قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟
------------------------------------------

لقد جاءت معظم القصص طويلة نسبيا، مما صعب معه اختيار عينة منها دون أخرى، بالرغم من تفاوتها على مستوى القيمة الجمالية والدلالية. عدا ما تتميز به قصص أخرى من ضعف على مستوى البناء واللغة والحبكة، وما يطبع قصصا أخرى من هنات، نتيجة كثرة الأخطاء اللغوية والتعبيرية والتقنية، واستسهال قاصين آخرين لكتابة القصة، في حين كانت نصوص قصصية أخرى ضحية ارتباك كتابها، في التعبير عن الفكرة والموضوع، وفي وضع نهايات مناسبة لها، ربما نتيجة انفلات خيط الحكي وتشتت الفكرة؛ من هنا، تبدو عملية اختيار قصص دون أخرى، في مثل هذه الحالة، أمرا صعبا إلى حد ما. لكن بالرغم من ذلك، فهي قصص تعد، دون شك، بولادة مواهب إبداعية جديدة في مشهدنا القصصي العربي الجديد. فكلها قصص جاءت متفاوتة في رسم جوانب وأشكال من المقاومة التي يشهدها واقعنا العربي، وفي قدرتها على تصوير الأحاسيس التي تعتري شخوصها، جراء ضغط الواقع وعنفه وسورياليته أحيانا، بحيث يصبح الاحتماء بالحلم والوهم والارتماء في أحضان العوالم الافتراضية، من بين الحلول الممكنة للتخلص ولو للحظات من ضغط ذلك الواقع، الموسوم بالثبات والسكون والجمود.

تندرج قصة «تحت وطء الخفقان» ليحيى صديق يحيى، من العراق، في إطار المحكيات الجديدة التي تستوحي العوالم الافتراضية، بعد الثورة المعلوماتية الجديدة، التي غدا معها عالم اليوم مجرد قرية صغيرة، بما أحدثه الإنترنت من فورة إعلامية سريعة، ومن تغيير في حياة الناس، وفي طرائق تفكيرهم وتواصلهم. وأمام ما يعيشه الإنسان اليوم، في هذا الزمن المعتم والموحش، كما تصفه القصة، من مآسي وإكراهات الحياة وعنفها، يصبح الملاذ أمام شخصية القصة هو الهروب نحو هذا العالم الافتراضي الأثيري، الذي تسبح فيه الروح وتشدو، كما يبدو أكثر سكينة وصفاء وصدقا من العالم المادي المحكوم بالفناء. من هنا، يؤثر القاص هذه الغابة الافتراضية، ويرفض أن تتجسد رغباته ومواجيده في الواقع، مخافة أن تتعفن وتتلاشى، وأن تضيع في دهاليزه صورة حلمية بريئة، طالما تمثلها ورسمها في عالمه الأثيري، فقرر أن يغادر المكان المتفق عليه للقاء بمن كان يراسلها عبر النت، مفضلا التراجع عن لقائها، حتى لا تنتهي الحكاية.

تحكي قصة «الفانوس» للقاص صالح قرطوط، من سورية، حكاية شخصية «فؤاد» الذي قرر فجأة مغادرة بلده، والسفر إلى الخارج، وتحديدا إلى «فنزويلا»، هناك «حيث تنمو الأشجار إلى الأعلى»، على حد تعبير السارد- فؤاد في القصة. والقصة بالرغم من بساطة حبكتها ولغتها، فهي مع ذلك تضمر بين ثناياها، بشكل ساخر وتهكمي، وضعا أكثر مرارة ومأساوية وثباتا، هو الوضع العربي بشكل عام، حيث تصبح الهجرة إلى الخارج هي الملاذ المناسب للانعتاق من واقع جامد وساكن، في الوقت الذي يعرف فيه العالم تحولا متسارعا نحو الأفضل. ويبقى «الفانوس» في هذه القصة، يجسد تلك الكوة من الضوء التي ظلت شخصيتا القصة (فؤاد وصديقه) محتفظتين بها، ففؤاد العائد من السفر سرعان ما سيستعيد «فانوسه» القديم من صديقه، وهو بذلك إنما يستعيد الأمل بإمكانية حدوث التغيير، وبزوغ ضوء الشمس من جديد.

تبدو قصة «إيجار قديم» للقاص محمد المهدي، من مصر، مكثفة السرد والتفاصيل الصغرى، وإن كانت من أطول قصص المسابقة. فكما أنها قصة تراهن على مكون الحكاية فيها بامتياز، وفق شكل سردي كرونولوجي متصاعد، فهي أيضا تروم تعديد دلالاتها ومعانيها، وفتح مجال التآويل واسعا أمام قرائها. تقدم لنا قصة «إيجار قديم» الشخصية الرئيسة فيها (عبد الدايم) في صورة نمطية، بحيث يبدو في صورة إنسان هو سجين حياته ومماته، على حد سواء، نتيجة هوسه اللامحدود بحب الامتلاك. قصة «إيجار قديم»، وحكاية "عبد الدايم" مع الشقة، بما يضمره اسمه من إيحاء بالديمومة والثبات، وبما تكشف عنه قصته من تآويل، من بينها ما يمكن أن تجسده شخصية عبد الدايم من صور محتملة، من بينها تجسيدها لصورة الحاكم العربي المستبد، ذاك الذي يتشبت بديمومة منصبه، حتى بعد مماته، ضدا على كل القوانين الجديدة (كتلك التي يرمز إليها في القصة بقانون الإيجار الجديد وضدا على إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها، هذه التي لا تملك سوى التهليل والتطبيل لكل «حاكم جديد»، «يفوز» في تولي شئون الوطن، الذي يتجسد في تلك العمارة الآيلة للانهيار والسقوط، ولو تم ذلك بطرق غير شرعية وغير قانونية.

تبدو قصة «ما يشبه الحلم» لإبراهيم فرحان خليلي، من سورية، قصة عادية، من حيث موضوعها المكرور، الذي تستوحيه، ألا وهو موضوع بطالة الشباب والفقر. غير أن الطريقة التي اعتمدها القاص في السرد، وفي إعادة نسج خيوط قصته وتشبيكها، عبر الاعتماد على الحلم والتشويق وتكثيف اللحظات النفسية، أضفى على موضوع قصته نكهة تعبيرية وبعدا تخييليا دالا، بحيث يغدو الحلم أحيانا أقوى من الواقع والحقيقة. فأمام الإرغامات النفسية والمادية التي تكبل شباب اليوم، نتيجة تفشي البطالة، يصبح البديل، في هذه الحالة، هو الاحتماء بالحلم والوهم، أو بالأحرى الاحتماء بـ «ما يشبه الحلم» ضدا على الواقع وعنفه، وضدا على كل كوارث العالم، الطبيعية والبشرية والسياسية، لكن حبل الحلم والوهم يبقى، هو أيضا، قصيرا جدا.

------------------------------------

تحت وطء الخفقان
يحيى صديق يحيى (العراق)

(الواقع أغرب من الخيال!), عبارة طالما طرقت أسماعه، ويبدو أن أوانها قد حان لتغدو حقيقة، فما جاء به هذا العصر يفوق الخيال حقا، يفوق فعل الجان والعفاريت، ولم لا؟! فالعالم أضحى قرية كونية صغيرة (عبارة باتت مستهلكة، لكن لامناص من استخدامها)، تصل مابين إنسان القطب الشمالي والقطب الجنوبي، بيد أنه على الأغلب عالم يجني ثماره المحظوظون ذوو الأنياب والثراء، لا البؤساء الذين تنهال فوق رءوسهم هراوات الحروب والمآسي.

(تعالي نغادر دنيانا هذه ونهرب إلى عالم أوسع، ماذا بوسع واقع كهذا أن يقدم لنا؟ ربما تفتحين النافذة ذات يوم فلا تجدين الأيقونة الصفراء التي اعتدت رؤيتها، عندها لك أن تخمني ماحدث في زمن المفخخات والقنابل، الزمن زمن القرية الكونية الصغيرة المتصارعة التي تضيق بساكنيها, حيث لا مكان لذوي الأحلام الصغيرة).

استرجع كيف قادته قدماه إلى صالة الإنترنت، واختار له مقعدا أمام واحد من صناديقها لتطل تلك الأيقونة الصفراء بحذر، يطوي بين جنباته الرغبة بالانعتاق والتحليق صوب فضاءات قصية، تلك هي رغبة الروح عندما تحاصر.

- من أين؟
- من هذا العالم الواسع
- الاسم?
-......
- العمر؟
- 29
- وبعد؟
- كفى!
هكذا هي أصول اللعبة...

(صدقيني إن قلت لك بأنني لست من رواد (الشات)، ولم أمارسه من قبل رغم معرفتي به حتى أطل ذلك الصباح العذب، وحدث ما حدث، لكم كانت تلك اللحظه مترعة بالفرح والتوتر اللذيذ.. كيف لي أن أمسك بهذا الطائر الجميل الذي طوحت به شبكة النت، وألقت به في صدفة عجائبية إلى عالمي.

آنستي

أعرف جيدا أنك لست على شاكلة أولئك الذين يدمنون (الشات)، أحسست بذلك منذ البداية عبر كلماتك وإشاراتك، وعمدتها فيما بعد بأبيات من شعرك الجميل التي رسمت لك صورة حلوة في مخيلتي.. فشرعت أدندن للطائر الجميل كي أمنحه الطمأنينة وأريح جناحيه من وطء الخفقان.. نعم أعترف بأنني ربما أكون قد آثرت شيئاً من الضجر الذي قد يفهم خطأ على أنه إلحاح لا طائل من ورائه..لكنها الرغبة المجنونة في التواصل، وما تفعله تلك الحاجات الدفينة التي باتت تعتمل عميقا في نفوسنا، وما من متنفس لها.. فناديت عليك مرات ومرات، كنت أتعمد كل يوم ترك كلماتي عند نافذتك، علي أحظى بك..

في البدء، قلت لي إن ما ينبغي أن يشدنا إلى هذه الحياة هو جوهرها وليس ما يطفو على السطح.

قالت سترتدي وشاحاً أزرق، فهي توثر اللون الأزرق، وعبره سوف يميزها، ستقف أمام مبنى الجامعة بنظارتيها الدائريتين، تتحرك وراءهما بترقب عينين واسعتين، متوسطة القامة، حنطيه اللون، أما هو فسيرتدي قميصاً أبيض وسيضع يده في جيبه الأيمن، وتستقر على أنفه نظارة شمسية سوداء، أما الباقي فيترك للحدس.

أية مصادفة ألقت به في هذا الموقف?!
- أريد أن أراك
- قد تفسد الرؤية مابنيناه
- لا

- لاداعي لأن نتجسد، لنبقى في الأثير، العالم هنا أوسع، أنقى، أجمل، الأرواح لا تحط على الأرض، الأرواح تطير..تحلق..

كان الطريق مزدحما بالمارة، يغمره لغط وضحكات، صيحات تتعالى من هنا وهناك، أبواب محلات تفتح وتغلق، أناس يدخلون ويخرجون، أصوات منبهات السيارات، موسيقى وأغاني بدت له متهتكة، فيما راحت عيناه تراقب الجهة المقابلة، عله يلمح وشاحاً أزرق، لمحة واحدة تكفي، سيميزها بروحه، سيضيء وجهها من بين كل الوجوه وسيعبر إليها، سيخترق كل هذه الأمواج البشرية التي تحتويه، ستقوده خطواته إلى حيث تقف، كما لو كان ذاهبا إلى أرض بكر لم يطأها من قبل، ليرى وجها طالما أطل عليه في أحلامه، وتراءى له بابتسامات ونظرات ملائكية. أترى سيبقى هذا الفيض الذي تضج به روحه عندما سيلتقي بها? لكم نازعته الرغبة في أن يبقى الأمر رهين التواصل عن بعد، فالأرواح يفسدها النزول إلى الطرقات.. وسأصدق فيروز مضطرا، وهي تردد:

تعال ولاتجي واكذب علي
الكذبي مش خطي
اوعدني انك راح تجي
وتعال
ولاتجي)

جال المكان بعينيه مرة أخرى، حرك رأسه يمينا وشمالا، أحس كما لو كان غريقا ينشد الحياة، هل وصلت المكان؟ قد تكون على مقربة منه وهولا يدري، ترمق ارتباكه وتخبطه. ومر وقت طويل أيقظ في ذاكرته آلام خيبات بعيدة خشي أن تتكرر. وفجأة لمح قامة متوسطة تدفع بخطوات هادئة صوب شجرة معمرة انتصبت على جانب الرصيف، توقفت واستدارت ببطء.. كانت هي بذات العينين اللتين تخيلهما، وذات الملامح التي رسمها خياله بوشاحها الأزرق، ونظارتيها الدائريتين، خطوات وتذوب صور الخيال ويحل التجسد، سيرى كلاهما الآخر، وتحل الرؤية محل التجاذب الروحي الذي كان يشدهما. بيد أن هاجسا استيقظ في داخله دفعه إلى التوقف، بل إلى التراجع، هاجس عصف بكيانه، ملأ عقله، علا صراخه في أعماقه يدعوه إلى التراجع، شعر بأن خطواته تلك ستقوده إلى إفساد صورة طالما تغنى بها، ليس وحده بل كلاهما، ستخدش وتبلى، وتنتهي الحكاية، دونما أي بريق، بل ستذهب كل تلك المواجيد هباء وتتلاشى. يكفي أنه رآها, شهد حلمه يتجسد، للحظة اكتشف أن ما اتفقا عليه لم يكن صائبا وأن عليه أن يغادر.

الفانوس
د. صالح قرقوط (سورية)

دون مقدمات طوقني بذراعيه وغمغم بكلماتٍ متقطعةٍ. ثم اتجه إلى جارين آخرين وودّعهما بحرارةٍ مشابهةٍ. قلت وقد أذهلتني المفاجأة «إلى أين?». قال: «إلى حيث تنمو الأشجار إلى الأعلى». و لوّح بتذكرة طائرةٍ في يدهِ. سار على الرصيف تتدلـّى من يده حقيبة واحدة. ورافقتهُ عيوننا حتى تلاشى.

كانت الطيور تهاجر إلى بلادنا في مواسمها ولا تزال، و كانت الجيوش تغزونا ولا تزال، ولكنّ أموراً جديدةً لا نكادُ نستوعبها، كيف تأتيك أخبار الأحداث من كل أنحاء ِ العالم ِ ساعة حدوثها، وكيف يُسافر هؤلاء الأصدقاء في كل اتجاهٍ مثل غزلان ٍ فقدت دليلها?

في الصباحات التالية بدأنا نشعر بالخواء. من يحمل إلينا بعد سفرهِ أخبار العمل. وخيبات السوق. والهزائم المتتالية? من بعده يسألنا سؤاله التقليديّ المحبب «شو رأيكم يا شباب..?» صرت كلما وقعت جريدة في يديّ، أقلـّبها لأتفرّجَ على الصور فيها، وأردّد «الله يذكرك بالخير يا فؤاد».

أصبح باب مكتبهِ لوحة خرساء تصدم عيوننا في الصبح وفي المساء، و تثير فينا المللَ والحزن معاً. ولكنها تذكـّرنا بتعليقاته اللاذعة «ليش السوق باردة? لأنّ ما عند البلدية عدد كافٍ من المدافئ. ليش سيارة الشرطة واقفة قدّام محلاتنا? لأن ما عندنا كراسي نقدمها لتجلس. لماذا انخفضت ضرائب الدخل? لأنه اختفت الدخول وبَقيَ الخروج فقط».

لم أفاجأ عندما حمل إليّ البريد رسالته الأولى من فنزويلا، كنت أتوقعها قبل ذلك.

قرأتها مرتين، وأصبح يحلو لي أن أقرأ رسائله على الجيران، وأسمع تعليقاتهم وطرائفهم. كانت رسائله في الحقيقة بلسماً يختصر الزمن ويجدّد الشباب.

يقول في رسائله هذه البلاد تسرق بني آدم مثل شبكة الصياد، فإمّا أن يغرق في المال والنسيان، أو في بحرٍ من النسوان.

خمس وعشرون مرةً احتفلنا بعد سفره بعيد العمال، وخمس وعشرون مرةً تظاهرنا في ذكرى لواء اسكندرون، ومثلها في ذكرى وعد بلفور. وبعضنا فقد صوته إلى الأبد، و لا تزال رسائله تلفح وجوهنا بالحنين، و لا زلت أصف له التغيرات الطارئة في بلادنا، وكيف أننا نقترب من الجنة أسبوعاً بعد أسبوع.

علمت أنه تلقى رسالة من أحدهم يقول فيها إنّ البلدية لم تعد تحفر الشارع إلا مرّةً واحدة في السنة، مثل الأعياد، وأن قانون الطوارئ قد ألغي، أراهن أنه رغم ذكائه لم يميز بين الجد والمزاح.

فوجئنا برسالةٍ منه يحدّد فيها موعد عودته. والله نحن بانتظارك يا فؤاد بشوق الأهل ولهفة الشرطي لإحصاء ما دخل إلى جيبه عند انتهاء المناوبة.

في المطار، كنت مع الذين ذهبوا لاستقباله. هبط سلم الطائرة بسرعةِ هرّ. وعندما لامست قدمه الأرض ركع على ركبتيه في وضع الصلاة، ذهبت إليه في مكتبه أقدم له التهاني بعودته إلينا، و لأنني أعرف أن العدالة كانت جريدتَه المفضلة، فقد حملت إليه العدد الأخير مع فانوسٍ صغيرٍ كان قد تركه عندي و يعتبره أجمل التحف التي يملكها.

تهلّل وجهه بابتسامةٍ عريضة وبادرني : «الرزق الحلال بيرجع لأصحابو»، «أنا ممنون جدا».

و تناول الفانوس. ثم نظر في الجريدة و قال «حتى هذه تحتفظ لي بها!؟».

قلت «ولكنها جريدة اليوم!»

تجهّم وجهه، وظهرت عليه مئة علامةِ تعجبٍ. ثم قفز جانباً، فصعَدَ منضدةً صغيرةً بجانبِ الخزان، ومط ّ جسده مثل سنجاب، وتناول جريدةً نفض عنها الغبار، ومدّها إليّ : «نفس العناوين. نفس الصور».

قلت: «ولكن التاريخ مختلف»، شددت على يده و دعوته إلى كوبٍ من الشاي.

إيجار قديم
د. محمد المهدي (مصر)

حين ترك قريته وحضر إلى القاهرة ليعمل في مصنع الحديد والصلب بحلوان ربما كان غاية أمله أن يجد غرفة فوق «سطوح» أي بيت قديم في حي شعبي، ولكن يبدو أن الحظ كان مواتيا حيث رأى رئيس الوردية أن عبدالدايم «حمار شغل». لذلك توسط له في استئجار شقة في حي مصر القديمة، وقد فرح عبدالدايم بشقته الجديدة القديمة، ولكنه لم يظهر فرحته خوفا من الحسد من ناحية ومن ناحية أخرى لأنه بطبيعته الجامدة لا يعرف كيف يعبر عن مشاعره في مثل هذه المواقف أو في غيرها، وادّعى بأنه لن يمكث فيها كثيرا فهي أكبر من احتياجاته، إذ ليس لديه أسرة كبيرة تملأ هذه الشقة غير زوجته وولديه الصغيرين، وكان دائما يتحدث عن نيته في الرجوع إلى قريته فور بلوغه سن المعاش، غير أن بعض زملائه في العمل كانوا يتعجبون من قوله خاصة وأنهم يعرفون أن عبدالدايم لا يحب قريته ولا يحب أهلها من الفلاحين ولا يحب غيرهم ولا يحب أحدا.

وأصبحت الشقة تشغل بال عبدالدايم أكثر من العمل ومن الناس، وكلما خرج منها أو عاد إليها وقف ليتأمل واجهة العمارة العتيقة بواجهتها الممتدة في الفضاء ونقوشها وبروازاتهاالأثرية. وعلى الرغم من عدم معرفته بمعنى هذه النقوش أو تلك البروازات ولا بنوع طراز العمارة الكبيرة، فإنه كان يشعر بالفخر أنها تشبه سرايات الباشوات التي عاش هو وأجداده ينظرون إليها بمزيج من الإعجاب والحسد والرهبة. وكثيرا

ما كان عبدالدايم يتعجب من وجود مثل هذه الأشياء في مكان معد أساسا للسكن وليس للسياح الأجانب، وقد قام بالفعل بتكسير بعض الأعمدة والتماثيل والنقوش البارزة الموجودة في شقته ليتمكن من وضع سرير أو كنبة أو كرسي في مكان يرغبه.

ولم يكن عبدالدايم يدرك معنى كلمة "إيجار قديم" حتى صدر قانون «الإيجار الجديد»، والذي يحدد مدة معينة للإيجار يتم بعدها إخلاء الشقة أو تغيير بنود العقد طبقا للأسعار الجديدة، وهنا أدرك الرجل أنه يضع يده على ثروة هائلة، إذ بموجب العقد الذي معه يعتبر وكأنه مالك للشقة طوال عمره، وإيجارها لا يتعدى ثلاثة جنيهات يرميها لصاحب العمارة آخر كل شهر وحين يرفض الإيجار يودعه باسمه في المحكمة، ولا يستطيع أحد مهما علا أن يخرجه من هذه الشقة فالقانون معه. ولأول مرة في حياته يشعر بأنه يملك شيئا ثمينا بهذا الحجم وبهذه القيمة خاصة بعد أن عرض عليه صاحب العمارة إخلاء الشقة مقابل مبلغ كبير من المال وصل إلى مليون جنيه، وهذا مبلغ جديد جدا على سمع عبدالدايم وعلى تصوره للمال. وقد جعله هذا الشعور يصرف نظره عن العودة إلى القرية (تلك العودة التي كان يدّعيها ويشكك في مصداقيتها كثير ممن يعرفونه)، خاصة وقد كبر ولداه وأصبح أحدهما يعمل بالتجارة والسمسرة في الحي، وصار وسيطا في أغلب عمليات البيع والشراء في المنطقة، وقد طلب هذا الابن من أبيه تخصيص غرفة من الشقة لتكون بمثابة مكتب سمسرة وغرفة أخرى لتكون مكتبا للاستيراد والتصدير، وتدفقت الأموال على أسرة عبدالدايم، وأيقنوا أن هذه الشقة كانت «وش السعد» عليهم، ولم يكن يؤرقهم إلا شيئان : الأول، هو اتجاه الابن الأكبر للدروشة وزهده في الدنيا. والثاني، هو أن هذه العمارة قديمة وثمة تلميحات بتفكير صاحبها في استصدار قرار إزالة لها وإعادة بنائها، وهذا يستلزم طرد السكان منها. وعلى الرغم من هذين الشيئين المؤرقين فإن عبدالدايم كان يحاول أن يتناساهما ويعيش حياته بشكل سعيد، فاشترى جلابيب صوف وعباءة خليجية وطاقية شبيكة، وراح يعمل بالسمسرة في الحي مع ابنه، ويشتري بيوتا وأراضي حتى تضخمت ثروته وأصبح قادرا على أن يبني لنفسه بيتا مستقلا أو حتى قصرا يعيش فيه هو وأسرته ولكنه كان يرفض هذه الفكرة حرصا منه على الشقة التى رأى فيها أحلى أيامه وانفتحت له من خلالها أبواب «العز» و«السعد». وحاول صاحب العمارة أن يقنعه مرات ومرات بإخلاء الشقة مقابل زيادة «خلو الرجل» بشكل فلكي على أساس أن العمارة فعلا أصبحت آيلة للسقوط ولم يعد فيها سكان غير عبدالدايم وأسرته، إلا أنه رفض كل هذه المحاولات على الرغم من وجود تقارير هندسية تؤكد بأن العمارة على وشك الانهيار فعلا في أي لحظة. وراح من خلال علاقاته في مجلس المدينة يستصدر تقارير مضادة تفيد بأن حالة العمارة جيدة، ويحمل التقارير إلى ساحات المحاكم وهو يعلم أن الاستشكالات القضائية ستأخذ وقتا طويلا. ولما ثبت أنه لن يترك الشقة طلبت منه رئاسة الحي السماح للعمال والمهندسين ليقوموا ببعض الإصلاحات والترميمات في الشقة فوافق على مضض، ولكن بعد فترة أحس بأنهم يتوسعون في الإصلاحات والترميمات أكثر من اللازم. وأحس أن مسألة الترميمات خدعة يراد بها طرده من الشقة فقام هو بطرد العمال والمهندسين، وأقنع رئاسة الحي بأن الترميمات قد تمت وأن الشقة بحالة ممتازة.

ولم يعد عبدالدايم يخرج من الشقة خوفا من أن يداهمها صاحب العمارة أو أهل الحي أو مهندسو الحي، خاصة وأن العمارة أصبحت تهدد ما حولها إذا سقطت فجأة. ولما ازداد خوفه وترقبه استدعى عدداً من شباب قريته وأعطى كل واحد منهم "نبوتا" ووزعهم على باب الشقة وسلم العمارة ومدخلها والشوارع المؤدية إليها، وطلب منهم البطش بكل من تسول له نفسه الإقتراب من الشقة أو حتى من العمارة. وعلى الرغم من تهافت صحة هؤلاء الشباب فإن عددهم وأصواتهم التي كانوا يصدرونها والأقنعة التي كانوا يلبسونها كل ذلك سبب رعبا لأهل الحي فلم يفكروا في الاقتراب منهم.

ولم يكتف عبدالدايم بذلك بل راح يستدعي كل من يعرفه من المحامين الضليعين في معرفة ثغرات القوانين لكي يدعموا موقفه القانوني في التمسك بإيجاره القديم الذي يتيح له الانتفاع بالشقة طوال حياته، وحين ذكرت كلمة «طوال حياته» راح القلق يساوره، إذ ماذا يكون الأمر لو أنه مات؟.. أيأخذون الشقة ويطردون ابنه وزوجته؟!.. وصار هذا الخاطر يؤرقه ليل نهار، لذلك أصبح بقضي ساعات طويلة مع المحامين الذين يتوافدون على شقته يوميا ليبحثوا كيف ينتقل الإيجار القديم إلى أبنائه وأحفاده، وراحت كلمة «دائم» تدور في رأس عبدالدايم، وأصبح يحذر ابنه من ترك الشقة لأي سبب من الأسباب حتى لا تأتي لجنة معاينة فلا تراه فيها، واقتنع الابن بذلك وراح يدير أعماله التجارية سرا من داخل الشقة حيث يتجمع أصدقاؤه وشركاؤه في المكتب الذي اقتطعوه من الشقة.

ولكن لوحظ منذ عدة أيام صدور رائحة كريهة جدا من ناحية الشقة، ولوحظ أيضا زيادة أعداد المحامين المتوافدين على الشقة، وعرف أهل الحي بعد محاولات مضنية أن عبدالدايم قد مات وأن زوجته وابنه يرفضان إخراج جثمانه من الشقة خوفا من فقدانهما حق الإقامة فيها بعد موته، واستمر هذا الوضع عدة أسابيع حتى أصبح أهل الحي لا يطيقون الرائحة الصادرة من شقة عبدالدايم، وحاولوا إقناع الزوجة والابن بضرورة دفن الجثة إلا أنهم رفضوا بإصرار، فما زالوا يحتاجون إلى بعض الوقت لضبط الأمور القانونية التي تتيح لهم نقل عقد الإيجار القديم إلى الزوجة أو الابن، ولكن أهل الحي لم يحتملوا هذا الوضع على الرغم من صبرهم الطويل الذي اشتهروا به وتسليمهم للأمر الواقع «دائما»، وقد أفتى لهم بعض الشيوخ بضرورة دفن جثمان الميت حتى ضد إرادة أهله، وهنا تجمعوا،لأول مرة منذ زمن بعيد، واقتحموا باب الشقة ووجدوا منظرا عجيبا، فقد تمدد جسد عبدالدايم في كل أرجاء الشقة الواسعة، ووجدوا زوجته وابنه منزويين في ركن من الشقة ممسكين بعقد الإيجار القديم. وهنا دخل أحد المحامين الذين كان يستخدمهم عبدالدايم، وأظهر تنازلا عن العقد بإمضاء وبصمة عبدالدايم وبموافقة صاحب العمارة، وبموجب هذا التنازل تنتقل الشقة إلى المحامي بإيجارها القديم مقابل دفع مبلغ لصاحب العمارة، واندفع أهل الحي، كعادتهم في مثل هذه المناسبة وفي غيرها، وحملوا المحامي الفائز على أعناقهم وطافوا به شوارع مصر القديمة وهو يلوح بعقد الإيجار القديم بعد تعديله.

ما يشبه الحلم
إبراهيم فرحان خليل (سورية)

لم يكن يتوقع أن يحمل إليه ذلك اليوم كل ذلك الكم من المفاجآت السارة، فما إن فتح عينيه صباحاً حتى طرق سمعه رنين الهاتف في الغرفة المجاورة، وحين رفع السماعة جاءه صوت عبد القادر، زميل الدراسة الذي لم يره منذ أكثر من شهر.

زف إليه عبد القادر نبأ قبوله في وظيفة المحاسب التي كانت أعلنت عنها وزارة الاقتصاد منذ سنتين، قال له بنفس لاهث وكلمات متلاحقة:

تصور أنك الأول من بين خمسمائة مرشح تقدموا للوظيفة من جميع محافظات القطر، لقد قرأت اسمك في صحف هذا الصباح.. مبروك مبروك، والله إنك تستحقها.

أجابه وهو لايزال غير مصدق:

- الله يبارك فيك ويبشرك بالخير.

- ما بك ؟ ألست سعيداً

يا رجل؟

- بلى، كيف لا أكون سعيداً.. لقد كنت فقدت الأمل في هذه الوظيفة.

- فقدت الأمل؟!

- نعم، لأنه كما تعلم لا يحصل على وظيفة في هذا البلد إلا المدعوم، أو الراشي، أو العضو في الحزب الحاكم.

أغلق السماعة، وهو يتنفس الصعداء، ونط من السرير مثل قط شباطي، فغسل وجهه وحلق ذقنه على عجل، وأكل لقمتين على الواقف، ثم خرج إلى الشارع وهو يدندن: وداعاً للبطالة.

كان على وشك الخروج حين مدد يده فانتزع ورقة الروزنامة عن ليلة البارحة كما هي عادته كل يوم.

كان الجو مشمساً. تمشى قليلاً ثم جلس في أحد المقاهي القريبة يقطع الوقت، وقبل أن ينتصف النهار، كان قد شرب خمسة كئوس شاي، ودخن ثلاثة أراكيل.

حين ترك المقهى، وقفل راجعاً إلى بيته، وكان لايزال يفكر بأمر الوظيفة، اصطدم في الطريق بابن خالته عبد الغني, عانقه عبد الغني على غير العادة وبادره قائلاً بصوت خافت يختلط فيه الاعتذار بالغبطة:

- في الحقيقة، لا أدري إن كان علي تهنئتك أم تعزيتك ؟!

ودون أن يمهله حتى يرفع حاجبيه دهشةً، أردف عبد الغني:

- ما بك يا رجل؟ كأنك

لا تعرف ما حدث..

- لا.. في الحقيقة لا أعرف

- عمك حمدون أقصد عمك كارلوس..

- نعم..

- كارلوس المقيم في أستراليا! ألم يبلغك نبأ وفاته بالسكتة القلبية أول أمس.

- في الحقيقة، لا لم يبلغني شيء من هذا.

- لا تعرف إذن.. وأظنك

لا تعرف كذلك أنه كان من أصحاب الملايين، وأنك وريثه الوحيد.

- أنت تمزح.

- أقسم ببركة هذا اليوم أنني لا أمزح.

كانت في داخله رغبة خفية ولكن جارفة في أن يصفع نفسه، فقط ليتأكد أنه لا يحلم، ولكنه لايزال في الشارع.

حين عاد إلى البيت، وجد في لوحة الكاشف حوالي عشرة أرقام، كان أصحابها قد اتصلوا به في أوقات مختلفة خلال وجوده في الخارج.

وقبل أن يضع رأسه على المخدة، أشعل التلفزيون كعادته، وبدأ يتسلى بالتنقل بين القنوات الفضائية، كانت جميع الأخبار سارة ومبهجة.

أين اختفت إذن أخبار الحروب والمجازر والفيضانات والأعاصير والزلازل.. سأل نفسه بريبة!

عاودته ثانية الرغبة في أن يصفع نفسه فلم يقاومها هذه المرة. ولما تأكد أنه لا يحلم أخذ يدندن: وداعاً للكوارث الطبيعية والاستبداد السياسي.

وقبل أن يطفئ ضوء الغرفة حانت منه التفاته إلى الروزنامة. تنهد بعمق، كان سيغمى عليه، وشعر كأنه يدور داخل دوامة بحرية لا مهرب منها، كانت ورقة الروزنامة اللعينة تشير إلى الأول من نيسان.
--------------------------------
* ناقد أدبي وباحث، وأمين اتحاد كتاب المغرب.

 

 

عبد الرحيم العلام*