بوب مارلي المغني الداعي لتحرير المقهورين فكتور الكك

بوب مارلي المغني الداعي لتحرير المقهورين

الموت تعبير ما كان ليوافق على استعماله (بوب مارلي) لو كان حيًا. فالحياة, في اعتقاد أهل الـ(راستا), نهر جار لا يتوقف. هي استمرار لا يعرف نقطة بدء أو محطة نهاية.

لكأني بسيد إمارة (الرِّغّي) المسحورة, يقول بأحديّة لا تعرف الأضداد: الحياة والموت ليسا ضدين. الحياة هي الجوهر, والموت عرض. لذلك كان (بوب مارلي) وسواه من (الراستاويين) يوفقون في عقيدتهم - التي حملتها موسيقى الرغي إلى العالم - بين الروحانية الصوفية (أو الدين), والنضال السياسي لتحرير المقهورين والمستضعفين, لاسيما سود الجلدة منهم.

دين القوة السوداء

مادام الأمر هكذا, فما دين الراستا وما تعاليمه? إنه الإيمان بقوة الخير التي تسوس الدنيا, وهي الحياة المستمرة, وقد تجسّدت هذه القوة المسماة (جاه) في (أسد يهوذا) الإمبراطور (الميت) في مفهومنا, (هيلا سيلاسي), ملك ملوك الحبشة, وروح إفريقيا كلها في عقيدة أهل الراستا. إنه سليل سليمان الحكيم وملكة سبأ التي جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمته. وهو يحمل الرقم 225 في هذه السلالة الطويلة.

لكن, لماذا تمت (الكلمة) في إمبراطور الحبشة, وكيف? هنا ذابت الدنيا في الدين أو العكس. فالشعوب والفئات المقهورة تنتظر مخلّصا. و(النبوءة) بهذا المخلص لسود البشرة في القارة الأمريكية والقارة السوداء حدثت في أوائل القرن العشرين.

(حدّق شطر إفريقيا, حيث سيتوّج مليك أسود. إنه المخلّص المنتظر). صاحب النبوءة هو مواطن بوب مارلي الجامايكي (ماركوس جارفي). إنه بطل العودة إلى الجذور, قبل (أليكس هالي), معاصرنا صاحب الكتاب المعنون باسم (جذور). ماركوس جارفي سعى إلى إعادة السود إلى جذورهم بصورة عملية. فهو الذي وضع أسس (القوة السوداء) قبل أن يشيع مصطلحها ومفهومها, ويتداعى روّادها, مؤسسا في العام 1914 (الجمعية العالمية لتحسين أوضاع الزنوجة). وقد فعلت هذه الحركة فعل جبل متحرك من الثلج (تصور جبلاً من الثلج الأسود!) فانضم إليها, في أقل من عام واحد, خمسمائة ألف عضو!

وأراد ماركوس جارفي أن يقرن القول بالعمل, فأسس, في الولايات المتحدة, شركة سفر بحرية باسم (خط النجمة السوداء), لإعادة أحفاد العبيد السود إلى موطن أجدادهم في القارة الإفريقية.

وفي العام 1930, جرى حدث في إفريقيا عظيم الدلالة, فعندما جلس على عرش الحبشة, في تلك السنة (راس تافاري) متخذًا له اسم (هيلا سيلاسي), بدا ذلك لجمهرة الجامايكيين من أتباع جارفي, وحْيا مبينًا: إنه (نيجوس) مخلّص الزنوج المنتظر. منذئذ ينظر الجامايكيون إلى إمبراطور الحبشة على أنه الفادي, (مسيح) الزنوج الذي سيعيدهم من أرض المنفى, ذات يوم, أو على حد تعبيرهم من (بابل) إلى الحبشة. والمقصود ببابل جميع البلدان التي يسوسها البيض, وعندما زار الـ (النيجوس) هيلا سيلاسي, عام 1966, جاماياكا, ماجت أرض المطار بسيول دافقة من البشر جاءوا يستقبلون المخلّص الآتي باسم الرب, إلا أن (ملك الملوك) تخوّف من الموقف, ولم يهبط سلّم الطائرة الذي كان قد استقر عليه كثيرون من الراستاويين, إلا بعد أن أُبعدوا عنه.

أما تجليات دين الراستا, فمجالها صوفية غيبية لا يمكن احتواؤها في قوالب فكرية منطقية. وإنما تتشكل في (أحوال) ضبابية, كما دخان الـ(جانجا) الحشيشة المقدسة التي يدخنها الراستا. وقد ذهب (بوب مارلي) قبل عام تقريبًا إلى أن حشيشة الجانجا تنمّي المواهب, لذلك يجدر بالعلماء أن يدخّنوها, فهي تفتح أبواب التأمل على مصاريعها, وعليه ينبغي أن يسمح بانتشارها في العالم.

ولصوفية الراستا نظام من التحليل والتحريم صارم أحيانًا. فهم لا يشربون الكحول, ولا يأكلون اللحم, ولا يدخّنون (تدخينهم وقف على حشيشة الجانجا).

وإذا كانت موسيقى الرّغّي تحمل إلى العالم رسالة الراستا الصوفية, فإنها في الوقت نفسه, رسالة سياسية هادفة. فقد أشرنا إلى حركة (ماركوس جارفي) الداعي إلى الجذور قولاً وعملاً منذ العام 1914.

إن مفهوم الراستا, في تجلياته الثقافية, وامتداداته الفنية, هو الملاذ الأخير لشعب لم يحمل من ماضيه إرثًا ثقافيًا, وهوية قومية واضحة وسيدة. هو المتنفس الوحيدلخلق عالم تحملهم إليه موسيقى الرغي, فيشعرون بأنهم موجودون (أنا أغني إذن أنا موجود), وبأنهم باقون, شاعرون ببقائهم, وهذا معنى Survival التي تدوّي بها حنجرة (بوب مارلي) النحاسية.

الغناء على موسيقى الرغي وعدٌ لهم بالعالم المثالي, في إفريقيا وبلاد الحبشة, بعيدًا عن البؤس المادي والروحي, عن أحيائهم التاعسة المريبة في (جيتوهات) كينجستون عاصمة جامايكا, (وجيتوهات أمريكا) التي خرج منها إلى العالم نجوم الرغِّي مثل: جيمي كليف, بيتر توش, باني ويلر, وبوب مارلي. ألم يغن بيتر توش للزنوج بني جنسه وللعالم, قائلاً:

(إذن كن زنجيًا
لا تقلقْ على منيتكْ,
إنك إفريقي!
أيّا تكن جنسيتك
إفريقية هويتك)

هكذا, كما حمل الشعر تراث العرب وتقاليدهم وعاداتهم, أي هويتهم, فقيل فيه: الشعر ديوان العرب, كذلك يشكّل الغناء, وموسيقى الرغِّي خصوصًا, ديوان الجامايكيين, وهوية الحضارة السوداء على المستوى الشعبي, وبمد شعبي يلتقي المد الثقافي عند النخبة مع رئيس السنغال الغائب الشاعر ليوبولد سنجور, وأليكس هيلي الذي سبق ذكره.

فبعد استعمار بريطاني لجامايكا دام ثلاثمائة عام, كان لابد لشعبها, في سبيل إيجاد مكان له تحت الشمس, من أن يتخلص من مركّب النقص تجاه المستعمر والشعوب المسيطرة على العالم, ولا يتوافر ذلك إلا بخلق إيديولوجيا جامايكية سوداء تجمع بين النضال السياسي والأمل في فردوس موعود!

أما الأمثلة على قدرة التغيير العملية أو فعل الرغِّي (أي فعل الهوية الثقافية) في حياة الجامايكيين فكثيرة, نذكر منها, على الصعيد الداخلي, أن (ميخائيل مانلي) عندما أراد الوصول إلى رئاسة الوزراء, وضع برنامجه السياسي في إطار من الرغّي. فكانت الأسطوانة الشهيرة (يجب أن تتحسن الأوضاع), التي تصدّرت الاسطوانات الضاربة, وتسلّم مانلي, على إثر ذلك, منصب رئاسة الحكومة بأكثرية ضاربة!

على الصعيد الخارجي, دافع المغني الجامايكي الشهير (يو روي) عن حرية الشعوب بأسطوانة ذائعة يوم حدث غزو الاتحاد السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا!

الساعة السوداء!

أما (بوب مارلي) نفسه, فقد صرّح, قبل عام من وفاته, بأن ساعة الإنسان الأسود قد دقّت, وأنه سينتصر على ظلم العصور, لأن الأبيض سقط بعدما لطّخ يديه بالدماء, واستأثر بالسلطة, وهو لا يريد أن يقر بأن الأسود هو أخوه في الإنسانية. وبما أن سلطته على العالم قامت على القتل, فقد آن له أن يُخلي مكانه للأسود الذي يدعو إلى السلام, وذلك من غير إكراه, بأن يطالب الأبيض نفسه بتوطيد حقوق الأسود تجنبًا للحرب بين الأجناس والأعراق, وفي اعتقاده أن مثل (زيمبابوي - روديسيا السابقة) - يجب أن يُحتذى. ويقول بوب إنه رأى في زيمبابوي الخميرة الحبشية التي ستغطي إفريقيا كلها.

هذه الأيديولوجية السياسية - لا يمين ولا يسار - يختلف اتجاهها العملي عمّا هو متعارف عليه في العالم, فهي ليست يمينًا ولا يسارا, بل هي سير إلى الأمام باستقامة, كعقيدة الجامايكيين الدينية, على حد تعبير (بوب مارلي). ويمثل مارلي على ذلك بصلب السيد المسيح, فقد أحيط بلصين عن يمينه ويساره, أما هو فكان الطريق والحق والحياة, وكما حذّر المسيح الإنسان من أن يعبد ربّين: الله والمال, هكذا يعتبر (مارلي) المال سببًا لكل الشرور, لذلك كان يوزع ماله على الفقراء والمقهورين الذين كانوا يقصدونه يوميًا.

بين هؤلاء المقهورين ولد (بوب مارلي). فقد فتَّح عينيه على الدنيا عام 1945, في (سانت آن), على الساحل الشمالي من جامايكا, وهو أجمل نواحي جامايكا (الماسة السوداء) للجزر الكاريبية في أمريكا الوسطى.

كان أبوه (ميجور) في الجيش البريطاني, توفي قبل أن يولد بوب في جيتو جامايكي, وإن يكن نشأ في طبقة أرفع, حاملاً اسم روبرت نستا مارلي. وقد تعهد تنشئته- على مذهب الراستا وطقوسها, ومنها الموسيقى- حكيم طاعن في السن باسم (داجو) في العقد السادس من القرن الماضي.

نشأ بوب, كالسواد الأعظم من بني قومه, هاويًا لعبة كرة القدم. كان يخصص الساعة الثالثة من بعد الظهر لمعالجة الكرة, فيعتمر قبعته المعروفة, التي تحتضن جدائل شعره, ويدخل الساحة التي ينتظره فيها موسيقيون من زملائه, حيث يبدأ النزال بالكرة, وكثيرًا ما كان لعب الكرة يستغرق نحو ثلاث ساعات من وقت بوب يوميًا. لذلك لم يكن بوب ليخلع حذاء رياضة التنس أو الكرة من قدميه إلا نادرًا.

أما جامايكا, فيبلغ عدد سكانها نيفًا ومليونا ونصف مليون نسمة تضمّهم جزيرة لا تكبر كورسيكا مساحة إلا بقليل. وقد نالت استقلالها في 6 أغسطس 1962, وهي, وإن تكن أكبر منتج للبوكسيت (من أهم معادن الألمنيوم) في العالم تعاني الفقر والمشكلات الاقتصادية - الاجتماعية. فإنها, على الرغم من ذلك, وعلى الرغم من حداثتها كدولة, غزت العالم غزوًا لم تستطعه أي دولة من دول العالم الثالث, فصدّرت إلى الدنيا معدنًا نادرًا ذا رنّة فريدة أين منها رنين النحاس والذهب, تترنّح على أنغامه القارات الخمس, واستسلمت لها بلاد العم سام ودأبت, مع أوربا, على استيعابها ضمن أطرها وتعقيداتها الموسيقية من الـ(سول), إلى الـ(بانك) إلى الـ(ديسكو) وسواها من الصرعات الموسيقية الغازية. لقد أحدثت الرغِّي ارتجاجًا عالميًا تمحورت نقطة ارتجاجه في جامايكا (Rastaman Vibration).

الرغِّي تعبير نوعي

ويمكن القول إن الرغِّي, من الناحية الفنية, تمتاز بارتجاجات أو نبضات متكررة رتيبة, كنبض الإنسان الناتج عن تدفق الدم في العروق من مضخة القلب. وهي تفعل فعل التنويم المغناطيسي الذي يعطّل التفكير ويُدخل في غيبوبة تشبه غيبوبة دراويش الأمس.

إنه سيل منحدر من جبل, وهو يقوم على إيقاعات أفريقية تضرب في أعماق الرقص الديني الطقسي للشعوب الإفريقية, التي حملته إلى العالم الجديد مع عبوديتها, وهكذا يكون الرغِّي تعبيرًا نوعيًا لتراث من الإيقاعات الإفريقية توزّعت على بلدان شتى غزت بها العالم. فقبل الحرب, ذاعت موسيقى البيجين في (جوادلوب) وغزت أوربا, ثم بزغ الكالبيسو في (ترينيداد), وبلغ أوجه مع هاري بيلافونت في الخمسينيات, ثم جاء دور المامبو, فالسالسا من كوبا وبورتوريكو وجيتوهات مانهاتن وسواها, وجميعها أنغام راقصة زنجية توقظ الإحساس الجنسي الذي ألقت عليه آدابنا الاجتماعية سباتًا.

كولمبوس السود

أما العالم الغربي, فقد حاول أن يستفيق من غيبوبة الرغِّي ليضع حدًا لفتوحات (كولمبوس السود) الثقافية, فجنّد مؤسساته وأسواقه التجارية لإطلاق موسيقى الـ(سكا), التي يحمل لواءها البيض. إلا أنهم نقلوا (من تحت الدلفة إلى تحت المزراب) - كما يقول المثل العامي - فقد صرّح بوب مارلي قبل موته بسنة قائلاً: إن موسيقى (سكا) هي موسيقى جذورنا, وليس الرغِّي سوى سبط لها! صحيح أن سكا راجت في لندن, في ساحة (سوهو) قبل أن تصبح على ما أصبحت عليه اليوم في عالم الفن والمجون, إلا أنه في شارع (كارنابي), في أواخر الخمسينيات, كان ثمة علبة ليل اسمها (يلوبيت) في منطقة المستودعات التي تعجّ بالجرذان, وكان يرتادها العمّال الجامايكيون ويغنّون فيها ويرقصون على أنغام السكا التي حملوها معهم من موطنهم المستعمَر (بفتح الميم). وعندما استقلّت جامايكا عام 1962, اندفعت هذه الأجيال في رفضها للطبقة السياسية الجديدة المتعاملة مع الإرث الاستعماري, فأطلقوا شعورهم بجدائل طويلة على غرار (أسد يهوذا) كرمز معارضة, وحركة رفض تجمع المقهورين والفقراء.

هكذا نرى أن العالم الأبيض يتحلل من الاستعمار الموسيقي الأسود ليقع في قبضة استعمار موسيقي آخر, إذ إن ضياعه وبعده عن جذوره يوقعانه في قبضة الذين ينهلون من جذورهم. وإذا كان (بوب مارلي) قد مات, فإن جذوره باقية متداخلة كجدائل رصفائه الذين يمثلون سعداء على عروش المسارح, وفي أقبية الليل, أمثال: بيتر توش الذي استوعبه فريق الرولينجز ستونز, وباني ويلز ويو روي, وبورنينج سبير, وثورد وورلد وماكس روميو.إن إعصار الرغِّي لن يهدأ, لأن مصدره أوتار الحناجر المشدودة إلى جذور الظلم في إفريقيا السوداء, بدياناتها السحرية (وفولكلورها العجيب), التي لم تستطع أن تطرد الأرواح الشريرة القادمة من عالم البيض أو بابل الاستغلال.

 

فكتور الكك