العولمة وحقوق الإنسان.. د. أحمد أبوزيد

العولمة وحقوق الإنسان.. د. أحمد أبوزيد

عام 2002 أصدرت مطبعة جامعة أكسفورد كتابا بعنوان «مستقبل حقوق الإنسان» The Future of Human Rights للأستاذ أبندرا باكسى Upendra Baxi وجد له صدى واسعا وقويا فى الأوساط المهتمة بمشكلة حقوق الإنسان، وما تتعرض له الآن من تعديات وانتهاكات وإهمال وتجاوزات فى كثير من أنحاء العالم، على الرغم من التشدق بها وادعاء الالتزام بتطبيقها والانصياع لمبادئها التى أقرها وحددها فى عام 1948 الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، مثلما وجد الصدى نفسه لدى المهتمين بالدراسات المستقبلية وبمستقبل المجتمع الإنسانى بوجه عام وما سيكون عليه الوضع إزاء التغيرات الهائلة التى يمر بها العالم والمستجدات المتتالية التى لم تكن تخطر على البال حتى سنوات قليلة مضت وتأثير هذه التغيرات والمستجدات على تلك الحقوق، ومدى ملاءمتها للأوضاع الجديدة. وقد أبدى باكسى (وهو أستاذ من أصل هندى وعمل فى عدد من كبريات جامعات العالم)، فى ذلك الكتاب القيم ملاحظة صائبة حين أوضح أن (ظاهرة) حقوق الإنسان تعانى - وبخاصة فى السنوات الأخيرة- من نوع من الثنائية الغريبة، إذ يبدو من كثرة مايكتب حولها وما يقال من مدح لمبادئها، أنها تلقى قبولا عاما وترحيبا من كل دول العالم بغير استثناء باعتبارها التزامات أخلاقية وليست فقط مبادئ أو توجيهات اجتماعية أو سياسية أو قانونية، ولكنها على الجانب الآخر وفى الوقت ذاته تواجه كثيرا جدا من التعديات الصارخة والاستهانة والاستخفاف، لدرجة أن بدأت تظهر على السطح بعض الآراء التى تنكر وجود تلك الحقوق، وترى أنها مجرد وهم يكذبه الواقع خاصة أنه لاتكاد توجد نظرية واضحة ومقنعة تبرر وجود هذه (الحقوق) أصلا. وليس أدل على ذلك من أن المصطلح نفسه (حقوق الإنسان) يؤخذ الآن بعدة معان وينظر إليه من أبعاد وزوايا ومنظورات مختلفة فى شتى الدول، مما يعنى ضمنا إمكان التغاضى عن بعض (الحقوق) التى تعطيها دول أخرى أهمية أو أولوية خاصة، وأن هذا الاختلاف فى النظرة قد يؤدى فى المستقبل إلى إسقاط بعض تلك الحقوق المقبولة الآن واعتبارها مجرد ذكرى من الماضى، ونوعا من الرواسب أو المخلفات والبقيا الثقافية والاجتماعية التى تخطاها الزمن. وتثور الآن بعض الشكوك حول جدوى ومعنى هذه الحقوق فى زمن تسوده أفكار مابعد الحداثة التى تتشكك فى كل شئ ويشهد بعض الجهود المستميتة لإحياء مبادئ النسبية الثقافية التى تتعارض مع دعاوى العولمة.

ويدين الإعلان العالمى لحقوق الإنسان كل أشكال التمييز بين البشر وما قد ينشأ عن ذلك التمييز والتحيز فى التعامل من أضرار بدنية أو نفسية وشعور بالمهانة وإهدار الكرامة، ولذا تحرص فلسفة ذلك الإعلان على ضرورالقضاء على كل أشكال معاناة البشر فى العالم المعاصر الذى يوصف بأنه عالم مابعد الإنسانية post-human world والكشف عن مظاهر وأسباب تلك المعاناة والتخفيف من وطأتها والتنديد بما يطلق عليه اسم «سياسة القسوة» «The politics of cruelty التى يبدو أنها أصبحت السمة المميزة للعلاقات بين الناس وبين الدول بعضها بعضا، وبين الدولة والمواطنين على حد سواء. ولكن لم تفلح تلك المبادئ السامية فى أن تقضى على كل صور المعاناة كما لم تفلح فى إقرار العدل تماما حتى فى المجتمعات الديموقراطية المتقدمة. فعلى الرغم من أن ذلك الإعلان هو أكثر الوثائق الدولية قبولا وانتشارا واستشهادا بمبادئها الرفيعة السامية فإنه فى الوقت ذاته أكثرها عرضة للتجاهل، بخاصة فى السنوات الأخيرة التى شهدت مقتل ملايين البشرفى كثير من أنحاء العالم نتيجة للمذابح الجماعية والحروب التى ترتكب باسم الدفاع عن حق الإنسان فى الحياة والوجود، أو بدعوى تحقيق وضمان وتأمين كرامة الفرد والجماعة ضد التعديات وإجراءات القهر غير المشروعة وغير المبررة التى ترتكبها الدولة ضد مواطنيها.

ومع أن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان يرجع إلى فترة مابعد الحرب العالمية الثانية فإن الوعى بأهمية هذه الحقوق وضرورة توفيرها والدعوة إليها ترجع فى رأى بعض المفكرين فى الغرب إلى عصر التنوير فى أوربا. ويصف هؤلاء المفكرون تلك الدعوة أو المناداة بأنها «هدية الغرب لبقية أنحاء العالم » وهو زعم قد يجد من يعارضه فى الثقافات الأخرى الكبرى ويرى أن الأقرب إلى الحق والصواب أن يؤخذ فى الاعتبار مبدأ التنوع الثقافى وتفاوت الأوضاع، والظروف المحيطة بالمجتمعات المختلفة، خاصة بعد أن اتسع نطاق المفهوم نتيجة للتغيرات التى يتعرض لها العالم الآن وامتداد هذه الحقوق بالتالى إلى مجالات سياسية واجتماعية وثقافية جديدة، ولم تعد مقصورة على المجالات التى تحددت فى الإعلان العالمى . والغريب أن هذا الزعم نفسه كثيرا ماتستغله دول العالم الثالث لتبرير عدم التزامها بتلك الحقوق باعتبارها (تعليمات) مستوردة تخفى وراءها رغبة الغرب العارمة للتدخل فى الشئون الداخلية للدول اللاغربية، وفرض نظرته وثقافته وهيمنته على الآخرين. وهنا يميل بعض الكتاب إلى التمييز بين التصورات (الحديثة) والتصورات (المعاصرة) عن تلك الحقوق. فالتصورات الحديثة ترتبط بالأفكار والأوضاع التى كانت تسود فى القرن الثامن عشر، بثوراته الفكرية ومحاولات الإعلاء من شأن الفرد (فى الغرب بطبيعة الحال) واتخاذ ذلك المبدأ شعارا يخفى وراءه نوايا السياسات الاستعمارية التى كانت تزعم أن هدفها هو نقل الحضارة الغربية إلى الشعوب المتخلفة و (البدائية)، والارتقاء بها إلى مستويات أعلى من الواقع المتردى التى تعيش فيه، بينما ترتبط التصورات المعاصرة بالإعلان العالمى الذى صدر عن هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وتعيين مجالات ومعايير محددة لهذه الحقوق بل وآليات تنفيذها أو حتى فرضها عنوة وقسرا إن لزم الأمر.

وقد اتسعت قاعدة حقوق الإنسان خلال العقود الأخيرة نتيجة تعقد الحياة الاجتماعية وتشعب الروابط الثقافية وتشابك العلاقات السياسية وتعارض المصالح الاقتصادية على مستوى العالم، وزيادة التحركات السكانية وسقوط الحواجز الجغرافية والحدود الدولية إلى حد كبير، والتجاء الدول إلى فرض قيود شديدة واتخاذ إجراءات صارمة للحد من هذه التحركات، أو على الأقل تنظيمها للمحافظة على الكيان السياسى للدولة وعلى الهوية الثقافية للمجتمع . وكثيرا ماتؤدى نعرات التعصب وعدم التسامح فى المجتمعات متعددة الثقافات والأعراق إلى تكتل وتآزر التكوينات العرقية المستضعفة والمهمشة، لمواجهة سياسات التمييز وتحدى الإجراءات التعسفية والأوضاع الاستبدادية التى تغتال حقوق الإنسان. وقد يصل الأمر بهذه القوى المضادة إلى إعلان التمرد والالتجاء إلى العنف، بل والدعوة فى بعض الحالات إلى الاستقلال الذاتى والمطالبة بالحق فى تقرير المصير. ومع أن معظم هذه النزعات الانفصالية المتمردة تفشل فى تحقيق أهدافها، بل وقد تؤدى على العكس من ذلك إلى قيام نظم أشد سوءا من النظام السيئ المرفوض، بدلا من أن تعثر على البديل الملائم، فإنها تنبه الأذهان إلى ضرورة مراعاة مبادئ حقوق الإنسان كشرط أساسى لتخليص المجتمع الإنساني من كثير من الشرور والاختناقات التى تعانى منها البشرية فى الوقت الحالى. ومع ذلك لاتزال الاعتداءات الصارخة على حقوق الإنسان قائمة ومستمرة بل ويتسع نطاق وأشكال ودعاوى ممارستها حتى فى أشد الدول تقدما وتمسكا بأهداب الديموقراطية، والتى لها سجل مشرِف فى مراعاة تلك الحقوق والدفاع عنها، والدعوة إليها على أسس أخلاقية تتعلق بكرامة الإنسان وآدميته.

وإزاء هذه الأوضاع المعقدة والمشكلات الجديدة المرتبطة بها ارتفعت الأصوات بضرورة توفير ضمانات للمحافظة على حقوق الأقليات والمهاجرين وغيرهم من الجماعات المهمشة، والدعوة إلى التسامح بعد تأجج مشاعر العداء للأجانب، والمطالبة بسن قوانين وتشريعات تمنع التمييز ضد المرأة والاستغلال البدنى والجنسى للأطفال والنساء، وتكفل العناية بالصحة الجنسية وغيرها، وعقدت لذلك عدة مؤتمرات فى عدد من الدول وكلها تنص على ضرورة ترجمة الأفكار إلى سياسات وخطط ومشروعات قابلة للتنفيذ، وقادرة على أن ترفع المعاناة عن جميع البشر وتضمن لهم كرامتهم وحقوقهم فى الحياة الآمنة الكريمة من خلال العمل على نشر الديموقراطية وتوفير الحريات السياسية والدينية، وحق اللجوء السياسى ومستويات ومعايير العمل وما إليها. وقد ساعدت الأفكار الإيجابية التى تتضمنها دعاوى العولمة وسهولة التواصل بين الشعوب، وانتشار القيم المتعلقة بمفهوم المواطنة على ارتفاع سقف الآمال والتطلعات إلى الارتقاء بتلك الحقوق وترسيخها.

ولقد أفلحت العولمة فى أن تفرض نفسها كأحد أهم ملامح الحياة المعاصرة. فعلى الرغم من كل مايوجه إليها من انتقادات فإنها أسهمت فى ربط شعوب ومجتمعات وثقافات العالم بعضها ببعض مما ساعد على تبادل المعلومات ومعرفة الآخر وتشجيع التوجهات نحو إقامة مجتمع مدنى كوكبى، والتقريب بين تلك النظم والثقافات بحيث يصبح العالم مجتمعا أو حتى (مكانا) واحدا تتضاءل فيه أهمية ومعنى المسافات والأبعاد المكانية على مايقول أليسون برايسك Alison Brysk فى مقدمته لكتاب «العولمة وحقوق الإنسان «Globalization and Human Rights الذى أشرف على تحريره، كما تتراجع النعرات الوطنية والقومية المتطرفة والصراعات الدولية، مما قد يساعد فى آخر الأمر على تطوير المعايير والنظم والمبادئ الخاصة بمراعاة حقوق الإنسان. ولقد ساعد ذلك كله فى أن يصبح المجتمع المدنى أكثر قدرة على تكوين قوى تستطيع الوقوف فى وجه النظم الديكتاتورية وتحدى الحكومات الاستبدادية، والتصدى للتعديات والانتهاكات التى تصدر عن الأجهزة المتسلطة، وإن لم يقض ذلك تماما على كل حالات أو صور التعسف والتسلط والاستبداد.

بيد أن العولمة ترتبط على الجانب الآخر بازدياد حدة نزعات الهيمنة لدى دول الغرب القوية وتأجيج رغبتها فى فرض رؤاها وقيمها وسياساتها الخاصة على الدول الأقل تقدما وحرمانها بالتالى من ممارسة حقوقها الاجتماعية والثقافية، ومن حرية اتخاذ القرار السياسى والاقتصادى، الذى يتفق مع مصلحتها الخاصة، كما أنها لا تجد فى الوقت ذاته ضيرا فى أن تساند حكومات العالم الثالث التى تصفها بأنها حكومات فاسدة ومستبدة وأن تتستر على فسادها وانحرافاتها واستبدادها ضد مواطنيها إن كان فى ذلك مايخدم أهدافها الخاصة بفرض هيمنتها وسيادتها على العالم. ومن هذه الناحية تمثل العولمة - التى يصفها بعض المفكرين بالتوحش - تهديدا خطيرا لمبادئ حقوق الإنسان.

وتشغل مشكلة القضاء على انتهاكات تلك المبادئ والحقوق بال، ليس فقط المنظمات الدولية، ولكن أيضا الجماعات والمنظمات غير الحكومية، التى تكرس جانبا كبيرا من جهودها لنشر ثقافة حقوق الإنسان على أوسع نطاق ممكن بين شعوب العالم، والاهتمام بوجه خاص - بتعريف الأطفال والنشء والأجيال الجديدة بفلسفة وأبعاد ومغزى تلك الحقوق، والاستعانة بوسائل الإعلام والمناهج والمقررات الدراسية لتحقيق هذا الهدف. ويعتبر ذلك التوجه أفضل استثمار للعملية التعليمية لأنه يسهم فى تنمية الوعى باحترام الذات وقبول الآخر وفهم الثقافات المغايرة وإقرار العدالة والمشاركة السياسية، وسيادة ثقافة التسامح والسلام، وهى الدعاوى التى ترفعها العولمة وإن لم تفلح حتى الآن - فى تحقيقها على أرض الواقع نتيجة لسيطرة نزعات الهيمنة على بعض الدول الكبرى، حتى ولو جاء ذلك على حساب المبادئ السامية التى تؤلف جوهر حقوق الإنسان.

وتثار الآن بعض التساؤلات عن نوع الحقوق التى يتوقع أن تفرضها العولمة، والتغيرات المصاحبة لها، والعلاقات التى سوف تترتب على انتشار نزعات وسياسات الهيمنة لدى الدول الكبرى، والتى سوف تؤدى إلى تهميش الجانب الأكبر من مجتمعات وثقاقات وشعوب العالم، وإلى تراجع مبادئ وقيم الديموقراطية وضعف فاعلية منظمات المجتمع المدنى، بحيث أصبحت العولمة هى ذاتها أحد التحديات الكبرى التى تعانى منها تلك الحقوق والمبادئ الإنسانية.

بل إن هناك من الدارسين من يتساءل عن الدور الذى يمكن أن تقوم به المنظمات الدولية والمؤسسات والهيئات غير الحكومية أو الأهلية المعنية بحقوق الإنسان، لمراعاة تلك الحقوق وتنمية قدراتها على مواجهة التعديات والانتهاكات إزاء توحش تيارات العولمة الجارفة وتعاظم هيمنة الدول الكبرى واستهانتها بكل المبادئ، وهل يمكن أن يقوم نظام دولى جديد بديلا عن هيئة الأمم، التى تراجع دورها إلى حد كبير، وفقدت جانبا كبيرا من نفوذها نتيجة خضوعها للسياسة الأمريكية ؟ صحيح أنها تحاول التدخل فى الحالات الصارخة وتتضافر جهودها مع جهود المنظمات الطوعية وغير الحكومية، ولكن كثيرا ماتواجه هذه الجهود بالفشل بسبب تضارب السياسات والمصالح، وهو مايدعو إلى عدم الارتياح بالنسبة للوضع فى المستقبل.

ولكن قد يكون هناك شئ من الأمل فى الدور الذى يمكن أن تضطلع به وسائل الإعلام للمحافظة على حقوق الإنسان، من خلال نشر المعرفة بتلك الحقوق والدفاع عنها، وكذلك فى الجهود التى تبذلها مؤسسات المجتمع المدنى فى هذا الصدد. فالوفرة الحالية فى وسائل الإعلام وتعددها وتنوعها وسهولة الحصول على المعلومات وتبادلها والاطلاع على أوضاع العالم وما يجرى فيه من أحداث، والمقاومة التى تبذل فى كثير من المجتمعات ضد التسلط والاستبداد والهيمنة كلها عوامل تساعد على إثارة الرأى العام العالمى والتكتل ضد هذه الانتهاكات والتصدى لها وتوحيد الجهود لمواجهتها وإن كان تأثير هذه الجهود والاستجابة لها يتفاوت تفاوتا شديدا بتفاوت واختلاف الظروف.

ولكن الملاحظ على العموم أن الأفكار (المعاصرة) عن حقوق الإنسان تمتد إلى مجالات جديدة وتصل إلى حد الحديث عن حقوق الإنسان فى الفضاء، أى أنها تتعدى مجال المجتمعات التى يعمرها الإنسان الآن بالفعل على كوكب الأرض، إلى العالم الذى يتوقع أن يعمره فى المستقبل غير البعيد جدا، ونوع الصراعات التى قد تنشب فى ذلك العالم الجديد، والمبادئ التى سوف تحكم العلاقات بين السكان، ومدى اختلاف التنوع الثقافى، وبالتالى مراعاة احترام الآخر. وهل يمكن أن يحقق الإنسان فى الفضاء ماأخفق فى تحقيقه على هذا الكوكب؟ أم سوف يضطر إلى الرجوع إلى مبدأ النسبية الثقافية، التى قد تكون مخرجا من الأزمة، وإن كانت تتعارض مع كل دعاوى العولمة التى هزمت أغراضها؟.

 

 

أحمد أبوزيد