السلطة في مواجهة الحرية

السلطة في مواجهة الحرية

يوشك تاريخ الإنسانية كله أن يكون صراعاً بين السلطة من ناحية، والحرية الإنسانية من ناحية أخرى.

ويحسن بنا لكى نعرف ماهية ذلك الصراع وغايته، أن نعرف ماذا نقصد بالسلطة؟ وماذا نقصد بالحرية؟ الإنسان الفرد أو «روبنسون كروزو» مجرد فرض خيالى لم يتحقق، والإنسان الذى نعرفه وجد وعاش مع آخرين فى مجتمع، أياً كانت درجة ذلك المجتمع من التنظيم.

والمجتمع يكون منظماً عندما يوجد فيه قدر من السلطة. والمجتمع غير المنظم أو المجتمع العشوائى هو مجتمع لا تمسكه سلطة. وتقول الدراسات الانثروبولوجية إن المجتمع العشوائى أو المجتمع غير المنظم هو الأسبق فى الحياة البشرية ولكن هذه الصورة لم تستمر طويلاً لأنها كانت صورة لا تحقق أى قدر من الأمان لأولئك الذين يعيشون مع بعضهم فى هذا المجتمع العشوائى.

وظهر فى هذا المجتمع من حاول أن يقنع غيره من الناس أو من الأفراد الآخرين أنه قادر على أن يحقق لهم قدراً من الأمان مقابل أن يحصل على قدر من طاعتهم.

وكان هؤلاء الآخرون فى حاجة إلى الشعور بالأمان وقدموا طاعتهم مقابل ذلك.

وهنا بدأت البذور الأولى للسلطة تظهر فى المجتمع الإنسانى. ويبدو أن البذور الأولى للسلطة ارتبطت بالسحر وبالكهانة0 وحاول بعض الناس إقناع الآخرين بأنهم أعرف بأسرار الكون وأنهم على صلة بالعالم الأعلى أياً كانت صورة هذه الصلة وأنهم يقدرون على إنزال المطر فى سنوات القحط ويقدرون على إنقاذ الناس من الفيضانات المدمرة وما إلى ذلك من خوارق وقد يصادف أن يلجأ أحدهم إلى السماء ويحدث ما تمناه ويظن الناس أنه قادر على تحقيق المعجزات فى زمن كان الحديث فيه عن المعجزات أمراً شائعاً.

وهكذا بدأت بذور السلطة فى المجتمعات الإنسانية المنظمة وبطبيعة الحال كانت البدايات الأولى بدائية تتفق مع بدائية المجتمع.

وكانت السلطة فى تلك الفترة البدائية تقبع عادة فى يد السحرة أو الكهنة.

وخطت المجتمعات البشرية بعد ذلك خطوة أخرى إذ اتجهت إلى أن تودع السلطة فى يد شيوخ القبيلة أو شيخ القبيلة.

ويرى كثير من الباحثين أن انتقال السلطة من يد السحرة والكهنة إلى يد شيوخ القبائل يمثل خطوة كبيرة فى تطور المجتمع الإنسانى، ذلك أنه نقل السلطة من السماء إلى الأرض على نحو من الإنحاء.

وبدأت القواعد القانونية فى الظهور فى صورة أعراف قبليه. وكان لهذه الأعراف احترام كبير من لدن أفراد القبائل وشيوخها.

وبدأ نوع آخر من العرف يسود بين القبائل وبعضها وكان مضمون هذه الأعراف يدور حول حماية أرض القبيلة وغرسها وأفرادها. ويحرم عدوان قبيلة على أملاك وأفراد القبائل الأخرى.

وفى خطوة أخرى حاسمة فى التطور البشرى عندما استقرت مجموعات من القبائل بالقرب من مجارى الأنهار واختارت تلك القبائل حاكماً لها عندئذ بدأ ظهور ما يمكن أن نطلق عليه اسم «دولة»، وأغلب الظن أن ذلك حدث أولاً على ضفاف وادى النيل وبعد ذلك على ضفاف بعض الأنهار الصينية ثم على أرض بابل، حيث كان يجرى دجلة والفرات.

والبحث عن كيفية نشأة الدولة أمر محل خلاف نظرى كبير ولكن أرجح الأقوال أن مجموعات من القبائل تراضت أو اضطرت لأن تعيش على بقعة واحدة تحت ظل سلطة موحدة وهكذا نشأت الدولة وأغلب الظن أن ذلك قد حدث منذ حوالى ثمانية آلاف عام أو قبل ذلك.

وأن ذلك قد حدث من أجل هدف أساسى هو تحقيق نوع من «الأمان «لأفراد المجتمع نتيجة وجود سلطة تفرض نوعاً من القواعد وهكذا بدأت المجتمعات الإنسانية المنظمة تعرف ظاهرة الحاكمين والمحكومين وتعرف أيضاً قاعدة القانون أياً كان مصدر هذه القاعدة.

وقد مرت ظاهرة السلطة فى الدول القديمة بعدة تطورات.

بعد أن استقرت الدولة واستقرت سلطتها نزعت إلى أن تعتبر هذه السلطة هى هبة من الله وبذلك اعتبر الحاكم نفسه فى البداية حاكماً باسم الله على الأرض، بل إن بعضهم كما حدث فى مصر الفرعونية اعتبر نفسه إلها. ثم تواضع الحكام بعد ذلك خطوة، حيث اعتبر الحاكم نفسه «ابن الله»

وأياً كان الأمر، أى سواء كان الحاكم إلهًا أو ابناً للإله فإنه كان مطلق السلطة، ذلك لأن الآلهة لا يسألون ويمارسون السلطة على نحو مطلق.

وعندما تكون السلطة مطلقة من كل قيد - إلا ماتقيد نفسها به - فإن مساحة الحرية تضيق إلى حد بعيد. وظل الأمر هكذا فى الإمبراطوريات القديمة.

وانتقلت البشرية نقلة واسعة فى ظل الفلسفة اليونانية حيث ظهرت المدينة الدولة وحيث كانت المدينة الدولة تتشكل من أبناء المدينة الأحرار وهؤلاء لهم كل الحقوق ومن الأرقاء والنساء والأجانب ولم يكن لهؤلاء من الحقوق إلا أدناها.

ولكن مع ذلك يمكن أن نقول إن هذه الفترة شهدت ماعرف باسم الديموقراطية الأثينية رغم كل ما كان يكتنف هذه الديموقراطية من قصور ومثالب.

وجاءت الإمبراطورية الرومانية حيث نضجت القاعدة القانونية، وحيث عرف التراث العالمى قاعدة قدسية العهود Pacta sunt Servanda التى مازالت تتردد حتى يومنا هذا فى كل المدونات القانونية والتى بدأت فى مدونة الامبراطور الرومانى جوستنيان.

وفى عهد الامبراطورية الرومانية وفى بيت لحم فى فلسطين ولد السيد المسيح عليه السلام ودخلت البشرية طوراً آخر جديداً.

حاولت المسيحية أن تبشر بالتسامح وبالحب وبالأخوة الإنسانية ورفضت الإمبراطورية الرومانية أن ترى فى داخلها قوة روحية جديدة بازغة فشنت على الدين الجديد حرباً شعواء واستشهد كثير من المسيحيين الأوائل إلى أن شاءت إرادة الله أن يؤمن أحد الأباطرة بالمسيحية وأن يجر الإمبراطورية كلها وراءه.

وحدث نوع من التحالف بين السلطة الدينية ممثلة فى الكنيسة والسلطة الدنيوية ممثلة فى الإمبراطور، وانطلقت العبارة الشهيرة التى كانت تقول «دع مالقيصر لقيصر وما لله لله».

وهكذا تصالح الدين الجديد مع الإمبراطورية العريقة . ولكن ذلك كله لم يؤد إلى تقييد السلطة أو توسيع مساحة الحرية إلا فى إطار ضيق جداً.

كان الوازع الدينى لدى بعض الحكام ينهاهم عن الظلم ويحذرهم من مغبته ولكن ذلك كان يتمثل عادة فى حالات فردية ولم يأخذ شكل القاعدة العامة.

وبعد ستة قرون من ظهور المسيحية ظهر الإسلام فى الجزيرة العربية.

وكان ظهور الإسلام خطوة أخرى جبارة فى تطور الإنسانية.

وفى صدر الإسلام ظهرت قيم رائعة وقال عمر بن الخطاب قولته الخالدة «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».

ولكن الخلافة الراشدة انتهت، وجاء حكم بنى أمية وجاء معه الملك العضوض والسلطة المطلقة واستمر ذلك فى الشرق وفى الغرب جميعاً.

سلطة مطلقة وحرية مقيدة

وجاءت تباشير عصر النهضة وظهر عدد من المفكرين العظام ينادون بالحرية وبضرورة تقييد السلطة، ولكن العامل الحاسم فى الانتقال من السلطة المطلقة إلى السلطة المسئولة أو المقيدة ومن ثم الانتقال إلى توسيع مساحة الحرية باضطراد كان العامل الحاسم لهذا التطور يتمثل فى محاور ثلاثة:

التطور البطىء فى المملكة المتحدة ثورة الاستقلال فى أمريكا الثورة الفرنسية الكبرى.

أما المملكة المتحدة فمنذ العهد الأعظم magna carta فى القرن الثالث عشر الميلادى - 1215 م - والخط البيانى يسير بخطوات بطيئة ولكن ثابتة نحو نقل جزء من السلطة، يليه جزء آخر وهكذا من الملوك إلى ممثلى الشعب فى البرلمان.

وفى القرن السابع عشر كانت ملامح النظام البرلمانى قد اتضحت وكان الملوك قد فقدوا الكثير من سلطتهم لمصلحة المجالس المنتخبة ولمصلحة اتساع مساحة حرية المواطنين ولكن بقى جزء ولو يسير من السلطة فى يد الملوك.

وعندما بدأ القرن العشرون أصبحت الملكية فى، انجلترا مجرد رمز، وأصبح مجلس اللوردات مكاناً لتكريم بعض الشخصيات, ليس عن طريق الوراثة وحدها, وإنما بإعطاء لقب لورد لبعض المفكرين وكبار الأساتذة والفنانين.

والآن يقال إن الملك لا يخطىء The king can do no wrong ذلك لأن الملك لايستطيع أن يفعل شيئاً قط The king can do nothing .

وهكذا سار التطور فى إنجلترا بطيئاً ثابتاً تضيق فيه مساحة السلطة رويداً رويداً وتتسع فيه مساحة الحرية قليلاً قليلاً حتى أصبحت إنجلترا تعيش فى نظام سياسى يعلى قدر الحرية ويلجم السلطة ويفرض عليها رقابة صارمة من ممثلى الشعب.

أما المسار الثانى فقد تحقق بطريق مختلف، ذلك أن المستعمرات البريطانية فى أمريكا الشمالية خاضت حرب تحرير ضد الإمبراطورية وانتصرت عليها ، ومن ثم أقامت هذه المستعمرات اتحاداً فيدرالياً تبنى دستوراً رئاسياً يوازن بين السلطات الثلاث، بحيث لا تستطيع سلطة أن تطغى على الأخرى. أقام الدستور نظام الرقابة والتوازن - cheque and balance . واتسع نطاق الحرية إلى أبعد الحدود واختفت كل مظاهر السلطة المطلقة.

وبالرغم مما يحدث أحياناً من انتكاسات نشاهد الآن أحد أبشع صورها فإن النظام قادر فى نهاية المطاف على تصحيح مساره.

وأما المسار الثالث والحاسم فى الوقت نفسه فقد تمثل فى الثورة الفرنسية الكبرى والتى تمثل علامة فارقة فى تاريخ الإنسانية.

كان الأباطرة والملوك قبل الثورة الفرنسية يتمتعون بسلطات مطلقة بغير حدود، وكان الناس العاديون أشبه برقيق الأرض. كانت سلطة الملوك مطلقة إلى المدى الذى قال معه لويس الرابع عشر «أنا الدولة» L. etut c.est moi وكان فى عبارته هذه يعبر عن حقيقة قانونية.

كانت إرادة الملك هى إرادة الدولة، وكان مالها هو ماله وكان هو القاضى والسجان وجابى الضرائب. كان هو كل شىء. وكان الناس جميعاً عبيد إحساناته كما كان يقول العثمانيون.

ثم قامت الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789.

وتداعى النظام القديم حتى أصبح ركاماً. وجاءت السلطة المسئولة واختفت السلطة المطلقة واتسعت مساحة الحرية حتى لتصل أحياناً إلى حدود اللامعقول.

حدث ذلك فى الغرب, ولكن ماذا حدث فى منطقتنا؟

كان الملك أو الخليفة عندما كانت الدولة قوية صاحب السلطة لا ينازعه فيها أحد.

وكان يفترض أن مبادىء الشريعة تقيد الحكام.

ولكن ذلك كان فرضاً نظرياً فى الأغلب الأعم.

وفى الوقت الذى كان عهد النهضة يدق فيه ابواب أوربا كان الحكم العثمانى الاستبدادى والمتخلف يسيطر على كل المناطق العربية باستثناء بعض الجيوب.

وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى وانتهت معها الإمبراطورية العثمانية ووزعت تركة الرجل المريض بين إنجلترا وفرنسا وإيطاليا كان كل له من التركة نصيب وحل الاستعمار الغربى محل الاستبداد العثمانى ولكن بقدر من الخبث وغطاء شفاف من شكل القانون.

وظهرت فى أرجاء متفرقة من الوطن العربى لمعات ضوء سرعان ما كانت تخبو أو تقمع. ونجح الاستعمار الغربى فى كثير من المواقع فى أن ينشىء أنظمة حكم موالية له ومرتبطة به.

وتعد ثورة 1919 فى مصر هى أكبر تحرك شعبى أدى إلى ما يشبه النظام الديموقراطى فى دستور 1923 الذى أدى إلى وجود سلطة مقيدة ومساحة للحرية غير قليلة.

وحدث شىء قريب من ذلك فى العراق.

وفى الشام سورية ولبنان وفلسطين قامت حركة فكرية قوية كانت تحمل بعض الملامح الديموقراطية إلى جوار التوجه القومى.

ثم أبتليت كثير من أجزاء الوطن العربى بالانقلابات العسكرية.

وحتى لو كان لبعض هذه الانقلابات توجهات حسنة فإن وسائلها إلى ذلك كانت وسائل قمعية. واختفت التوجهات الحسنة وبقيت الوسائل القمعية.

ويوشك الوطن العربى كله أن تكون لديه برلمانات أشبه بالديكور عدا جيب واحد فى الجزيرة العربية وجد فيه بحكم الظروف الاقتصادية والسياسية برلمان قوى. وحتى هذا البرلمان كان ينسى نفسه أحياناً وينسى مايحيط به من ظروف موضوعية ويدفع الأمور إلى صدام أحياناً لا مبرر له.

وبالرغم من كل ما حدث فى العالم كله شرقه وغربه من تقييد للسلطة واتساع لمجالات الحرية، فإن الأرض العربية فى جملتها مازالت تعيش تحت أنظمة تعتمد على قهر شعوبها أكثر من اعتمادها على رضا هذه الشعوب.

وأظن أن علامات كثيرة تقول إن هذه الأوضاع المخالفة لمجرى التاريخ وحركته لن تستمر طويلاً.

إن حركة التاريخ تقول إن الشعوب لابد أن تنتصر وأن الصراع بين السلطة والحرية لابد أن ينتهى إلى نهايته الطبيعية: انتصار الحرية وتقييد السلطة.

وقل عسى أن يكون ذلك قريباً.

------------------------------------

تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ
كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ
على ديار من الإسلام خاليةٍ
قد أقفرت ولها بالكفرِ عُمرانُ
حيث المساجدُ قد صارت كنائسَ ما
فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ
حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ
حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ
إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ
وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ
أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ؟

أبوالبقاء الرندي

 


يحيى الجمل