حدائق الألوان على جدران عسير فاطمة الحاج

حدائق الألوان على جدران عسير

يكشف هذا الكتاب عن ينابيع الجمال في منطقة عربية نجهل وجودها على المستوى الفني على الأقل. إنها منطقة عسير بالمملكة العربية السعودية.

عندما تكون الحالة الإبداعية في مجتمع وعصر ما, هي التعبير الحقيقي, والممثِّلة الفعلية لمحتوى فكرها, يكون الأخذ والانتقاء حالة ارتقائية, حيث يؤسس لمستقبل حدسي, فيكون عندها البنيان على ماض يفعّل عملية الانتقاء الحاضرة من أجل المستقبل.

والتفاعل الذاتي, المعتمد على نهج مستمر من البحث القائم على معرفة عميقة بأسس وحاجة هذه الذات يقود بالتالي إلى تفاعل ارتقائي محتمل مع أي عنصر يأتي من خارج هذه الذات, حيث لا يعود عنصرًا غريبًا ملفوظًا.

وهنا يُطرح السؤال: هل علاقتنا بذاتنا سليمة حتى نستطيع أن ننتقي من الآخر, أو بالأحرى لإقامة علاقة مع الآخر?

هل نحن على علم بحاجتنا الداخلية لنعرف ماذا نختار? أم أن تقليدنا للآخر هو دليل أكيد على استعارتنا لذات الآخر? وبالتالي فإن التواصل مع ذاتنا مقطوع, فكيف التواصل مع الذات الأخرى?

وأسباب هذا القطع عديدة, منها عدم معرفة هذه الذات (الخاصة) لذاتيتها العامة (الفكرية - التراثية - العلمية - التاريخية... إلخ) لتثبيت إيمانها بقدراتها.

أخطاء كثيرة نعتمدها للوصول إلى هذه الذات العامة منها: للاطلاع على تراثنا وفكرنا, نعتمد المراجع الأجنبية فقط! في أكثر الأحيان. إذ نستعير ذات الآخر لنعرف ذاتنا.

هذه الحضارات القائمة الآن, هي الشاهد الأكيد على التفاعل الإنساني الإبداعي. فعملية الأخذ والعطاء (التفاعل الجدلي) هي حالة ارتقائية تحاول الوصول إلى حالة جديدة من الولادة الإبداعية, وذلك حسب الزخم الروحي المشحونة به.

وهنا تبقى الحاجة الداخلية هي التي تحدد جرأة الأخذ وضرورته زمانيًا. هذه الجرأة تحفر عميقًا, ويتشعب الأخذ, تبدأ عملية إرساء حالات جديدة تؤسس كما يسمى حضارة مستقبلية.

جاءتني هذه الأفكار وأنا أتصفح كتاب (انطباعات عن العربية) Thierry Mauger : Impressions of Arabia الذي صدر عام 1996 ويعني بـ (العربية) المملكة العربية السعودية. كان لهذا الكتاب الهدية وقْعَ التضاد في الأحاسيس! من ناحية مشاعر مفعمة بالغبطة الروحية التي أكدت لي بعض القناعات منها أن عمل هذه المجموعة من الناس في عسير كان ناتجًا عن حاجة داخلية. ومن ناحية أخرى شعرت بمشاعر أسى من أننا نجهل مناطقنا العربية وما تزخر به من جماليات قديمة وحديثة تلقائية ومدروسة. وأسى آخر وهو انتظار الآخرين لإصدار كتب تعرّفنا بذاتنا. سأترك لشعوري الأول أن يتفاعل مع هذه الجمالية الموجودة في الكتاب.

وما زاد متعة الاطلاع قراءتي للنسخة الفرنسية للكتاب حيث جاء عنوانه:

Arabie, Jardin des peintres, Architecture et art mural du asir, Adam Biro 2002

الجزيرة العربية

حدائق الفنانين, العمارة والفن الجداري في عسير.

اطّلعت على تفاصيل دقيقة عاشها المؤلف أثناء قيامه بدراسته هذه, والتي كانت النص المختصر لأطروحة الدكتوراه في الأنثربولوجيا الاجتماعية والأنثولوجيا في مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية.

مهندس الرادار.. الفنان

ومتعة القراءة هذه لها سبب مباشر كان وراء قيام الكاتب بهذه الدراسة التي قلبت حياته من متخصص في التقنية إلى إنسان لوّن كلماته بأحاسيس حارة, كتاب شُغل بإيمانية قاربت الانتمائية. وفي القصة أن موجر قرأ إعلانًا مقتضبًا: (نريد اختصاصيّ رادار للشرق الأوسط).

يقول: (العربية السعودية تفتح لي أبوابها بفضل عقد (وقعته مع وزارة الطيران والدفاع السعودية), (سوق العصر كما يسمونه).

ولا يخفي الكاتب قلقه من التأقلم في جو مختلف كليًا, من أجل ذلك اصطحب زوجته: (إذا كان الرجل عنصر تهديد, فالمرأة عنصر اطمئنان).

تيه جعله يتعرف إلى مناطق نائية ووعرة في شبه الجزيرة.

عشر سنوات قضاها يعمل في المملكة قبل حرب الخليج, بعدها أوقف العقد مؤقتًا.

كان لهذه الصدمة القوية في حياته وقعها. فإن همته لمتابعة العمل في المجال التقني خفت واضعًا مكانها نظامه القيمي على المحك. (العربية السعودية جذبتني بطريقة قوية ودائمة, قررت المضي قدمًا في تحولاتي هذه مديرًا ظهري إلى عملي التقني?!!).

تقشفتْ الطبيعة, واكتفت بالألوان الترابية الرمادية. ولكن الإنسان هناك, في عسير, استحلفها أن تُظهر ما تُبطن. فذهب إلى مغاورها وأشجارها, وتحمّل مخاطر جلبها, عندها كانت المرأة تزحف في داخل المغاور للحصول على الألوان (الأبيض الجص) ولو كلفها ذلك حياتها كما تروي أم علي, فاستحضر الألوان وبجّلها بأجمل ما في روحه, وغلّف نفسه بتزيين بيوته بما جادت عليه, فحصل على الأخضر من نبتة البرسيم, ولكن لكبش القرنفل أخضر مميز النكهة أما الأحمر فحجر الهيماتيت تكفل بتأمينه. والأزرق من شجر النيل المنتشرة في صبيا وأبو عريش. أما الأسود فمن الفحم النباتي أو قطران الفحم الحجري.

وهذه الألوان تُثبّت مع مادة مستخرجة من صمغ الأشجار. وكانت بعض الألوان تتغير عند زيادة المادة الصمغية إليها. وأحيانًا يُستعمل طحين الأرزّ مساعدًا في تثبيت الألوان على الحائط. وتبدأ العملية باستحضار سائل الجصّ ثم يزاد عليه الصمغ, هذا المزيج يعطي الحائط لمعانًا ونعومة خاصة, يُسمح بعدها بالتلوين بواسطة الألوان المستحضرة المطحونة.

السؤال المُلحّ: ما هو السبب الكامن وراء كل هذه المشقات للحصول على هذه الأنواع من الأصباغ. هل لأن الناس هناك يحبون زخرفة بيوتهم من أجل الزخرفة فقط دون أن تكون لها أي أبعاد أخرى كما عبّر موجر? دون السؤال عن سبب تزيين بيوتهم بهذه الزينة?

أما Berque فحاول أن ينقض هذه الفكرة مؤكدًا أن الإشارات هي رموز لأشياء طبيعية غُبّر عنها بواسطة الأشكال الهندسية مستطردًا كما لو أنهم عملوا بوصية سيزان: عندما خاطب إميل برنارد: (عالجوا الطبيعة بعبارات الأشكال الأسطوانية والكروية والمخروطية).

وهذا ما حاول المؤلف تأكيده: (إشارات وُلدت من إشارات رمزية لمجتمعات غير تراكمية آنية من بدء التاريخ مؤلفة أشكالاً أولية (أي جوهرية) حسب تعبير مالرو.

كما نعت نساء هذه المنطقة بأنهن يرسمن كما الطيور تغرّد مستعينًا بمونيه. جدل ربما أداره الكاتب عن عمد ليبيّن الأهمية الروحية التي تمتلكها هذه الإشارات الممتدة عميقًا في تاريخنا الإسلامي.

الإشباع الروحي

وزيادة على ذلك نفهم حاجة الإنسان إلى الإشباع الروحي من خلال حواسه وكانت العين هنا هي بيت القصيد, حيث الألوان الداكنة تحيط بها, فكانت هذه التلاوين والرموز تلبية لهذه الحاجة الداخلية الروحية. كان نساء عسير يلجأن إلى تلوين البيوت داخليًا وخارجيًا ليعوّضن بعضًا مما حُرمن منه في حضن الطبيعة. هذا التعويض يأخذ أهميته عندما نعلم أن التلوين يتم بواسطة نساء لم يطلّعن يومًا على مجريات الفنون الحديثة أو القديمة.

انسجام لوني تمثل أحيانًا بالتدرج من الفاتح إلى الغامق ومن الحامي إلى البارد. وأحيانًا كان الإيجاز يتم بلون أو لونين للشبابيك والأبواب مع اللون الأساسي الترابي للحائط.

انسجام إما يدل على سلامة إحساسهن. فجاءت حالة حوائط بيوتهن كحالتهن الروحية, ولم تكن تقليدًا للوحة بولي كلي أو مارك روتكو.

فالحاجة الداخلية هي نقطة الالتقاء الحقيقية بين الناس إلى أي شريحة فكرية أو زمنية أو مكانية انتموا. وخاصة عندما يحاول المفكر المتعمّق وصل ما تقطّع بعلاقته مع الباطن اللاوعي للوصول إلى الحالة الجوهرية من جديد.

من هنا كانت دلالة إعادة تكوين بيوتهن بشكل مستمر ومغاير في كل مرة عن سابقتها وذلك لإغناء الرؤية.

حتى ثيابهن كانوا يتباهون بتلوينها, لتشكل مع بيوتهن حالة منسجمة. هذه الحالة التي تخطت مرحلة التفرج على اللون معلقًا على الحائط إلى مرحلة الانغراس فيه ليشكلا كلاً واحدًا.

(كنت أجد في التآليف الجدارية لمنطقة عسير, صدى لتأثيرات عند زيارتي لغاليرهات الانطباعيين. إذا كانت المتاحف هي البيوت التي تحمي اللوحات, فبيوت عسير هي المتاحف).

إشكالية حاول المؤلف طرحها حين عرض لآراء بعض الكتّاب الذين جعلوا من هذه الجمالية مجرد زخرف دون مدلولها الفكري, أو ما أسماه المدلول الباطني. وهل من حالة لونية إلا ولها جذورها في اللاوعي الإنساني? ومن قال إن هذا اللاوعي يعطي مدلولاته عندما يأمره العقل المنطقي أو العلمي?

هذه التلقائية في التلوين هي في الأساس جمالية لها نسيج في حالات عديدة من الثقافات في تاريخ الفن الحديث وما جمعها إلا التلاقي الجوهري في اللاوعي الإنساني.

اللون والمعنى

هذه الحالة هي نقيض الحالة المؤسسة على ذاكرة تراكمية حين يصبح للون معنى ثابت في الذهنية الاجتماعية التراكمية: فاللون الأزرق هو لون الحكمة الإلهية, لون الروح. ولكن بالمقابل كان الناس يستعملون اللون للدلالات المحددة كمثل أن بعض القرويين الكاثوليك في الإلزاس كانوا يطلون بيوتهم باللون الأزرق لتمييزها عن بيوت البروتستانت. وفي بولونيا, كانت هناك عادة طلاء البيوت باللون الأزرق للدلالة إلى وجود فتيات في سن الزواج. أما الأحمر فهو لون الألوان وهو لون الحب الإلهي في اليونان حيث قباب الكنائس والمعابد في ميكانوس مطلية باللون الأحمر. وفي روسيا الأرثوذكسية يُعبّر عن أحد الفصح فيها باللون الأحمر انتصارًا للحياة. ومعابد شعوب المايا في غواتيمالا تتماوج بالألوان الحمراء. لون الشمس المشرقة ودم الأضاحي.

أما الأخضر فهو اللون المكمّل للأحمر.

وبالرغم من أن اللون الأخضر ليس من الألوان الأساسية (لأنه مزيج من لونين أساسيين هما الأزرق والأصفر). فإن أهميته النفسية أكسبته صفة اللون الأساسي حتى ثمانينيات القرن الماضي واعتبره البيئيون رمزًا لمكافحة التلوث. في مزاب في الصحراء الجزائرية, فقط حجاج بيت الله الحرام يستطيعون تلوين بيوتهم باللون الأخضر أو الأخضر المزرق, فهل اللون الأخضر الذي يوضع فوق أضرحة الأولياء الصالحين هو رمز للقيامة, كقيامة الربيع الأخضر بعد شتاء رمادي? والأخضر عند المايا هو لون براعم الذرة التي هي أساس الغذاء عندهم.

والأصفر اللون المتأجج, هو لون الشمس في لحظة الأوج. هو الطريق الذي يوصل الإنسان بإلهه. في الصين هو نعت القوة عند الأباطرة الذين يمثلون سلطة الله على الأرض.

هذه المفاهيم نراها غائبة كليًا في عسير. فالأسود يؤطّر به في غالب الأحيان ليحدد المساحة اللونية, أو يستعمل بحد ذاته كلون مثل بقية الألوان ويعطي جمالية أخاذة لتنوع طرائق التلوين به من مساحات مغلقة إلى تخطيط باتجاهات منوعة فكأنهم يلونون بلون واحد.

والأبيض لون ليُبرز قوة الألوان الباقية.

سُكُوتِيَ إِنشادٌ وَجُوعِيَ تخمَةٌ وَفِي عَطَشي ماء وَفِي صَحوَتِي سكرُ
وَفِي لَوعَتِي عُرسٌ وَفِي غُربَتِي لقاً وَفِي باطِنِي كَشفٌ وَفِي مَظهَري سترُ


(جبران خليل جبران)

 

فاطمة الحاج 





استخدام مفردات الطبيعية وموداها الأولية من أجل تزيين واجهات البيوت





الدرج الداخلي إلى المنزل وقد تم شغله بالأشكال الصحراوية البدائية ولكنها تحمل رموزا تعبيرية





من المدهش استخدام طحين الأرز في تثبيت هذه الألوان على الجدران





أهالي عسير.. بعض القرى النائية منها أقرب ألى الفطرة واكثر غنى بالموروثات الشعبية والروحية





أهالي المنطقة يمارسون الرسم بالفطرة مثلما تغرد الطيور ويكمن في داخلهم مخزون فطري من الفن