سيمياء التجريد واستلهام التراث أشرف أبو اليزيد

سيمياء التجريد واستلهام التراث

الفنان التشكيلي سامي محمد

في مساهمة نقدية تتناول منجز الفنان التشكيلي والنحات الكويتي سامي محمد, تقدم د. زهرة أحمد حسين كتابها (سامي محمد وسيمياء التجريد: الموروث الشعبي الكويتي ملهمًا), وذلك ضمن مشروع تتناول فيه مسألة التناص, ومثاقفات العلامات بين النحت والأدب. الكتاب الذي صدر عن مركز البحوث والدراسات الكويتية نال جائزة الدولة التشجيعية في مجال الدراسات النقدية للفنون التشكيلية عام 2004, المقدمة من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت.

اختارت المؤلفة ضمن نهج مقارن وصياغة أكاديمية تأخذ بيدي القارئ عبر مجرات من المصطلحات السيميائية (من السيمياء; علم العلامات), بحيث تجعل من هذه القراءة النقدية دراسة تخصصية, لا تتناول سيرة ذاتية, أو مسحا وصفيا, وإنما تنصب على المنجز الفنّي لسامي محمد المسمى (مشروع السدو), وتقاربه كأنموذج يمثل دراسة حالة, وهو مشروع يتضمن حتى الآن أكثر من مائتي عمل فني بين الرسم والنحت. والسَّدْو هو الفن البدوي في نسج الصوف, وهو مما تشتهر به بلدان الخليج العربية. ويستخدم السَّدْو في نواح وظيفية وجمالية في آن واحد, فهو البساط الذي يمد, وهو الوسادة التي يتكأعليها, وهو ما يغطي الجدران, والأرائك, وهو ما يستخدم كأغطية على الإبل, وهو الرداء الذي لا يقي البرد سواه.

حاولت د.زهرة أحمد حسين أن تحلل جماليًا وسوسيوثقافيًا (الربط بين الثقافة المحلية وعلم الاجتماع) معاني التجريد لدى سامي محمد, وأن تفسر الدلالات المتعددة وراء ارتباط تجريده ارتباطًا حثيثًا مع عنصرين لا يلتقيان عادة في الفن التشكيلي الخليجيّ, وهما الفنون البدوية ونزعة الحداثة.

وقد ألهم هذا الفن البدوي فناننا سامي محمد منذ مطلع عام 1980 ميلادية بخطاب حضري يوتوبي, وبدأت محاولاته في زرع التيار التجريدي في الفن والحساسية المعاصرة التي تستنطقها في تربة جمالية وقوالب فنية تنبع من الموروث المحلي, مما جعله يبتدع قراءات جديدة ـ أو لنقل يعيد قراءة هذا الفن ـ وهي القراءات التي لاتزال تتوالى واحدة تلو الأخرى, لفن شعبي مرتبط بكل ما هو أنثوي, حتى أصبح السدو النافذة التي يُظهر سامي محمد من خلالها افتتانه بالحركة الحرة, والحراك, والفضاء المفتوح, والانطلاق الذي لا يعرف الكبح أو الإحجام.

في سبيل ذلك وعبر قسمين في الكتاب الأول للدراسة والثاني للأعمال التي تعد تطبيقا لها, كنا أمام مسعى لإلقاء ضوء كاشف على الرؤية الجمالية الرحيبة لسامي محمد, وتحليل الخطاب البصري, تحليلا سياقيًا, لأكثر من عشرين عملاً فنياً مختارًا من الأعمال التي تشكل (مشروع السدو) الجمالي لدى سامي محمد.

وتذهب أطروحة الدراسة إلى أن مشروع سامي محمد الجمالي الذي استلهم السدو يجسد, في جوهره, تصورًا مجازيًا متعدد الأبعاد لمدينة فاضلة (يوتوبيا) من الجماليات, وأن هذه اليوتوبيا في تعريف الفنان تعني تحرر الذات الإنسانية من الكمون في سجن القيود التي تباركها قوانين الثقافة التقليدية المنكبة على الماضي وحسب.

تجربتي مع الموروث

في كلمة الفنان وهو يقدم ذلك المعرض المصور, وتحت عنوان (تجربتي مع الموروث الشعبي), يقول سامي محمد: (بعد بحثي الدءوب في جوانب الفن وتطلعي العميق في معطياته, أنجزت أعمالا كثيرة ومتنوعة, دارت جميعها حول خط ولون ولقد أسميتها (المنحنيات), ومنها اتجهت إلى الموروث الشعبي مستوحيًا من نقوشه المثلثات, ثم ربطت المثلثات بالمنحنيات حيث إن خطوط المنحنيات إذا تقاطعت مع بعضها بعضًا شكلت مثلثات ومربعات. وبما أن الموروث الشعبي (فن السدو) يعتمد كليًا على شكل مثلثات متساوية الأضلاع في تشكيلاته الفنية فقد قمت بمزاوجة تجربتي السابقة (المنحنيات) بعضها بعضًا من نقوش (فن السدو) ووضعها في قالب فني جديد, وأطلقت عليه اسم (مثلثات السدو)).

يبلغ عدد الأعمال التي تشكل (مشروع السدو) حتى الآن أكثر من مائتي عمل, وتسود ـ إجمالاً ـ في هذه الأعمال المسطحات اللونية ويبزّ حضورها حضور الأشكال التشبيهية. كما تبدو معظم هذه اللوحات تكوينات على درجة عالية من البناء الفنّي والنسق البنيوي الذي يهندس العلاقات بين العناصر البصرية بحرص وأناة. لكنها على الرغم من هذه الخاصية تتجلى للمتلقي كتكوينات مشوبة بالعاطفة وحافلة بالتجريب الذي يتمحور حول مفاوضات لعوب مع مسطحات أحادية البعد, وأشكال استخدم الفنان عادة في رسمها درجة لونية واحدة تنساب على, أو ترتحل في خلفيات لوحات من القماش كبيرة المساحة, إذ يصل مقاسها عادة إلى مربعات ضلعها 120 سنتيمترا, وأحيانًا, تكون أكبر من ذلك.

تقول المؤلفة: (من المرتكزات الأساسية لرؤية سامي محمد في (مشروع السدو) تضمينه الأعمال الفنية مقولات خطابين: خطاب نسوي كان قد بدأ الظهور خلال حقبة الستينيات من القرن العشرين, وتزايد زخمه خلال السبعينيات, وخطاب سياسي وطني تمحور حول بناء الدولة الحديثة, وكان قد بدأ في الخمسينيات, ومن نواح عديدة, فإن (مشروع السدو) تجسيد وتعبير جديد لموقف سامي محمد المبدئي والأساسي إزاء التعاطف مع المرأة وتأييدها).

مع الناسجات

وضمن تفسيرها لهذا المنحى النسوي, الذي يعضد المرأة, تشير المؤلفة إلى مشروع بيت السَّدْو. فعلى الرغم من أن الهدف المبدئي وراء إنشاء محترف بيت السَّدْو كان هدفًا عمليًا, فإنه, كجمعية نفع عام, تم تكريسه لخدمة ومساعدة الناسجات البدويات, ومنذ العام 1991 ميلادية أصبح المحترف جمعية تعاونية حرفية, وقد أنشأتها مجموعة من النساء الحضريات الناشطات في مجال قضايا وحقوق المرأة, نقلت موهبة الناسجات من المجال المنزلي (الخاص) الشخصي, وحولته إلى الفضاء العام. من هنا, واجه بيت السدو المقولة التي تذهب إلى أن الموهبة النسوية ينبغي أن تظل فضيلة شخصية خاصة غير معلن عنها. تعاون سامي محمد مع الناسجات خلال عام 1988 - 1989 ميلادية, وتوج تعاونه بابتداعه تصاميم للسجاد قامت الناسجات بتنفيذها. وأقيم معرض لهذه السجاجيد في السادس عشر من مايوعام 1989 ميلادية, ولاقى المعرض نجاحًا كبيرًا.

تحتوي بعض أعمال مجموعة الفنان سامي محمد لوحات لنساء بدويات يلبسن البرقع التقليدي, ويمكن أن نتخذ من لوحتي (نظرة من الصحراء), و(صانعة السدو), نموذجين. ومع أن المتلقي لا يشاهد النساء وهن في مواقف أو أوضاع تدل على انكبابهن على نشاط أو عمل ما, تبدو هؤلاء النسوة كذلك مكتفيات بالفضاء الممنوح والمخصص لهن. وتعج هذه اللوحات بأفكار تبين كيف أن الحضور في فضاء ما, ثابت وعادي, لا يخاصم ولا يتناقض مع شعور الذات بفردوسية الحياة وجمالها. تقول د.زهرة حسين: (لا تنبري هذه اللوحات للغة المألوفة, ولا تزعزع القيم الثقافية القارة (الثابتة) للمدلولات التي تومئ نحوها وتحيلنا إليها, (حيث) يعالج سامي محمد في هذه اللوحات الفضاء على أنه مجرد مسألة فنية تتعلق بالشكل وبالأسلوب الجمالي, وتتبدى العلاقة بين الفضاء واليوتوبيا علاقة مبسطة وأحادية الخطاب مونولوجية, كما أن هذه العلاقة تتبع معادلة تخلو من التعقيد وتقوم على مقاربة اليوتوبيا كحيز للسكون العذب الذي لا يتعكر صفوه).

في عام 1984 ميلادية, وهو العام الذي تظهر فيه المرحلة الثانية من مقاربة الفنان لموضوع الفضاء, تحوّل سامي محمد من الرسم إلى النحت مستخدمًا الجبس الأبيض كوسيط, وفي عام 1987 ميلادية استخدم خشب الساج, والخشب المدهون, ثم اتخذ البرونز وسيطًا في عام 1989 ميلادية, وتختفي تمامًا في هذه الأعمال النحتية صور الشخوص البشرية, كما تختفي منها الأشياء التي ترتبط بأجواء الحياة اليومية, مثل دلة القهوة, والسجاجيد, والمنسوجات السدوية الأخرى. وتتمحور هذه الأعمال حول التجريب مع موتيفات هندسية سدوية, وبخاصة المثلثات, والخطوط أو الشرائط العمودية الملونة, والخطوط المتعامدة مع الزوايا, وتتابع واحدة تلو الأخرى, وتظهر هذه الموتيفات الهندسية السدوية, إما كحفر غائر أو كنحت قليل البروز على سطوح مستوية لكتل هندسية.

تظهر الأعمال الفنية التي أنجزت عام 2001 ميلادية, التي سماها الفنان سامي محمد (ثمانية السدو), موتيفات خشبية ثعبانية مغامرة, وتعمق لمسات الفرشاة المتوازية في فضاء لوحة (مثلثات السدو), إدراكنا للشكل الثعباني النابض الذي يمضي متماوجًا متعرجًا في دربه صعودا, تحيط به خضرة جنة فردوس خصبة. تقول المؤلفة (عند إلقاء نظرة شمولية على مجمل الأعمال التي تشكل (مشروع السدو), تتبدى بجلاء اللوحات التي تجاهر بالأشكال الثعبانية الأخشابية أعمالاً ثنائية المحور. فهذه الأشكال الثعبانية تدل على سعي محموم لمحو المحظورات المكانية, كما أنها تمسرح, بقدر كبير من الحبور والشهاوة (السرور والرغبة) تشكيل الذات وحضورها في مواضع جديدة وحيزات بكر. ومن خلال الأمامية التي يضفيها الفنان عليها, ومن خلال انتشارها على سطوح اللوحات, يمركز سامي محمد, بطرافة, مشاكسة الهامش, ويهمش المركز مقوضًا بهذا سياسات تحصيص الفضاء وتوزيعه. فكما بيّن تعريفنا السابق, فالأخشاب في حرفة السدو درزة تتعلق بخياطة هوامش المنتج المنسوج, وهي لا تظهر إلا في الحواشي, على عكس الأنساق الزخرفية الكبرى, كـ(الشجرة) و(جناح الحنبلية), و(المذخر) التي تحتل ـ عادة ـ مركز العمل المنسوج.والغاية التي تتراءى مرة بعد مرة وراء كل تجريد من تجريدات (مشروع السدو) هي توسيع الرقعة الكلية لفعالية نشاط الإنسان عن طريق منحها حيزات وحقول جديدة ومختلفة). وتستخلص الكاتبة كيف تحكي موتيفة الأخشاب وموتيفة المثلث روايتين مختلفتين عن سيكولوجية الذات المنتمية للمدينة, لكن الحقيقة تتجلى في المسافة الممتدة بين هاتين الروايتين المتناقضتين اللتين لا تقبلان المصالحة, لكن على الرغم من هذا التناقض لا تلغي رواية الرواية الأخرى لأن لكل منهما مسوغات مشروعة.

إن ما أنجزه سامي محمد بمشروع السدو كما يتبدى لنا في كتاب د.زهرة أحمد حسين (سامي محمد وسيمياء التجريد.الموروث الشعبي الكويتي ملهمًا), يبين من زاوية تاريخ الفن التشكيلي في العالم العربي هيمنة الروح الإنسانية على لوحاته, ويعكس تغيير منظور التشكيل من لوحة إلى أخرى لا محدودية ما يمكن أن تحققه الذات المدينية في كويت ما بعد النفط. إضافة إلى ذلك, تتغلغل في (مشروع السدو) فكرة مفادها أنه لابد للنفس التي تحيا في بيئة مدينية - حضرية جديدة حيث تختفي الأسوار, أن تمتلك ذاتًا جديدة, وأن ينفتح تجديد الذات على أفق احتمالات لا تنتهي. وكالتعبيرية الكاسحة لموسيى فاجنيرية, فالكثير من هذه الأعمال التي تكوّن (مشروع السدو) تصدح بنبرة انتصار جزلة, وأحيانًا بنبرة متجبّرة, حيث يغرف سامي محمد من مخزون الأشكال والموتيفات السدوية كي يستجوب الأنماط السوسيوثقافية التي تتحكم في خريطة كينونتنا, وكي يعيد صياغة إيقاع حياتنا. فبينما يؤكد السدو كحرفة على التشابه والتكرار, تؤكد تجريدية سامي محمد الاختلاف, وبالطبع, فإن عقيدة الاختلاف والتعددية أحد أبرز ملامح الحداثة وما بعد الحداثة. وبينما يؤكد السدو النسق النظامي والتسلسل الأفقي, تقدم وتحتضن تجريدية الفنان عنصر المصادفة.

يقول الفنان سامي محمد :(عندما ينهكني التعب الجسدي والصراع النفسي لإيجاد حلول ومعالجات فنية لمعاناة الإنسان وقضاياه لتجسيدها بعمل نحتي مميز, أتجه إلى مأوى لأريح به نفسي, فلا أجد مكانًا مريحًا سوى ذلك المكان الغني بالأمل والمليء بالعطاء, وهو الرجوع إلى تلك المحطات... محطات اللون والخط و(مثلثات السدو).

 

أشرف أبو اليزيد 




غلاف الكتاب





هلال وسدو, 1993 ,100 × 100 سم, كريليك على قماش





الفنان سامي محمد في مرسمه





نقشتان من السدو, 1996, أكريليك على قماش, 100 × 100 سم





مجموعة صناديق السدو, 1987, أحجام مختلفة من الخشب المدهون





زخرفة من السدو, 1982, 20 × 12 × 25 سم, جبس أبيض وعمود ونقوش من السدو, 1985, 75 × 25 × 25 سم, جبس أبيض