الفَُرادَةُ .. عالم ذو إمكانات غير محدودة أحمد أبوزيد

الفَُرادَةُ .. عالم ذو إمكانات غير محدودة

تشغل فكرة الذكاء الصناعي أذهان الكثيرين من الكتّاب والمفكرين في العقود الأخيرة, بحيث ظهر حولها عدد من الأفلام السينمائية, بالإضافة إلى عدد كبير من روايات الخيال العلمي, وكذلك الكتابات والدراسات العلمية الجادة مما جعل الكثيرين في الخارج يتساءلون عما إذا كانت الكمبيوترات الفائقة الذكاء (سوف ترث الأرض) وتحل محل الإنسان في كل شيء?

من أهم الكتابات العلمية الرصينة التي ظهرت أخيرًا حول الموضوع كتاب لأحد كبار المفكرين الأمريكيين المهتمين بالدراسات المستقبلية وهو راي كورزويل تحت عنوان قد يبدو غير مألوف بالنسبة للكثيرين في العالم العربي وهو (اقترب عهد الفرادة: حين يتسامى البشر عن البيولوجيا), The Singularity is Near: When Humans Transcend Biology. وقد ظهر الكتاب منذ أشهر قليلة (22 سبتمبر 2005). والكلمة الإنجليزية تشير لغويًا إلى الشيء الغريب أو الشاذ وغير المألوف وإلى الاستثناء من القاعدة ولكنها تستخدم في الرياضيات وعلوم الفضاء - مع شيء من التجوز والتبسيط - للإشارة إلى الخروج على القاعدة وإلى الدخول إلى مجال اللامتناهي, كما هو الحال بالنسبة للثقوب السوداء التي تجذب إليها النجوم فتهوي إلى قرار مظلم بغير نهاية. ولكن كورزويل يستخدم الكلمة لكي يشير إلى اقتراب (حدوث انكسار تاريخي جذري بالغ العمق, من شأنه تغيير كل ما يؤلف طبيعة الكائن البشري). وهو يتبع في ذلك رأي رائد علم الكمبيوتر الشهير فون نويمان, الذي تنبأ في خمسينيات القرن الماضي بأن اطراد واستمرار التقدم التكنولوجي الشديد التسارع يوحي بأننا نقترب بسرعة من حالة مفردة أساسية في تاريخ الجنس البشري سوف يستحيل بعدها أن تظل أحوال الناس على الشكل الذي نعرفه. وكتاب كورزويل الأخير هو امتداد لكتابين سابقين عليه هما: (عصر الآلات الذكية) و(عصر الآلات العاقلة المفكرة) ولكنه في هذا الكتاب الجديد يذهب إلى حد التنبؤ بأن الارتقاء المستمر اللامتناهي في الذكاء الصناعي سوف يؤثر في مستقبل عملية التطور ذاتها, وهي نتيجة مخيفة بقدر ما هي مثيرة.

التطورات الثورية

والفكرة التي كانت تلح على ذهن كورزويل طيلة الوقت هي أن ما يسميه (التطورات الثورية) التي تدخل على البرمجيات والعتاد في مجال الكمبيوتر سوف تؤدي إلى إمكان منافسة الذكاء الصناعي للذكاء البشري, بل وتهديده خلال العقود الثلاثة القائمة, والتفوق عليه بشكل لا متناه, وأن التقدم الهائل والمتواصل الذي سوف تحرزه تكنولوجيا الصناعات المتناهية الصغر أو الدقيقة للغاية (النانوتكنولوجي) خلال العقدين الأولين من القرن الحالي سوف يساعد على إنتاج كل الأشياء الفيزيقية المعروفة من خامات رخيصة للغاية كما سوف يتم القضاء على كل الأمراض والأوبئة بل والتغلب على عملية الشيخوخة ذاتها, مما يعني أنه قد يكون في استطاعة الإنسان أن يعيش إلى الأبد. كذلك يذهب كورزويل إلى أن عملية التطور التكنولوجي المتسارعة سوف تضاعف من معدلات ذلك التسارع لدرجة يصعب قياسها بالمعايير المعروفة لنا في الوقت الحالي, لدرجة أن الذكاء الصناعي سوف يتضاعف بنهاية القرن الواحد والعشرين إلى ما يزيد على تريليونات التريليونات من قوة ذكاء الإنسان العادي. والنتيجة من هذا كله أنه خلال العقود القليلة القادمة سوف تتمكن التكنولوجيا القائمة على المعلومات من استيعاب كل المعارف والقدرات البشرية, بما في ذلك القدرة على الحصول على المعلومات وتسخيرها لحل المشكلات التي قد يعجز الذكاء البشري عن حلها, بل إن هذه التكنولوجيات المتقدمة سوف تتمتع أيضًا بالذكاء العاطفي والأخلاقي الذي نعتبره أحد أهم خصائص الجنس البشري. وهذه كلها تعتبر من أهم سمات المفردة - أو الفرادة - والتقدم التكنولوجي اللامتناهي الذي سوف يؤدي في آخر الأمر إلى (تمزيق نسيج التاريخ البشري) تمامًا.

فقدرة الإنسان على التغير وعلى توسيع ومد آفاقه وإمكاناته إلى مجالات جديدة قدرة غير محدودة, كما أن إمكانات التغيّر ذاتها غير محدودة أيضًا. ويبدو أن هذه الرغبة في الامتداد غاية تطورية في ذاتها, بحيث يمكن القول إن العقل البشري يستطيع امتصاص واستيعاب أي شيء في الكون من مادة وطاقة, وأن يتحد مع هذه المكونات بحيث تنتقل إليها قدراته وإمكاناته المميزة للذكاء اللاإنساني مما يساعدها على الامتداد بدورها إلى مجالات أوسع وأكثر رحابة وعمقًا وتنوعًا, لدرجة أن البعض يتكلم الآن عما يسمونه يقظة الكون. فثمةإذن إمكانات رهيبة لانتشار الذكاء خلال الكون كله, بحيث يستطيع أن يتخذ قرارات ذكية تتعلق بمصيره, حتى وإن تضاربت هذه القرارات مع اتجاهات الحضارة السائدة بل إن بعض العلماء يرون أن الكون يتمتع بالفعل بقدر عال من الذكاء الذي يتمثل في التناسق والتجانس والانسجام بين الظواهر الكونية المعقدة والمتباينة, وأن هذا لا يتعارض على أي حال مع إمكان ضخ مزيد من الذكاء البشري في المادة غير الذكية التي تؤلف الوجود الكوني. والكثيرون يرون أن المستقبل القريب سوف يشهد طفرات واسعة في نمو الذكاء وبخاصة الذكاء الصناعي الذي سوف يصل إلى مستويات يصعب تصور حدودها وهذا مظهر مهم وأساسي من مظاهر الفرادة.

وليس أدل على مدى تسارع هذا التقدم التكنولوجي المتمثل في الفرادة من عبارة طريفة, ولكن لها دلالتها العميقة للكاتب الأمريكي بروس سترلنج يقول فيها: (كنت أظن أن الفضاء المعلوماتي يبعد عنا بحوالي خمسين سنة, ولكنه أدركنا بعد عشر سنوات فقط, وما كنت أعتقد أنه لن يتحقق قبل عشر سنوات حدث الآن بالفعل دون أن أتنبه إلى حدوثه).

عصر الآلات الذكية

ولقد كان التقدم التكنولوجي أحد السمات الرئيسية الغالبة على القرن العشرين, ويدور الآن جدل طويل حول احتمال أن يصبح القرن الواحد والعشرون بالنسبة للأجيال القادمة مجرد مرحلة من التطور في حياة المجتمع, تماثل مرحلة ظهور الحياة لأول مرة على سطح الأرض, وذلك نتيجة للتقدم التكنولوجي الهائل في مجال الآلات الذكية المفكرة التي تتجاوز قدرات الإنسان الحالي بكثير. فالمجتمع الإنساني يسيل الآن إلى الولوج إلى مرحلة ونظام يختلفان اختلافًا جوهريًا عن الماضي والحاضر لدرجة أن هناك من يرى الفارق بين هذه (الكائنات) الذكية المفكرة وبين الإنسان الحالي أشبه بالفارق بين هذا الإنسان وبقية الكائنات الحية الأخرى.

فالمستقبل القريب سوف يمثل إذن نقطة تحول كامل عن كل ما هو معروف ومألوف, وسوف تستمر عملية التحول والتغير المتسارعة التي لن يحدها حدود أو تقف دون تقدمها واستمرارها وتسارعها المطرد أي عوائق مما يحدد أهم شروط وملامح (المفردة) أو التفرد أو الفرادة في مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية, وذلك على اعتبار أن المفردة أو الفرادة في رأي بعض المفكرين تمثل فترة زمنية مستقبلية يصعب تحديد موعدها بالضبط, كما يصعب قياس ما سوف تشاهده من تسارع رهيب في حركة التقدم والتغير والتحول في مجالات البيوتكنولوجي والنانوتكنولوجي ومايترتب على ذلك من اضطرابات في أسلوب الحياة والعلاقات المصطلح عليها بين البشر من ناحية وبين الإنسان والكون بأسره من الناحية الأخرى. ومنذ سنوات قليلة ذهب أحد كبار أساتذة علم الكمبيوتر في أمريكا وهو فرنون فينج إلى أن الوصول إلى الفرادة بهذا المعنى, الذي يشير إلى الغرابة والاستمرار في التسارع إلى مالانهاية, قد يحدث قبل عام 2004 أو بعد عام 2020, مما يكشف عن مدى الغموض الذي يكتنف هذا المفهوم الحديث الفريد, الذي يخرج عن كل القواعد والقوانين والمبادئ المسلم بها في العلم. بل إن بعض المهتمين برصد التسارع المطرد وغير المحكوم في التغيرات التكنولوجية, يرون أن أثر هذه التغيرات على مستقبل الجنس البشري خلال القرن الحالي, أي خلال المائة سنة القادمة سوف توازي - مع التواضع الشديد - ما قد عساه أن يحدث خلال أكثر من عشرين ألف سنة بمعدلات سرعة التغير الحالية, وبمعدلات حجم التقدم الذي تم إحرازه خلال القرن العشرين, وأن هذا التقدم وتلك التحولات المفاجئة والفادحة بكل المعايير سوف تصيب الإنسان بالصدمة والذهول, ولذا فقد يكون من الخير إخضاع التسابق المحموم في مجال البحث العلمي والإنجاز التكنولوجي لقيود صارمة, وإن تكن هناك شكوك قوية حول إمكان تنفيذ ذلك, فقد انطلق مارد التقدم العلمي والتكنولوجي ولن تفلح أي جهود في الحد من سرعة ذلك الانطلاق. وبالمثل تذهب برندا كوبر, وهي كاتبة أمريكية تهتم بالكتابة في الخيال العلمي, إلى أن هذه الفرادة الغريبة غير المسبوقة سوف تكون لها آثار وخيمة ومؤثرة في اختلال مقومات مفهوم (الإنسانية, وتشبه الوضع الإنساني العام حين يصل التقدم إلى لحظة الفرادة بوجود جدار سميك يقف إلى ناحية منه البشر (الحاليون), بينما يقف في الناحية الأخرى أنواع وأشكال جديدة وغريبة ممن تسميهم (ما بعد البشر) أو (ما وراء البشر), وهم كائنات مختلفة تمامًا في مقوماتها وقدراتها الذهنية الرهيبة التي ترقى إلى ما لا نهاية عن الإمكانات البشرية المعروفة لدينا الآن, وسوف يكون لها بطبيعة الحال أسلوبها المتميز أو المتفرد في الحياة والنظرة إلى الأشياء. وتذكر في هذا الصدد حكاية طريفة عن أحد أصدقائها الذي ذكر لها ذات مرة أنه سئم هذه الحياة التي يحياها الآن وأنه يود لو أمكن (تحميله) على الكمبيوتر.

التطور السريع للإنسان

ويرجع الفضل في نشر وإذاعة هذا المفهوم - الحدث, إلى فرنون فينج في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي, وإن كانت الفكرة قديمة وتراود أذهان عدد غير قليل من مفكري القرن التاسع عشر الذين شغلت مشكلة التطور الجانب الأكبر من تفكيرهم وكتاباتهم نتيجة للتقدم في استحداث تكنولوجيات جديدة أسهمت في تذليل الحياة وارتقاء المجتمع الإنساني القائم حينذاك. بل إن كلمة Singularity ذاتها - بالمعنى المقصود هنا - ظهرت لأول مرة في الخمسينيات على أيدي ستانيسلاف أولم, ولكن آراء وأفكار هؤلاء العلماء والمفكرين لم تصل إلى الأبعاد التي تميز مفهوم المفردة والتفرد والفرادة المستخدم في الكتابات الحديثة, إذ لم يكن أي منهم يتصور أن يتم التغير والتقدم والتحول والانتقال من حالة معينة راسخة إلى وضع جديد تمامًا بل وغريب وشاذ بمثل هذه المعدلات اللامتناهية من السرعة الرهيبة, التي تعجز عن تقديرها المقاييس المستخدمة حتى الآن, كما أنهم كانوا يرون في ضوء المعلومات المتوافرة لديهم أن التغيرات الأساسية الكبرى في حياة الإنسان والمجتمع كانت تحتاج إلى أحقاب طويلة من الزمن ولكن الانتقال من المراحل القديمة إلى المراحل الأكثر حداثة كان يتحقق على فترات زمنية أقصر فأقصر نظرًا للاستفادة من الخبرات السابقة والبناء فوقها.

ويكفي أن نشير هنا بسرعة ودون الدخول في أي تفاصيل إلى كتابات لويس مورجان الأمريكي في القرن التاسع عشر عن تطور المجتمع الإنساني وانتقاله بفضل التقدم التكنولوجي من مرحلة الوحشية إلى البربرية إلى الحضارة الحديثة, أو إلى كتابات الأمريكي ليزلي وايت في القرن الماضي عن أن المعيار الذي تقاس به درجة التقدم والتطور هو الاختلاف في الاعتماد على أشكال مختلفة من الطاقة والتحكم فيها, اعتبارًا من الطاقة العضلية لدى الإنسان إلى الطاقة النباتية والحيوانية إلى طاقة الموارد الطبيعية كالفحم والغاز والنفط ثم أخيرًا الطاقة النووية. بل إنه حتى في الأعمال المعاصرة مثل كتابات آلفين توفلر عن صدمة الثقافة وأفكاره عن أن مرحلة المجتمع الصناعي التي نعيش فيها قد قاربت على الانتهاء وأن الخدمات والمعلومات أصبح لها الأولوية القصوى الآن, لم تستطع الارتقاء إلى تصور أبعاد التغيرات غير المحدودة والتحولات الفائقة السرعة وغير المألوفة التي يتضمنها مفهوم المفردة أو الفرادة, وإن كانت كلها تتنبأ بأن المجتمع الإنساني مقبل على مرحلة من التطور الذي يشذ عن كل المعايير السابقة والذي قد يقلب الوضع الإنساني رأسًا على عقب. والكاتبة الروائية برندا كوبر تقول في ذلك إنه لو كان في الاستطاعة ردُ الحياة إلى أحد الأشخاص الذين عاشوا منذ ستمائة عام فقط, فإن الصدمة التي تصيبه حين يرى الأوضاع السائدة في مجتمعنا الحديث سوف تشبه حالة الذهول التي سنجد نحن أنفسنا فيها حين نصل إلى حالة الفرادة بتغيراتها المفاجئة وتحولاتها السريعة المتلاحقة والتي لا تنتهي. فالفرادة وضع مستقبلي شاذ وغريب ولا يكاد يخضع لأي قاعدة أو مبدأ أو قانون من قوانين التغير والتطور, ولذا يصعب التنبؤ بما سيكون عليه العالم بعد عقدين أو ثلاثة نتيجة لتعرضه لأنواء التغيرات العاتية التي سوف تعصف بكل ما هو قائم الآن بفضل التقدم التكنولوجي المذهل في مجال الذكاء الصناعي.

ومهما اختلفت وجهات النظر فهناك نوع من شبه الإجماع على أن الفرادة هي أهم حدث في تاريخ الجنس البشري على الإطلاق, وأن ثلاثة أنواع من التقدم التكنولوجي تهيئ لقيام هذا الحدث - الظاهرة وتعتبر في الوقت ذاته من أهم ملامحه ومقوماته, وهي التقدم في مجال الذكاء الصناعي والتقدم في مجالات الآلات المتناهية الصغر أو النانوتكنولوجي الجزيئية والتقدم في مجال التكنولوجيا الحيوية الجزيئية. وقد يكون التقدم في هذه المجالات الثلاثة بطيئًا في أول الأمر, ولكنه لن يلبث أن يتسارع بشكل يفوق كل إمكانات الخيال. وحين تصل الأمور إلى هذه الحالة يصبح في الإمكان الاستعانة بالذكاء الصناعي الخارق الذي يتجاوز كل القدرات البشرية في التحكم في تركيب وبناء المادة على مستوى الذرات والكشف عن أسرار وخفايا العمليات البيولوجية الدقيقة ابتداء من المستويات الميكروسكوبية الدقيقة للغاية, وسوف يكون لهذا كله بطبيعة الحال انعكاساته السلبية على أسلوب الحياة, إذ المحتمل أن تتعرض نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى العلاقات مع الغير وتقويمه للوضع الإنساني إزاء الكون لكثير من الخلل والاضطراب.

هل تتفوق الآلة

فالشيء المميز حقًا للفرادة هو تفوق (ذكاء الآلة) على الذكاء البشري وتجاوزه إلى ما لا نهاية. وثمة احتمالات لامتزاج كلا النوعين من الذكاء معًا في وحدة كلية متماسكة بالرغم مما قد يكون في هذا القول من غرابة, ولكن اللحظة الفريدة التي يبلغ فيها التطور التكنولوجي أقصى درجات السرعة التي يصعب تقديرها بمقاييسنا الحالية هي اللحظة التي تتحد فيها التكنولوجيا مع الطبيعة في كيان متكامل, مما قد يستتبع اختفاء مفهوم العالم الذي نعرفه وزواله واندثاره, وظهور تحديدات وتعريفات جديدة للحياة والطبيعة ولكل ما هو إنساني. وقد انتبهت بعض الصناعات الأساسية الكبرى لإمكان الوصول إلى هذا الوضع الخطير وبات الكثيرون يتحسبون لهذه اللحظة الحرجة ويخشون انتشار الحقيقة بين عامة الناس لما قد تثيره من هلع وخوف من المستقبل وظهور بعض ردود الفعل الهستيرية وارتفاع الدعوة إلى رفض التكنولوجيات الجديدة التي لم يتم اختبارها والتأكد من عدم تعارضها مع الوجود الإنساني ومقومات هذا الوجود, ويصدق هذا بوجه خاص على البيوتكنولوجي الجزيئية. والواقع أن عددًا كبيرًا من المفكرين يتساءلون عن جدوى الوصول بالعلم والتكنولوجيا وبالإنسان إلى هذه الحافة الخطيرة, إلا أن البعض الآخر يرون أن عجلة التقدم التكنولوجي قد انطلقت بالفعل بأقصى سرعة, وأنه لا فائدة من محاولة إيقافها وأن التغير أمر محتوم ولا مفر منه, وأن تطورات الطبيعة والتكنولوجيا تحتم ارتباطهما معًا. والملاحظ على أي حال أنه في الوقت الذي تظهر فيه إنجازات - أو حتى كيانات - تكنولوجية جديدة تنقرض أنواع بيولوجية وتختفي من الوجود, مما قد يؤدي إلى تقارب المسافة باستمرار بين التكنولوجيا والبيولوجيا, وأنه إذا ما تجاوز هذا التقارب حدودًا معينة (يصعب تقديرها الآن) فمن الممكن أن يحدث أي شيء. وحين يصل هذا التقارب إلى حد التوحد بين الإنسان والآلة سوف يمكن السيطرة على كل مظاهر الكون والتحكم فيها وتوجيهها بما يتفق مع أهواء البشر الجدد, ويحقق مصالحهم, فيتغلب الإنسان - على سبيل المثال - ليس فقط على الجوع والمرض بل وأيضًا على الشيخوخة بل والموت ذاته. فالحياة بعد الفرادة ستكون فريدة في كل أبعادها ومظاهرها ومختلفة تمامًا عن كل ما مضى ولكنها لن تكون خارجة تمامًا عن نطاق العقل والمنطق والفهم بالرغم من صعوبة الوضع الإنساني حينذاك.

فالفرادة إذن حالة غير مسبوقة في تاريخ الجنس البشري, كما أن التغيرات الهائلة والشاملة التي ستطرأ على الحياة سوف تتطلب توافر قدرات هائلة مماثلة لتلك التغيرات اللامحددة واللامحدودة, لأن الفرادة - حسب ما يقول كورزويل - ظاهرة / حادث لا تنتمي للبيئة التي ألفناها خلال القرون الطويلة الماضية, ولذا فسوف تظهر اتجاهات وحركات بل وفلسفات اجتماعية وأخلاقية وروحية لا عهد للإنسانية بها, ولكنها تتلاءم مع ذلك التقارب والترابط الشديدين بين الإنسان والآلة أو بين التكنولوجيا والبيولوجيا في وقت قصير للغاية, وبذلك يتحقق ما سبق أن تنبأ به الفيلسوف الفرنسي الكبير بيير تايير دوشاردان من أنه في يوم من الأيام بعد أن يكون الإنسان قد تمكن من السيطرة على الرياح وحركة الأمواج وعلى الجاذبية فإنه سوف يتمكن من التحكم في قوى الحب, وبذلك يتمكن للمرة الثانية في تاريخ العالم من اكتشاف النار, أي سر الحياة ذاتها, (وذلك في إشارة واضحة لأسطورة برومثيوس).

 

أحمد أبوزيد