الهوية والعنف في الخطاب الثقافي الجزائري

الهوية والعنف في الخطاب الثقافي الجزائري

نحاول في هذه المقالة أن نناقش ثلاث قضايا، نعتقد أنها متكاملة ومترابطة، نخصص القضية الأولى للهوية، والهوية الجزائرية في التاريخ. والقضية الثانية لعلاقة الهوية بالعنف. وننظر في القضية الثالثة في بعض المشكلات القانونية لمسألتي الهوية والعنف.

إن الأزمة التي تعرفها الجزائر منذ أكثر من عشر سنوات تطرح مسائل شائكة، نعترف سلفا، أن خطاب الفلسفة بشكل خاص وخطاب العلوم الإنسانية بشكل عام لم يستطع بعد بلورة فهم مناسب لما يحدث، صحيح أن هنالك اجتهادات معتبرة من قبل عديد المختصين في مجال العلوم الإنسانية الذين قدموا مساهمات مهمة، خاصة في علم النفس والانثربولوجيا وعلم الاجتماع، إلا أنها كانت - في تقديرنا - تخضع لمعايير أقل ما يقال عنها هو استبعادها للتحليل التاريخي والفلسفي. أما الخطاب الفلسفي، فيعاني من ضعف معرفي ومنهجي لم يمكنه من التفكير في أي مسألة من المسائل المطروحة على الجزائر، فلقد عاش دائما في تبعية شبه مطلقة للخطاب السياسي والايديولوجي الرسمي، وإلى نوع من السلفية الدينية الصورية، وهنا بعض مصادر عجزه عن تحليل القضايا المطروحة على المجتمع الجزائري.

معنى الهوية

إن ما حمله عصرنا من تطورات وتحولات وتعقيدات في مختلف المجالات الفكرية والعلمية، جعل من موضوع الهوية موضوعا مشتركًا لمختلف العلوم والثقافات، ولعل ما كتبه «كلود ليفي ستراوس» على هامش ندوة «الهوية»، من أنها تقع اليوم على أكثر من مفترق الطرق، له أكثر من دلالة، لأن هذا يعبر عن أزمة عميقة في الهوية، أزمة تخترق المجتمعات المتقدمة والمجتمعات النامية، كما تخترق جميع المعارف والعلوم والثقافات.

ففي المسار الغربي مثلا يمكن الوقوف عند مظهرين من مظاهر هذه الأزمة، الأول متعلق بالمشروع الانثربولوجي الغربي الذي يرمي إلى دراسة المجتمعات والثقافات المغايرة ولكن بأدوات معرفية غربية، من هنا تطرح جملة من الاعتراضات والانتقادات على هذا العلم، خاصة من حيث محاولته وبحثه على مماثلة تلك المجتمعات المغايرة مع الأدوات العلمية، ذلك أن «رجل الانثربولوجية إذ يرمي إلى معرفة الآخر - وهو هنا الشعوب غير الأوربية - لن يفعل سوى صهر ثقافات هذه الشعوب واحتواء فروقاتها والتضحية بأصالتها وبالتالي سحق تواريخها الخاصة».

بمعنى أن المشروع الغربي، يقوم على مماهاة الآخر مع الذات، ولذا وجهت له العديد من الانتقادات سواء داخل الفكر الغربي ذاته أو من خارجه، وطرحت بالتالي إشكالية الثقافة والهوية وإمكان معرفة الآخر وهويته. وأما المظهر الثاني من مظاهر هذه الأزمة فمتعلق بما حصل من تطورات في الفكر والفلسفة الغربية، خاصة بعد أحداث 1968، وما تم ملاحظته من ميل نحو الاختلاف والمغايرة، مثل اختلاف الجنسين واختلاف الطبيعة والثقافة، واختلاف الثقافات بعضها عن بعض، بل وحتى اختلاف الثقافات المحلية عن الثقافات الوطنية، وأصبح مفهوم الاختلاف يشكل موضوعا مركزيا عند بعض الفلاسفة أمثال «دلوز» و«دريدا» و«فوكو».ولعل هذا ما أدى بـ «جون ماري بنو J.M.Benois» - مدير ندوة الهوية السالفة الذكر - إلى القول «إن مسألة الاختلاف تخترق عصرنا الحالي».

إن الاختلاف يؤدي حتما إلى صناعة ما يجعل المختلف مختلفا ومتميزا، أي ما يصنع هويته، وهذا ميل لا يمكن أن يغفل عنا خطر العزلة والانطواء أو الرفض لكل ما يشكله الآخر، خاصة في زمن العولمة والاتصالات التي يشهدها عصرنا، لذا فإن الاختلاف يجب ألا ينسينا ضرورة ربط الهوية بالطبيعة البشرية والعقل البشري، من هنا يجب تفكيكها إلى عناصرها المختلفة، بحيث تصبح حصيلة لعبة الاختلافات والتشابهات

لا نتيجة تشابه أصلي، بحيث تبدو المغايرة مقوما من مقوماتها. ومعنى هذا أن الهوية ليست معطى ثابتا، أو مبدأ مفارقا أو جوهرا ميتافيزيقيا أو أصلا أوليا أو نهائيا، وإنما هي حصيلة ونتيجة يعاد بناؤها وتنميتها واكتشافها باستمرار.

وإذا كان الفكر الغربي، بالرغم من قدرته وإمكاناته وتقدمه قد طرح سؤال الهوية، فإن هذا السؤال يصبح في نظرنا أكثر من ضروري بالنسبة لمجتمعاتنا التي عرفت الانحطاط والتمزق والعنف والقطيعة والتشوه، سواء ضمن تاريخها الخاص أو في صراعها مع الاستعمار أو في محاولات تنمية قدراتها وتحديثها. لذا نعتقد أن طرح سؤال الهوية يمر حتما، عبر سؤال الوجود والمعرفة، وأن المدخل المناسب في نظرنا لطرح إشكالية الهوية ومناقشتها وتحليلها هو المدخل المعرفي النقدي، وليس المدخل السياسي أو الإيديولوجي، لأن المعرفة هي التي (تعطي الهوية قوامها وماهيتها). مع أن الجانب السياسي والإيديولوجي حاضر بالضرورة، في هذا الموضوع، إلا أن المدخل المعرفي النقدي هو الذي يمكننا من أن نميز بين طرح شكلي للهوية لا يهتم بمستجدات التاريخ، وطرح تاريخي موضوعي يرى أن الهوية معطى تاريخي، تغتني دائما بمضامين جديدة وتملك القدرة على التحديد والتجدد والتعرف على ذاتها في الماضي والحاضر كما تتعرف، في الوقت نفسه، على غيرها. من هنا نعتقد أن معرفة التاريخ شرط أساسي لمعرفة الهوية والوعي بها.

وإذا كان الإنسان هو بالضرورة، إنسان ثقافة معينة، فان هويته تتحدد بانتمائه إلى تلك الثقافة التي يمكن تسميتها بالثقافة القاعدية، على أن الإنسان ليس إنسانا إلا لكونه كائنا عاقلا، يقيم علاقات مع مختلف الثقافات والهويات، وهو كائن اجتماعي وتواصلي. من هنا ضرورة ربط الهوية بالعقل والنقد وبالبعدين الخاص والعام، حيث تكون الهوية تعبيرا عن الثبات مع الذات التي تنمو وتتطور، انطلاقا من حدث مؤسس أو من مرحلة جديدة، وفي اتصال مع العالم والمحيط وأنماط الحياة الجديدة.

وبهذا الطرح فإن الهوية لا تؤدي إلى الانطواء والتقوقع على الذات، وإنما تؤدي إلى تنشيط دائم للذات مع الأخذ بعين الاعتبار التغيرات الحاصلة في المحيط، لأن الإنسان كائن لا يحيى في الماضي والحاضر فقط بل هو كائن مستقبلي. من هنا، وجب الاعتماد سواء في سلوكنا أو في تفكيرنا على ما أسماه أرسطو بضرورة الحذر والانتباه وهو ما يتطلب منا أخذ مفاهيمنا في حدود العقل والنقد، نقد ما نراه وما نفكر فيه ، ومن البدهي أننا لا نتمكن من تحقيق التفكير النقدي ولا العمل به من دون شرط الحرية، وهكذا نجد أن الهوية من هذا المنظور مشروطة بالعقل والنقد والحرية، وهذه هي شروط الحداثة ذاتها، أو بالتحديد شروط العيش في الحداثة وبشكل حداثي.

إن هذه المقدمات النظرية والفلسفية، تسمح لنا بمناقشة مشكلة الهوية والهوية الوطنية على الأقل على صعيدي التصور النظري والتحقيق الخارجي، فعلى الصعيد النظري تطرح مسألة التصور وما يتضمنه من المكونات والخصائص والعلاقات والمكانة والوظائف التي تؤديها، وعلى صعيد البحث والتحقيق التاريخي تطرح جملة من المشكلات التي قد لا نبالغ إن قلنا إنها تلك المسائل التي تواجهها كل كتابة تاريخية من صعوبة تحقيق الموضوعية ومشكلة الانتقاء ومشكلة الأدلة ومشكلة التأويل والتفسير والتوظيف السياسي والايديولوجي، خاصة أن مسألة الهوية يلتقي فيها السياسي والايديولوجي بشكل بارز وواضح، من هنا فإن مقاربة الهوية في وضع تاريخي مثل وضع التاريخ الثقافي الجزائري، أمر غاية في الدقة والصعوبة، ولعل ما يزيد هذه الوضعية تعقيدا هو مقاربتها من خلال خطابات عدت - ولاتزال تعد عند قطاع واسع من الباحثين والمؤرخين والمثقفين عموما - بمنزلة الخطابات الناكرة والمناهضة والنافية للهوية، والهوية الوطنية. وعملا على تجاوز هذه الصعوبات سنعمد إلى جملة من الإجراءات المنهجية والقواعد التوضيحية لدراسة هذه المسألة من جميع وجوهها دونما أحكام مسبقة قدر الإمكان.

الهوية والعنف

لا تنفصل الهوية عن العنف في تجربة تاريخية كالجزائر، فسواء تعلق الأمر بالمرحلة الاستعمارية أو بمرحلة الدولة الوطنية، فإن العنف لا يزال يعبر الهوية، يغذيها وينشئها ويعطي لها صورته. فإزاء المحو الاستعماري العنيف، لكل مقومات المجتمع وإزاء العنف الممارس على «الأهلي»، الذي لم يكن إنسانا ولا حيوانا في الأيديولوجية الاستعمارية، وإزاء إصرار الاستعمار على محو كل ما اعتبره هوية مجتمع، تشبث «الأهلي» بعناد غير مسبوق، بهويته ودافع عنها بالسلاح، وكانت حرب التحرير الوطنية 1954 - 1962، تعبيرا وإعلانا عن ميلاد الهوية الجزائرية.

لكن التحديث العنيف للاستعمار قد استمر مع الدولة الوطنية، وعبر اختبارات سياسية وأيديولوجية خاصة، عملت على تشكيل مجتمع جديد على شاكلتها، ونستطيع القول، ليس من باب التأكيد الإضافي لأطروحة هيجل، بل إقرار لواقع تاريخي، وهو أن الدولة والسلطة قد حاولت المحال، حاولت صناعة مجتمع على شاكلتها ولو كان ذلك بالعنف، وطبقت عليه مختلف أشكال التسيير والتنظيم التي لا يمكن إلا أن نقول إنها اتخذت مظاهر عنيفة، كالإصلاح الزراعي وما تبعه من تهجير للريف وترييف للمدينة، وغياب سياسة تربوية وثقافية مناسبة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية.

وإذا كان هذا الجانب السياسي والاجتماعي لتشكل المجتمع، يحتاج إلى تحليل معطيات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، تتجاوز حدود هذه المقالة، فإن ما نريد الإشارة إليه هو جانب تاريخي يتعلق بتشكل الهوية في الخطاب الثقافي الجزائري، وهو أمر يتطلب على الأقل الإشارة إلى تلك الخطابات الثقافية التي كانت وراء ظهور الهوية الجزائرية. وسنعمل على تحليل عناصر تلك الخطابات وتحولاتها وسلطتها في استبعاد خطابات أخرى واسترجاعه لخطابات كانت مستبعدة، باختصار سندرس تحولات وأزمات خطاب الهوية في ظل الدولة الوطنية؟

الهوية في التاريخ

بتاريخ 27 فبراير 1936 وفي العدد 24 من جريدة «الوفاق الفرنسي - الجزائري» كتب فرحات عباس مقالا بعنوان: «على هامش الوطنية: فرنسا هي أنا» كانت بمنزلة البداية لظهور مجموعة من الخطابات حول الهوية الوطنية، سواء كانت ردا أو رفضا أو تأسيسا، وليس مبالغة منا إذا قلنا إن هذه الافتتاحية كانت بداية لظهور مختلف الخطابات حول الهوية والهوية الوطنية تحديدا، وذلك لما تبعها من مواقف وسجال، لايزال قائما إلى اليوم في الجزائر المستقلة.

وإذا كنا نعطي صفة التأسيس والبداية لتلك الافتتاحية، فإن هذا يتطلب منا وضع إطار عام لظهور هذا الخطاب ثم مختلف الردود حوله، وكيف يجب أن نفهمه نحن اليوم ضمن المسار العام للحركة الوطنية والمسار الخاص بفرحات عباس.

لقد جاء خطاب فرحات عباس في شكل جواب أو بالأحرى رد فعل، وبالتالي فهو خطاب موجه، وحوار غير مباشر بين طرفين، ليس سهلا بالنسبة لنا اليوم حصر جميع عناصره. ولذا سنتوقف عند منطوقه من دون الدخول في مضامينه، ولا في دلالته، لاننا نريد بداية ان نعاين عناصره. ومن منطوق الخطاب نعرف - بشكل واضح - أنه رد على خطاب صدر في جريدة «الزمن»، يتهم النخبة (المفرنسة والمعربة) بتهم معينة، تهم حاول خطاب فرحات عباس الرد عليها، كاشفا أن وراء الخطاب إرادة «الكولون -الاستعمار» وليس فرنسا، التي عبرت من خلال وزير داخليتها في ذلك الوقت، عن ثقتها في المستعمرة وفي ممثليها.

وتفصيلا رد خطاب فرحات عباس، أولا على التهم الموجهة إلى الشيخ الطيب العقبي، وإلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ودافع عن حق جمعية العلماء في تعليم وتدريس اللغة العربية والعلوم الدينية والعصرية، وهو ما كان يجب على فرنسا أن تقوم به، في نظره، إلا أن فرنسا حرمت «الأهلي» من التعليم الفرنسي ومن التعليم العربي على السواء، أي تركته نهبا للجهل والأمية. كما ينفي عن الجمعية صفة الانتساب إلى الوهابية والقومية العربية، مبينا في السياق نفسه أن تعليم العربية والإسلام يسمح بالتفتح والاستنارة والخروج من الدروشة والطريقة، مما يعني ليس فقط اتفاقه حول مطالب الجمعية، بل أكثر من هذا دفاعه عنها.

وإذا كانت جمعية العلماء في المنظور الكولنيالي وهابية وقومية ومتطرفة، فإن النخبة ممثلة بفرحات عباس والدكتور بن جلون متهمة بالوطنية بمعناها المتطرف والمتعصب، وهنا صدر ذلك المنطوق الذي ما فتئ يتردد عند كل الدارسين، حيث قال فرحات عباس: (لو أني اكتشفت «الأمة الجزائرية» لأصبحت وطنيا.. الجزائر بوصفها وطنا خرافة، لم اكتشفها. لقد سألت التاريخ وسألت الموتى والأحياء، لقد زرت المقابر: لم يحدثني أحد عنها..).

لقد تم طيلة مرحلة تفكير الهوية الوطنية، ترديد هذا الحكم أو منطوق الحكم، «الجزائر بوصفها وطنا خرافة»، ولم يتم التساؤل عن منطوقات أخرى واردة في الخطاب ومنها على الخصوص، الوطنية، الأمة الجزائرية، الجزائر - الوطن، الجزائر - التاريخ، إن تفكير هذه المنطوقات، يعد في نظرنا، خطوة لفهم الحكم الصادر وفي الوقت نفسه إمكانا للخروج من الاقتناع والبدهية التي تم ترسيخها بمختلف الوسائل.

ومن دون شك، فإن منطوق خطاب فرحات عباس يصب مباشرة في الخطاب الاستعماري، ويثبت ما حاول ذلك الخطاب الاستعماري خلال قرن أن يثبته، ذلك الخطاب الناكر في مجمله للهوية الوطنية. فهل يعني هذا سقوط فرحات عباس في الخطاب الاستعماري الذي ناضل ضده؟ كيف نفهم ما كتبه قبل 1936 وبعده؟ أن سير الأحداث والتطورات وخاصة ردود فعل أطراف الحركة الوطنية تؤيد الطرح القائل إن فرحات عباس قد سقط في أطروحة الخطاب الاستعماري. ولكن هذه الردود هي كما وصفناها، ردود لأطراف فاعلة وواعية بأهدافها، لذا لا يمكن إلا مساءلتها، أو وضعها بين قوسين، لماذا؟ لأن خطاب فرحات عباس يبين أنه كان على وعي تام بفرضية المستعمر التي تقول إن الجزائر لم تحتل إلا لأنها لم تكن تتمتع بالسيادة، وأنها كانت دوما نهبا للأجنبي، وأن يوم احتلالها كانت في فوضى ومتاهة، وأن هذا الخطاب الاستعماري بالرغم من فرضيته تلك، عمد إلى جملة من الأساليب لمحو الكيان الجزائري، كالتغريب والتهجير والإبعاد والاقصاء والإدماج والتمسيح والتجنيس وغيرها من الأساليب، مما يدل على أن هناك شيئا ما يقاومه هذا الخطاب من دون أن يصرح به، وأن هذه الأساليب ذاتها تركت الجزائري - وبعد أن اغتصبت منه بلاده وأُبعد قسرا عن المدنية - يفكر بقوة في هويته وفي بناء مقومات حياته على أسس جديدة.

مكونات الشخصية الوطنية

من هنا نستطيع القول إن «الوعي القومي واللغة والدين لم تتبلور كمكونات للشخصية الوطنية، إلا داخل حلبة الصراع ضد فرنسا المحتلة». وأن الاستعمار بخطابه وممارساته ووجوده كان عاملا أساسيا في ظهور الهوية الوطنية في ثلاثينيات هذا القرن، وهو ما عبرت عنه مختلف تيارات الحركة الوطنية بمناسبة احتفال الاستعمار بمرور مائة سنة على احتلاله للجزائر وذلك في سنة 1930، ولعل هذا يعد وجها من وجوه المفارقات في التاريخ، لذا نجد أن مختلف الأطراف بالرغم من اختلافاتها السياسية والأيديولوجية، فإنها طرحت مسألة الهوية، وكان أول خطاب طرح هذه المسألة بحدة وعنف وبسلبية هو خطاب فرحات عباس.

ثم تتالت وتعاقبت، بعد ذلك، الردود المختلفة على النحو التالي: كتب عبدالحميد بن باديس في أبريل 1936، أي بعد شهرين من صدور مقال فرحات عباس، ردا مباشرا، هو أول رد مقارنة بردود أطراف الحركة الوطنية الأخرى، وذلك في جريدة «الشهاب» مقالا بعنوان «كلمة سحرية» يعد ردا مباشرا على فرحات عباس. حيث قال: «لا يا سادتي (...) إننا فتشنا في صحف التاريخ وفتشنا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة متكونة موجودة، كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا، ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال ولها وحدتها الدينية واللغوية، ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها، بما فيها من حسن وقبيح، شأن كل أمة في الدنيا». يعني هذا أن للجزائر هوية قائمة ومتكونة من اللغة والدين والتاريخ والتقاليد، ولذا فإن «هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عاداتها وفي دينها، ولا تريد أن تندمج ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة، والذي يشرف على إدارته العليا السيد الوالي العام المعين من قبل الدولة الفرنسية».

يتضح من هذا أن الكيان الجزائري، قائم بذاته وله هوية متميزة عن الهوية الفرنسية، وذلك في إطار الاستراتيجية الأساسية لابن باديس وجمعية العلماء، القائمة على التمييز بين الجنسية السياسية والجنسية القومية، الأولى خاصة بالحقوق المدنية في إطار الاتحاد مع فرنسا، أما الثانية فتتصل بالمميزات والمقومات الشخصية من لغة وعقيدة وتاريخ.

ولكن ما معنى هذه الهوية التي تبدأ من تاريخ معين، هو التاريخ الإسلامي دون مراحل تاريخية أخرى؟ وما معنى تركيزها على عناصر معينة، كاللغة العربية والإسلام دون عناصر أخرى كالأمازيغية مثلا لقد تبع تصور العلماء وابن باديس، تصور مصالي الحاج وحزب الشعب الجزائري، الذي لم يجعل من موضوع الهوية مسألة مركزية في اهتماماته السياسية والايديولوجية، لأنه لم يكن يرى في الهوية مشكلة واقعية بل مشكلة نظرية فكرية تخص النخب، ولأنه كان ينطلق من اقتناع أساسي ألا وهو أن الجزائر أمة قائمة بذاتها، لها من الخصائص التي نجدها في الأمم المغايرة لها، ومع ذلك فإن هذا الحزب، سيعرف نقاشا وصراعا نظريا وسياسيا، وصل إلى حد الانشقاق، وذلك عندما واجه المسألة البربرية أو الأمازيغية التي نادت بالجزائر الجزائرية في مقابل الجزائر العربية سنة 1949.

لم يكن الحزب مدرسة فكرية بقدر ما كان وسيلة نضالية للكفاح، لذا عمد إلى حل المشكلة بطرق حزبية سياسية، واتخذ مواقف سياسية ضد كل من يخالف توجهه العروبي وذلك من خلال الاقصاء والإبعاد والاستهجان، وأصبحت مواقف بعض القياديين، مواقف متطرفة من كل من يخالف الفكرة القائلة إن الجزائر أمة عربية قائمة بذاتها، وهي مواقف مازالت حاضرة في جزائر الاستقلال ومازال لها تأثيرها، وخاصة بعد اعتناق التيار الوطني للأفكار الإصلاحية، ولتصور الهوية القائم على الثالوث، الذي رسمه بن باديس «الجزائر وطننا والعربية لغتنا والإسلام ديننا»، بحيث أصبح هذا التصور اقتناعا يرقى إلى البدهية عند قطاع واسع من المجتمع الجزائري.

في العنف

والحق، فإن عجز السلطة عن إيجاد حلول مناسبة، ليس فقط لمشكلة الهوية كجزء من المشكلة الثقافية، بل عجزها عن إيجاد حلول لعديد من المشكلات السياسية والاقتصادية، كان السبب الأساسي في ظهور العنف المادي والرمزي بشكل مباغت، وبطريقة تجاوزت كل معقولية ممكنة. ومع أن مسألة العنف أكبر من أن تتصل بالهوية فقط، ما دامت هنالك أشكال اجتماعية واقتصادية ونفسية وسياسية للعنف، لذا من الضروري استبعاد الأطروحات الانثربولوجية وبخاصة الكولونيالية والعنصرية التي ترى أن العنف ملازم للمجتمعات البدائية.

ويكفي في تقديرنا أن نؤكد، في هذا السياق، أن للعنف دورا في التاريخ البشري وأن العنف ارتبط بالثقافة الجزائرية، وانه قد تم امتداحه في الخطاب الوطني وخاصة بعد نجاح حرب التحرير الوطنية، وأن السلطة الوطنية قد تأسست على العنف وعملت على التغيير العنيف من خلال شعار ثوراتها الثلاث الزراعية والصناعية والثقافية. على أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: إذا كان الاستعمار في الماضي هو المسوغ المباشر لأشكال اعنف، فكيف نفهم العنف المباغت والمفاجئ الذي ظهر في الجزائر المستقلة؟

لعله من المهم أن نشير إلى أن هنالك ما يمكن تسميته بأصناف العنف، وفقا لتحليلات العلوم الإنسانية، من هنا يمكن الحديث عن عنف اجتماعي يشكك في القيم المعيارية وفي مؤسسات التنشئة، وعنف سياسي تعبر عنه أشكال الصراعات من أجل السلطة، وعنف رمزي يجد قاعدته في الهوية ورموزها.

وفي حالة الجزائر فلقد تم ربط الهوية الجزائرية وخاصة في صورة الثوابت بالمقدس والرمزي اللغوي والديني، وتم استبعاد كل إمكان لفتح الهوية على الآخر والمختلف والمغاير، وتم رفض كل سبيل يهدف إلى الاعتراف بالآخر وقيمه المختلفة، مما أدى إلى سلسلة من أشكال العنف المضاد الذي ظهر في بداية الثمانينيات ولا يزال مستمرا. كما يمكن الحديث، وفق منطق العلوم الإنسانية، عن عنف مطلق تجسد في ما قامت به الجماعات الإسلامية المسلحة، عندما نزعت إلى تجريد الإنسان من إنسانيته، بحيث أصبح العنف خارج كل منطق وعقل، وسنحتاج بلا شك، إلى كثير من الجهد لفهم هذه الحالة.

وفي سياق موضوعنا، يمكن أن نشير إلى الأنواع الكبرى المشكلة للهوية الجزائرية في علاقتها بالعنف، فهنالك الهوية المرتبطة بحرب التحرير، والهوية المرتبطة بالحق في الاعتراف بالاختلاف كالمسألة البربرية، والهوية المرتبطة بالحق في التعبير والمعارضة، التي تحولت إلى الحق في القتل، كما ظهر في خطاب الحركات الإسلامية المسلحة.

وإذا كان الصراع على الهوية، يعتبر شكلا من أشكال الصراع على السلطة، فإن السلطة عملت دائما على تثبيت هوية قاهرة ومهيمنة، من دون مراعاة للاختلاف والتنوع، ومن غير نزوع نحو الاعتراف بالآخر. ومع مجيء الهوية المطلقة والشمولية للحركات الإسلامية، طرحت على المجتمع الجزائري مختلف المشكلات العالقة والمؤجلة، وأدخلت المجتمع الجزائري في حالة من الحرب الأهلية غير المعلنة.

نحو دولة القانون والمؤسسات

مما لا شك فيه، أن العنف والحرب والفوضى كلها تؤدي إلى طرح مسألة القانون وحضور الدولة وضرورة نشر السلم وحفظ الأمن والعيش المشترك. لذا هنالك من يقترح قراءة ما يحدث في الجزائر على ضوء القانون، خاصة أن الجزائر تعيش منذ الاستقلال أزمة الشرعية، وهو السؤال الكبير الذي يتضمن مختلف الأسئلة المتعلقة بالأزمة المتعددة الجوانب التي تعرفها الجزائر. وإذا كان الخطاب الرسمي للسلطة الجزائرية، قد أسس شرعيته حتى نهاية ثمانينيات القرن العشرين على الشرعية الثورية، فإن الأزمة العنيفة التي تعرفها الجزائر منذ بداية التسعينيات فتح مجال الصراع على السلطة وعلى كل أشكال العنف. فإذا كانت شرعية السلطة مطروحة منذ الاستقلال، فإن الهوية كانت موضوع صراع سياسي منذ الأربعينيات، واتخذت شكلا عنيفا منذ أحداث تيزي وزو 1980، ومنذ هذا التاريخ أصبحت مسألة العنف والهوية مطروحة في الجزائر.

ومن هنا، نرى أن المدخل المناسب لمعالجة هذه القضية هو مدخل عقلي نقدي، يطرح الهوية في بعدها التاريخي المتنوع، ويؤسس لقيم الاعتراف بالآخر وينمي ثقافة العيش المشترك، ويبحث في أسباب «الاستقلال المصادر» وفي جوانب «التحرير الناقص»، ولا يمكن أن يتم ذلك كله، إلا في ظل سياق ثقافي وسياسي قائم على الحرية والديموقراطية، ومدعوم من قبل دولة القانون والمؤسسات.

 

 

الزواوي بغورة