنان الحبيب أكرر: منذ ألف عام كنت أروح جيئة وذهابًا على شرفة بيتي في «ساحة النجمة» الدمشقية واليوم، بعدما هدموا المبنى، مازال شبحي يروح ويجيء على شرفة معلقة في الفضاء.. وسأظل دائمًا شجًا عاشقًا في دمشق لا تفلح قيمة في التخلص منه.. والشعراء والصعاليك والعشاق سيرون شبحي على شرفة بيتي العتيق اللامنسي آخر الليل الشامي. بالمقابل، أعترف بلا حرج أن مدينتين تسبحان في دورتي الدموية هما دمشق وبيروت.. ولن أنسى يومًا كيف احتضنني لبنان بكل كرم الحنان والعطاء في الشدة. ودلل حرفي وأطلقه إلى القارئ العربي.. ولن أنسى أنني بعد عشرة أعوام من وصولي إلى لبنان كطالبة في الجامعة الأمريكية، غمرني كرم ذلك البلد بمنحي أرفع جائزة أدبية، وهي جائزة الإبداع من رئيس الجمهورية اللبنانية التي كانت تقدمها «جمعية أصدقاء الكتاب» وذلك على مجموعتي القصصية «رحيل المرافئ القديمة» والأجمل من ذلك كله ان أحدا لم يغضب لأنني لم أذهب لتسلم الجائزة يومئذ بل نابت عني (حماتي) السيدة سارة داعوق غندور رئيسة جمعية «العناية بالطفل والأم» وحاملة وسام الاستحقاق لأعمالها الخيرية فقد كنت يومها أعمل على روايتي الأولى «بيروت 75» ومع الكتابة شعاري: وداعًا لكل شيء. لكنني فخورة بتلك الجائزة أكثر من فخري بجوائز أخرى غريبة حازتها ترجمات كتبي كـ «القمر المربع» و«بيروت 75» وسواهما. فقد كانت جائزتي من لبنان الجميل هي الأولى.. هذه هي بيروت: تحتضن الجميع دونما استثناء، وهذا هو لبنان وطن السخاء حتى الغناء إكراما للآخر!! لبنان علمتني دمشق حبه عبر درس الوفاء الشامي، واحتضنتني بيروت حيث تشاجرت مع مدينتي الأم ولن أنسى ذلك يومًا. ولكن شوقي إلى دمشق لا ينطفئ وفي العيد التذكاري للفراق أستند على شجرة الياسمين العتيقة كعكاز وأمشي منتصبة في شوارع التشرد المزروعة بفخاخ الغربة، والعيون المفروشة بالألغام.. وفي الليل ألتحف بالذاكرة وأنام في حضن دمشق، وسادتي عباءة جدي في دكانة خلف الجامع الأموي وفي بيته في «زقاق الياسمين» محصنة بتعاويذ جدتي، ولن أخونها. وانا سعيدة لأن المخرج السوري المبدع سمير ذكري يقوم الآن بتحويل روايتي عن زقاق الياسمين «فسيفساء دمشقية» إلى فيلم عنوانه «حراس الصمت» والمحرض الإبداعي هوالأستاذ محمد الأحمد (حفيد الشاعر السوري الكبير بدوي الجبل) بصفته الرئيس لـ «المؤسسة العامة للسينما السورية». التسكع في دمشق القديمة مع بطل روايتي أتحدث الآن عن دمشق في أدبي. في روايتي «الرواية المستحيلة/ فسيفساء دمشقية» يتسكع أحد أبطال الرواية (1945) «أمجد الخيال» وهو يمشي وحيدًا تحت المطر بعدما غادر جامعة دمشق حيث يعمل أستاذًا، ويدوس بقدسية «الدهبيات» الاسم الشامي لأوراق الخريف الذهبية اللون، ويمشي مارًا بمآذن «التكية السليمانية» حيث كل مئذنة مثل ذراع عملاقة تتضرع إلى السماء في رشاقة حجرية، وبردى يتحول إلى مرآة ضوئية وعسل الغيوم يسيل بعذوبة فوق القبات المذهبة بالغسق.. وذلك التسكع كله نحو «سوق الحميدية» حيث تفوح عطور صرر الاوزي (طعام دمشقي) والمطارق الخشبية تهوي فوق البوظة (القيمق والدندرمة» ومزاريب سقف السوق تقطر منها مياه المطر.. شوارع الخانات والميازيب والقباقبية وسط القباقيب «الشبراوية» والأغباني والبروكار والشراويل العجمية والمصدّفات. بطل روايتي تسكع على غير هدى بين قبر «صلاح الدين» و«مئذنة الشحم» وأزقة المسك والعطوس والعنبر والقرفة والدكك المتآكلة وبهارات الهند والكسبراء الجافة والكمون والزنجبيل وجوزة الطيب والآنية البلورية بموادها الحية السحرية المجففة، والهواء بصدئه الحنط والخيش المغبر.. ثم «زقاق الياسمين» حيث بيت جد أمجد الخيال بطل الرواية. يا «زقاق الياسمين» هل تفتقدني؟ هل كان البيت الشامي العتيق خلف الجامع الأموي في «زقاق الياسمين» يبكي واحدة من بطلات الرواية (هند) أم كان يبكي غيابي عن دمشق كما كنت اشتهي أن تبكيني الأماكن التي عشقتها بنرجسية مخزية؟ هل كانت الضرورة الفنية الأدبية تستدعي هذا النص في روايتي.. الرواية المستحيلة - فسيفساء دمشقية؟ أم كان النص دخيلا على الرواية فنيا؟ لن أدري ولن يستطيع أي ناقد الجزم بذلك.. ولكن البيت العتيق الشبيه ببيت جدي انتحب لمناسبة ما وجمالياته تطغى على المشاعر البشرية العابرة.. وها هي صورة البيت الشامي العتيق بكل بهائه ورمزيته الأكثر سحرًا من الشعر والنثر الروائي.. ها هو الباب الخشبي الكبير للبيت، المحفور بنقوش إسلامية تتكاثف عند طرفه الأعلى المقوس المطروق بالنحاس والذي ينفتح في أسفله باب آخر صغير يكفي لمرور شخص على الرأس (احتراما للبيت الحي). لازلت أرى النباتات المزروعة في صدر الدار وأسمع خرير ماء «البحرة» الرخامية التي تتوسطه كصدى لأنشودة المطر والبركة.. رائحة الياسمين والريحان والورد البلدي الأبيض والزنبق والفل والشاب الظريف والأضاليا والطرخون «الخائن» الذي تزرعه جدتي في حوض ما لكنه ينبت في حوض آخر! وأزهار «المجنونة» الليلكية تراقص الياسمين (العراتيلي) الذي يتسلق الجدران حتى غرف النوم.. متلصصًا. بطل رواية «فسيفساء دمشقية أم أنا؟» ها نحن في «الإيوان المحاط بثلاثة جدران في «الديار» حيث يجلس أحد أبطال روايتي المستحيلة التي يحولها سمير ذكري الى فيلم كما ذكرت لكم، يجلس في الإيوان محاطًا بسيمفونية الازهار والعطور أمامه الحديقة الداخلية. الإيوان تغطيه قبة تكسوها النقوش الاسلامية والمقرنصات.. يسترخي على مساند «البروكار» المدعومة بالجدار (الرخامي) خلفها.. ها هي الفسقية المرتفعة المطعمة بالفسيفساء تبكي هند (إحدى بطلات الرواية) الماء الذي يتفجر منها ويسيل على جدار (السلسبيل) المطعم يبكي ليل نهار وكذلك الابواب الخشبية المنحوتة بزخارف إسلامية مطعمة بالنحاس المطروح التي تنفتح على «القاعة الكبرى» الخاصة بالضيافة بسقفها المرتفع كالإيوان.. والآيات القرآنية والحكم منقوشة عليها مثل «رأس الحكمة مخافة الله» التي تتكرر على خشب العديد من الأبواب.. أقواس الإيوان الثلاثة تبكي هند.. العمودان اللذان ينحدران برشاقة غزلانية من (الدانتيل) الحجري كما في قصر الحمراء يبكيان بصمات الأجداد على كل شيء وأجداد أجدادهم تبكي.. ولا عزاء (لزوج الراحلة) إلا في قراءة الحكمة على الباب الملاصق لجلسته: «ولا غالب إلا الله».. اللوح المرمري المنقوش على الجدار يبكي الزخارف. المشقف. والابلق، العجمي، المجزع (والزخرفات) الشامية الأخرى كلها من جصية وخشبية ورخامية وحجرية) تبكي.. تجهش بالنحيب ومن جناحيها تهب رائحة اليانسون والقرفة والمشمش والتفاح والعنب والتوت والليمون والنارنج والهرجاية والمانوليا وسواها. أخط أبجدية البيت الشامي العتيق بحنين ولكن حذار من التوهم بانني أنتمي إلى حزب المنتحبين على الغابر والذين يجففون الأزهار العتيقة بين دفات الكتب مصغرة الأوراق ويرتدون سرًا فساتين المخمل التابوتية التي تفوح منها روائح النفتالين وترقص في (دانتيلها) حشرات العتة. أنتمي إلى الحاضر وإلى مستقبل لايقطع صلته بالماضي كي لا يموت بردًا وفقرًا إنسانيًا.. وإذا نسيت دمشق فسأموت بردًا كما أكرر دائمًا. ولم اقتلع من قلبي يوما ياسمينة جدتي لأزرع في موضعها برج إيفل أو تمثال الحرية النيويوركي. صحيح أنني أسمع رنة بيتي الشامي العتيق وهي تتنفس بصوت يكاد يكون بشريًا، منتحبة بنشيج دهري في أصدائه صوت بكاء نساء خافت ممتزج بالمواويل و(الولاويل) على طول عصفور من القهر السري و(انكسار الخاطر) لكنه بيت صامد لا يزعزعه أحد.. وصحيح أنني ككل شامية عتيقة أعرف أن البيت الشامي يتطور ويصحح ذاته من الداخل، لكنني أيضًا أعرف أن حضور الأشباح في دمشق العتيقة أمر عادي حيث يخلّف كل جَدّ وبقية أرواح الأسلاف شيئًا منهم في البيت. لكنني أيضا ككل الشوام (أي أهل الشام) أعرف أن «قيمة كل امرئ ما يحسنه» كما يقول النقش في الخشب على باب غرفة نوم جدي وان الإنسان ليس بأصله وفصله بل وأولاً بما يقدمه للناس من عمل. إنها الأعتق ولكن الأكثر شبابًا دمشق هي المدينة الأقدم المأهولة في كوكبنا، والمستمرة، ولكنها أيضًا الأكثر شبابًا وحيوية وهنا المفارقة الجميلة. ولأنني «شامية عتيقة» أحب أسلافي وقد أتشاجر مع جدي ولكنني لا أجرؤ على تمزيق عباءته ولا تلويثها.. بالمقابل لا أريد أن أرتدي جبة جدي أو أختبئ داخل أكمامه وأنام في جيوبه بشخير تاريخي. أريد أن أرتدي حياتي كما أشاء وأفصّل ثوب زمني على مقاسي.. والتراث ليس بالضرورة (إعاقة) الإبداع، بل إنه المحفز على الاستمرارية والإبداع وتجاوز الأزمنة إذا عرفنا كيف نسافره. أكرر: دمشق مدينة تقطنك حين تغادرها؛ أزقتها، أبوابها التاريخية، دمشق؟ تزوج الحنان من الحجر فولدت بيوت تنحني على أهلها كرحم. في أزقة متلاصقة الشفاه، كهمس العشاق، قرب «باب توما» الشاغور. الميدان «باب الصالحية» ساحة المرجة، القطاع، سوق ساروجة، والذهب الضوئي يسيل من قباب «الجامع الأموي» و«ستي زينب» ومن جرس كنيسة القديس بولس وآثار أقدامه حتى روما. قبل أن أرحل بعيدًا قرأت دفتر الياسمين في دمشق. قرأت طلاسمها، أحجياتها، تعاويذها، دم ثوارها، قرأت ميسلون.. ثم بدأت طيراني وفي دمي ذلك كله. ولكن دمشق هي أيضا (الاسم الحركي) لسورية عندي، ولكل مدينة عرفتها هناك وأحببتها بدءا بغابات كسبة وصلنفة ومرورا بتدمر والقامشلي وحلب والدريكيش وحمص وحماة والسويداء وسواها كثير في دمي ولا يحصى. جيل ولد يوم غادرتها في الليلة الماضية، قالت لي ذاكرتي: ارسمي لي خروفاً. فرسمت لها مدينة اسمها دمشق لم أرسمها طالعة من مرايا الماضي وحدها.. بل رسمت شهوة المستقبل. رسمت شرفتي العتيقة في «ساحة النجمة» الدمشقية ووقفت عليها، لم تمر مواكب الماضي وحدها أمام عيني، بل شاهدت تحت شرفتي، الجيل النضر الذي ولد خلال غيبتي عنها.. والجيل الذي سيولد بعد أن أموت!.
|