أيام المسرح في قرطاج.. الحب والتحدّي وروح المغامرة خالد سليمان

أيام المسرح في قرطاج.. الحب والتحدّي وروح المغامرة

في أيام قرطاج المسرحية الثانية عشرة, لم تغفل تونس بُعدها الإفريقي بالرغم من قديم تجذّرها عربيًا وإسلاميًا.

اجتهد المخرج الكبير (توفيق الجبالي) في صياغة مشهد افتتاح المهرجان ليكون تونسيًا شاملاً قبل أن يعطي راية المهرجان لـ(نيكول ويرى ويرى لينكنج) المخرجة والمؤلفة والرسامة الإيفوارية من أصل كاميروني.., و(زادي زاورو) ليستكملا البعد الإفريقي للمهرجان من خلال الرحلة التي يجتازها الشعراء الأفارقة من أجل المرور إلى بلاد الأجداد عبر قصة أميرة الحرب الأسطورية (صوجولون كدجون) ليشاهد الجمهور حكاية القارة السمراء بأسرها وهو يتنقل من قصة إلى أخرى بين الأغاني والرقص والإيقاعات الإفريقية من زمن الأساطير الموغلة في القدم وصولاً إلى الحاضر واستشراف المستقبل, وكان المخفي ينكشف رويدًا رويدًا في تكتيك يشبه الدمية الروسية (ماتريوشكا), وتنجح فرقة (كي بي) التي قدمت العرض المفعم بعبق الأسطورة ورومانسية الشجن وحيوية القارة السمراء في تصدير تلك الأحاسيس لكل المشاركين الذين تهيأوا لبدء ملتقى جاد وممتع.

ووجدنا أسماء كبيرة لا تتعالى على المساهمة بالحدث الثقافي في سبيل نجاحه مثل الكاتب (عز الدين المدني) واحد من العلامات في تاريخ المسرح التونسي وإلى جواره المخرج (توفيق الجبالي) مع إحدى سيدات المسرح التونسي (رجاء بن عمار), وكذلك النجم (رءوف بن عمر), والمسرحي المتميز (المنصف الصايم) و(د.فوزية المزى) و(د.محمد المديوني) عميد المعهد العالي للمسرح والكاتب (أحمد عامر), (حمادي المزي) و(فريد العلمي), كل هذه الأسماء السالف ذكرها من علامات المشهد الثقافي التونسي وأغلبهم تولى إدارة مهرجانات دولية كبيرة منذ زمن بعيد, لكنهم كانوا موجودين فاعلين من أجل الحفاظ على النجاح, والدور المؤثر الذي تكوّن على مدى عقود طوال.

في هذه الدورة الثانية عشرة لأيام قرطاج المسرحية, برزت جهود اثنين, هما د.محمد العزيز ابن عاشور وزير الثقافة التونسي الذي ينتمي إلى عائلة مساهمة فعّالة في تاريخ تونس الحديث, فجده هو المصلح الديني والإمام المجدد الطاهر بن عاشور, وعمه الذي استكمل المسيرة هو الشيخ الفاضل بن عاشور الذي تولى أيضًا مشيخة الجامعة الزيتونية العريقة في تونس, وتخرج د.محمد العزيز ابن عاشور نفسه في المدرسة (الصادقية) العريقة التي قدمت لتونس زعماء التحديث المعاصرين. كما تأثر المهرجان بجهود الفنان التونسي محمد إدريس أحد معالم الحركة المسرحية التونسية الذي أسس منذ سنوات عدة مدرسة السيرك لكي تكون جامعة تخرج لنا جيلاً واعدًا من فناني السيرك العربي.

جسور المستقبل

من المعروف عن أيام قرطاج أنها تعقد سنويًا كل شتاء حيث يخصص عام للمسرح وعام للسينما, وفي أيام قرطاج المسرحية, التي انعقدت من أجل مسرح عربي وإفريقي متجدد حملت الدورة شعار (الانفتاح), وصف بأنه انفتاح على الآخر في حوار حضاري مؤسس وبناء يقوم على الأخذ والعطاء, انفتاح المسرح على التعابير الفنية الأخرى, موسيقى ورقص وغناء وفنون تشكيلية, وفنون الصورة والآداب من أجل فرجة حية متطورة لتوظيف أحدث التكنولوجيات والاستفادة منها دون أن يفقد المسرح هويته وإنسانيته. كانت هذه الدورة تسعى نحو جسد مسرحي شاب ينفض عن نفسه الترهل والتكلس والأساليب المهترئة, ويستلهم أطروحات من قضايا عصره, ويلغي الثرثرة لأنه مسرح الدلالات والرموز والأجساد الحية المتحررة.

تم برمجة الدورة من خلال سبعة أقسام تحت شعار (انفتاح) وكانت كالتالي: حضور مسارح البلدان برموزها ودلالاتها ووجوهها الجديدة, وبانوراما للتعرف من خلال العروض المبرمجة على المستوى الذي وصل إليه المسرح العربي والإفريقي, ومجالات بحث المبدعين فيه, ثم تكريم مسارح تونسية امتازت بحركيتها المستمرة في التكوين والإبداع, كونها مراكز للإشعاع داخل تونس وخارجها, ونجحت في مهمتها كمؤسسات في صلب المجتمع المدني, وهذه المسارح هي (الفن الرابع) و(التياترو) و(الحمراء) و(نجمة الشمال) و(بئر الأحجار) و(المركز الوطني لفن العرائس). يليه انفتاح وهو قسم تكرس العروض المبرمجة ضمنه للانفتاح على التعابير الفنية المكونة للفرجة, ويحضر فيه الفنانون التشكيليون والكوريجرافيون مع الشعر والسرد والرواية والصور الثابتة والمتحركة, ثم قسم اكتشافات: الذي عُدَّ نافذة لإظهار كيفية قراءة الكلاسيكيات بنظرة حداثية دون تعريف, للانطلاق إلى آفاق أخرى وترجمة ربط المسرح بذاكرته الفاعلة, وعرض في هذا القسم ثلاث تجارب من ثلاثة بلدان مختلفة. وبعد أن نصل إلى جسور المستقبل: التي حرصت أيام قرطاج المسرحية على مدها من أجل تواصل وتكوين أجيال جديدة ومبدعة من طلاب المسرح ومدرسة السيرك عبر العروض والمختبرات واللقاءات الجادة من أجل الإحاطة بفنون المسرح وتأطيرها. جاءت أخيرًا حوارات الانفتاح عبر ملتقيين, الأول لمعالجة انفتاح المسرح على الفنون الأخرى, والثاني من أجل دعم شبكات التوزيع بمشاركة مختصين عرب وأجانب ومسئولين عن المسارح والمهرجانات وهيئات الترويج والتعريف بالمسرح في العالم.

أيام قرطاج بالأرقام

كانت الدورة الثانية عشرة لأيام قرطاج المسرحية أشبه بخلايا النحل من حيث التنظيم والحيوية والنشاط, وبلغ عدد البلدان المشاركة 16 هي 8 بلدان عربية و2 إفريقية و2 آسيوية و4 أوربية, بالإضافة لتونس التي قدمت وحدها 21 عرضًا, وقد أوضح المسرحي البوركيني مسيوجان جيني السبب الرئيسي في غياب عدد كبير من الدول الإفريقية, عن هذه الدورة, وهو أن معظم الدول الإفريقية تعاني رفض المطارات الدولية استقبال طائراتها لعدم مطابقتها المواصفات الفنية? كما بلغ عدد الفرق المشاركة 47, وعدد العروض 45 عنوانًا, 58 عرضًا, بالإضافة إلى أربعة معارض للصور والخيمة العملاقة للمدرسة الوطنية للسيرك, معرض تراث تحت الأضواء, معرض الفنون التشكيلية على إيقاع الأيام, التي قدمت في دار الفنون ومتحف مدينة تونس, بطحاء التربيونال المدينة, نجمة الشمال, قصر خير الدين.

كما أقيمت سلسلة من المجالس لمتابعة الأعمال, وطرح الأسئلة التي تتقدم بالتظاهرات المسرحية وتطورها للأفضل, والحوار حول خطابات وجماليات المسرح وطروحاته لتقييم ما حققته الدورة, وما تتمناه أن يتم في مهرجانات قادمة, كما تناولت عروض المهرجان وآلياته بالنقد والتحليل. ومما يحسب لأيام قرطاج المسرحية أنها تبنت توصية كاتب السطور التي اقترح فيها أن يكون تاريخ الاحتفال بيوم المسرح العربي موافقًا يوم 5 سبتمبر من كل عام تكريمًا لكل مناضلي المسرح العربي, خاصة وأن ذلك اليوم يوافق تاريخ حريق مسرح بني سويف الأليم الذي وصل عدد ضحاياه إلى 62 من خيرة المسرحيين في مصر.

وكانت أهم سمات العروض التونسية في هذه الدورة, سمتين من حيث المضمون وهما: الأولى سيطرة الهم القومي وأوضاع المنطقة, خاصة في فلسطين والعراق والتحديات والمتغيرات العالمية, التي نواجهها كأبناء للحضارة العربية الإسلامية على النصوص التي قدمتها الغالبية العظمى من العروض التونسية, التي تستشعر فيها على الفور القلق ومحاولة إيجاد الحلول إزاء ما نواجهه نحن المستهدفين, أما السمة الثانية: فهي الجرأة النقدية إزاء الواقع اليومي المعيش والذي تشترك فيه شعوب المنطقة بشكل أو بآخر, الأمر الذي لا يجعل هذا الطرح محليًا, وهي جرأة تعكس مناخًا جديدًا لدى المبدعين من ناحية, والرقابة أيا كان اسمها, والتي خففت كثيرًا من قبضتها من ناحية أخرى.

كما كانت هناك سمة أخرى مشتركة من حيث الشكل في معظم العروض, وهي العمل على خشبة مسرح (ركح كما يطلق عليه المغاربيون) شبه خالية, ثم يبدأ تشكيل السينوجرافيا رويدًا رويدًا, والتي يلعب الجسد دورًا أساسيًا فيها, وهو مضمار كان للمسرح التونسي دائمًا فيه اليد الطولى.

سيدة المسرح

تنقضي الساعة ونصف الساعة, وتظل قابعًا في مكانك لا تقوى على الحراك, ولا تريد تصديق أن العرض انتهى, فهذه المرأة التونسية التي تتصفح الجريدة في اليوم الثامن للحرب على العراق, لا تروي لنا حكاية الحرب ولا أجندتها الحياتية, لكنها تربط البعض بالكل, وتسرقنا من مقاعدنا الوثيرة لنجد أنفسنا في قلب أتون الحدث الأليم في العراق وفلسطين, ومعاناتنا اليومية التي لا يخدعها صوت مضيفات الطائرات المحايد والمضلل المغلف بالتفاؤل الغربي والصور الوردية, تسخر منا ومن نفسها, تجلد الذوات والضمائر, في أداء رفيع وكأنك تشاهد إحدى آلهة الإغريق تلعب دورًا من التراث الهليني الخالد, ليس لها من هدف سوى أن يتطهر الجميع, وبمفردات الديكور الأولية وحبل مدلى من أعلى كـ(المشنقة) و(مقعد) يربط بينها أداء الجسد المتناغم, وفي العمق جدار شبه مدمر تتشكل سينوجرافيا العرض, ويتساءل البعض ممن اعتزموا الظلم مسبقًا لرجاء بن عمار: ما الضرورة الدرامية لوجود العكاز في يدها, ألا يكفي الواقع المزري والخيال الكسير للتعبير عن عجزنا, ويسري السؤال العدوى حتى بين محبي فن مؤلفة العرض ومخرجته وبطلته السيدة (رجاء بن عمار) لتصفع الإجابة الجميع بعد انتهاء العرض, إنها تمثل بساق واحدة, الأخرى مكسورة, وبها تمزق في أربطة الركبة, ولذا فقد اضطرت أن تتدرب مع أبطال السيرك على الأداء الحركي بساق واحدة, كل هذه الليونة والرشاقة والانسيابية والأداء التمثيلي الراقي لم تنل منه الإصابة البالغة, حقًا تبقى (رجاء بن عمار) إحدى أهم سيدات المسرح التونسي, فخواطرها التي كادت أن تكتفي بإصدارها في كتاب, تتحول إلى مونودراما تحمل كل مقاييس الرقي والعالمية, تعقب الشاعرة (فاطمة الشريف) (هو ذاك) إنه الفن الراقي الجميل هكذا يفعل بالناس.

ويستمر الفنان الكبير (نور الدين الورغي) في عرض عمله (الزنديان) والذي يقوم على إيقاعات الهنود الحمر والصوفية وموسيقى البلوز السوداء التي سرقها الغرب ليدعي أنها سيمفونيته الخاصة, و(هو ليس بالحديث الحماسي) إنما هو بحث أكاديمي حي قام به الفنان الكبير (نور الدين الورغي, ومن لا يصدق فعلية بمشاهدة العرض الجميل القاسي!

جلجامش...النمساوي

بداية القول إننا نهجر الأوطان بحثًا عن أنفسنا وعن الأمان, صحيح أن الفن لا وطن له, إلا أنني لعنت الظروف التي تجبر مبدعينا على إهداء مجدنا لمن هو ليس في حاجة إلى المجد, بينما نحن في أمس الحاجة إليه لكي يقول للكون بأسره إننا أيضًا ننتج فنًا جميلاً وراقيًا, لا ما يروّجه العالم الآن عنا, عندما أسس الفنان العراقي الكردي (شمال أمين) وزوجته وشريكته (نيكار حسيب) مختبر (لاليش) المسرحي في النمسا, كان هدفه تجاوز لغة الخطاب المألوفة والبحث في أعماق الإنسان لإيجاد علاقة جديدة بينه وبين العالم لها قدرة اللغة نفسها على الفاعلية, إنها محاولة لإيجاد طريقة جديدة للتواصل, رغم الزمان والمكان الجاثمين على الجسد كعائق يحول دون ذلك, وهاهما صاحبا المختبر يجريان اختبار الصوت كدافع ومحرك للجسد والحدث الفيزيائي لكي يكون بداية القول أو الكلام, وعلى مدى ساعة وعشر دقائق في قاعة مربع الفن, نشاهد أداء راقيًا حول مفهوم ثقافة الجسد وإشكالياته في الزمان والمكان, عبر هذا المشروع البحثي في الظواهر المرئية واللامرئية. ويتيح لنا د. محمد المديوني عميد المعهد العالي للمسرح في تونس أن نشاهد عرضًا آخر لهذه الفرقة النمساوية المتميزة!, في قاعة رائعة من قاعات المعهد في (العمران), كانت تستخدم ككنيسة في العهد الاستعماري, وهو ما ساعد (شمال أمين) في إسباغ الجو الطقسي الذي اختار له فضاء جديدًا من الأغاني المنبثقة من أعماق الجسد, فضلاً عن فضاء المكان الموحي, عبر نصوص جديدة من الحضارة السومرية, وملحمة جلجامش, والتراث العربي الكردي, لعب فيها الأداء الصوتي المذهل لنيكار حسيب إلى جوار زميلتها السنغافورية (سان سان باب) و(شمال أمين) دورًا مذهلاً في تحفيز الجسد لأداء بالغ البساطة والروعة.

بقي أن نعرف أن (شمال أمين) و(نيكار حسيب) تخرجا في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد 1988, وأسسا مختبر (لاليش) في فيينا بالنمسا سنة 1999, ويشرفان الآن اسم النمسا في جميع أنحاء المعمورة!! وقد عرض هذا العرض في القسم الذي يحمل عنوان جسور المستقبل.

لصوص بغداد.. المثيرون للجدل

لا شك أن مسرح المخرج الكبير(توفيق الجبالي), (التياترو) إحدى العلامات المهمة في مسيرة المسرح التونسي. كان دائمًا متطورًا جريئًا ومثيرًا للجدل بطروحاته المختلفة والمتميزة, وقد وصف توفيق الجبالي مؤلف ومخرج عرض (لصوص بغداد) أن هؤلاء اللصوص قاموا بالسطو على (كلام الليل) في إشارة لسلسلة من العروض المسرحية التي قدمها الجبالي وحملت اسم (كلام الليل) قدم فيها نموذجًا فرجويًا وتقنيًا متميزًا اقتنص عددًا لا بأس به من الجوائز المحلية والدولية, ويطرح (الجبالي) في (لصوص بغداد) قضية سلب ونهب التراث الحضاري والإنساني المستمرة تحت رايات مختلفة على مر الأزمان والعصور في حراسة الضمائر الميتة واللامبالاة, عبر إسقاطات جريئة إلى حد السير على حافة الهاوية بالنسبة للواقع اليومي المعيش, مناقشًا قضايا التخلف والإرهاب كاسرًا لكل التابوهات, مقدمًا لفرجة دينامية وممتعة على المستوى البصري من خلال سينوغرافيا بسيطة وموحية وخطة إضاءة واعية تعتمد على جزء منها على الممثلين أنفسهم, إلا أن العرض قد واجه عاصفة عاتية من النقد القوي والموضوعي من الأشقاء العراقيين نتيجة التناول الساخر لقضايا حساسة, كما وجهت مخرجة يمنية نقدًا عنيفًا (للجبالي) قالت فيه (إذا كنت اليوم تضحك على مأساتي فغدًا سوف أضحك على مأساتك), وهاجمه آخرون على اجترائه غير المحدود على التابوهات, كما وجه له كاتب السطور نقدًا لام عليه فيه خلطه للأوراق في مشهد الاستشهادي حيث لا يمكن أن نساوي بين إرهابيين كأتباع أبو مصعب الزرقاوي, وأبطال مثل (وفاء إدريس) و(دارين أبو عيشة) كان لهم شرف الشهادة في مقاومة مشروعة للغاصب الصهيوني, ويظل الجبالي مثيرًا للجدل تتعاطف معه من حيث الشكل وتختلف معه حول أطروحاته.. ولعل هذا هو سر تميزه.

ومن خلال عرض بالغ الروعة جسد كل فنون الفرجة المكتملة تمثيلاً وغناءً ورقصًا وأداء حركيًا مركبًا وملابس وسينوغرافيا, قدمه المخرج والدراما تورج (رضا دريرة) الأستاذ بالمعهد العالي للموسيقى بسوسة شعبة المسرح الغنائي, عن مجموعة نصوص للكاتب الكبير(عز الدين المدني) تحت اسم (زمان), تقع أحداثه في زمن قديم متجدد من خلال التاريخ الذي يعيد نفسه, ناقش فيه الوقائع الحياتية التي حدثت أمس وتحدث اليوم وغدًا في تماس واضح مع كل مناحي الحياة في السياسة والاقتصاد والاجتماع من خلال سبعة رواة خرجوا من رحم الأسطورة ليثيروا الدهشة والتساؤل الذي يبدأ بسيطًا لينتهي بمطلقات وجودية متعددة, استخدم المخرج بحذق ووعي كل فنون المسرح التي تجسدت من خلال رؤية تشكيلية بارعة وظفت عدة مستويات لخشبة المسرح دبت فيها الحياة من خلال (الكريوغرافيا) الموحية والأداء الغنائي والتمثيلي البارع لطلاب المعهد العالي للموسيقى بسوسة, كما ساهمت خطة الإضاءة الثرية في إبراز السينوغرافيا البدعية لعرض تميز بالبعد الجمالي الراقي الذي عابه أن زمن العرض كان ساعة ونصف الساعة فقط لم تكن كافية بالنسبة لجمهور ذواقة أراد المزيد من الفرجة الممتعة.

مجاز الباب.. وعلاقة الأطراف بالمركز

(أحرقت من خلفي جميع مراكبي
إن الهوى أن لا يكون إياب)

رددت بصوت مسموع تلك الأبيات الخالد لأمير العشاق نزار قباني التي قالها مخاطبًا (تونس الخضراء) مقرًا بالوقوع في أسر عشقها, ألم يبادرها قائلاً (يا تونس الخضراء جئتك عاشقًا, وعلى جبيني وردة وكتاب) ألم يقع في هواها قبله الشاعر (لوي أراجون).

ولعلها أنسته (عيون الزا), كنا آنذاك نجتاز مدينة مجاز الباب مفتاح الدخول للشمال الغربي التونسي في طريقنا إلى مدينة (الكاف) الشهيرة, وفي الطريق الذي يجسد الطبيعة التونسية البالغة الثراء والتنوع, فها نحن نترك وراءنا (السباسب الكبرى) والسهول لنرتقي الجبال تحفنا الوديان العميقة إلى اليمين والغابات الكثيفة من اليسار, نتذكر الأندلس جنة العرب الضائعة ونحن نعبر (تبرسق) الدرة الأندلسية, ونمر بمدينة (تستور) ثانية الدرر الأندلسية وعاصمة موسيقى (المألوف) مرددين (يا مالك مهجتي ترى.. أرفق بالله) ونحن نرنو إلى (باجة) الساحرة صاحبة (معمل السكر) والفتيات الأكثر حلاوة وسحرًا, لنقترب أكثر من السماء ونحن نصعد إلى (الكاف) متطلعين إلى أروع مشاهد تقع عليها عينا إنسان, وتذهب السكرة وتأتي الفكرة مع لسعات البرد القارس وزخات المطر التي تسربل (الكاف), ها قد وصلنا إلى(مركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف) الذي يديره واحد من أكفأ المسرحيين المعاصرين في تونس الفنان (الأسعد بن عبدالله) الذي يحدثنا عن واحد من أهم الروافد التي ساهمت بقوة في تشكيل المشهد الثقافي التونسي, وهي علاقة الأطراف بالمركز, يحدثنا عن تجربة الكاف التي بدأت مع المخرج الكبير (المنصف السويسي), وعن مركز الفنون الدرامية بصفاقس, واجتهادات لعدد من المثقفين كتجربة (نور الدين الورغي) في (عين دراهم), ومراكز أخرى في (جفصة) وغيرها نجحت في لفت الأنظار كمرافق فاعلة تقدم أعمالا متميزة أجبرت العاصمة على الاعتراف بها والتسليم بدورها ودعمها أيضًا لتصبح من أهم مصادر قوة المشهد الثقافي التونسي إلى حد الوصول للعالمية, الأمر الذي جعله يذهب إلى هناك سعيًا وراء التميز على الرغم من كونه من أبناء (ضاحية المرسى) وهي من ضواحي العاصمة, فضلاً عن أحد أهم المراكز الثقافية في المتوسط وهو مركز الحمامات الذي تولى مسئوليته من قبل عدد من رموز الثقافة التونسي (كمحمد رجاء فرحات), ويعرض علينا (الأسعد بن عبدالله) تسجيلاً لأحد أهم العروض التي قدمها مركزه والذي اختير ليكون افتتاحًا لعدة مهرجانات محلية وعالمية وهو عرض (المنسيات) الذي أخرجه (الأسعد) وأخذ على عاتقه إحياء التراث التونسي بصيغة مسرحية حداثية متكاملة تضمنت كل فنون المسرح وتقنياته في الكريوغرافيا والغناء, الإضاءة والرؤى التشكيلية, كما تحدث (بن عبدالله) عن المهرجان المتفرد في المنطقة العربية (24 ساعة مسرح) والذي يقيمه (مركز الكاف) منذ خمس سنوات بنجاح وتتسع فيه المشاركات الدولية عامًا تلو الآخر وهو ما يدل على أنه بدأ في ترسيخ أقدامه إقليميًا ودوليًا.

وتتميز المهرجانات التونسية دائمًا بتفعيل شوارع مدنها ليشعر الجميع بالحدث, وينتهي الحدث لكن الحكايات تبقى في ذاكرة الضيف والمضيف تثير الحنين, وقد حرصت أيام قرطاج المسرحية على تقديم عرض تونسي بعنوان (البهلواني) وهو كذلك في شارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة ليبقى في الذاكرة, فضلاً عن استعراض للمشي على السلك على ارتفاع شاهق عبر الشارع الكبير ذاته بين أحد الفنادق الكبرى والمسرح البلدي استقدموا خصيصًا له أحد المشاهير في هذا الفن من فرنسا, تزامن معه لحسن حظ المهرجان عرض للعرائس والمشي على أرجل خشبية أقامته إحدى الشركات الخاصة احتفالا بماراثون لأصحاب الاحتياجات الخاصة أقيم تحت رعايتها.

بالطبع لا يمكن أن يتم تغطية هذا العدد الكبير من العروض التي قدمتها أيام قرطاج المسرحية مهما اتسع المجال, لكن ستبقى في ذاكرة المشاركين عروض متميزة مثل العرض الكوميدي البهلواني (المتشعبطون) نص علي التوالي وإخراج محمد إدريس الذي أسس المدرسة الوطنية لفنون السيرك في سنة 2003 إدراكا منه للدور المهم لهذا الفن, كذلك العرض الفلسطيني (الجدار) من إخراج عاطف بن حسين, فضلاً عن عدد آخر من العروض المتميزة.

مسك الختام

في البدء كان الشارع وخلال الرحلة كان الشارع حاضرًا, وفي الختام ودع الشارع ضيوف المهرجان عبر احتفالية تونسية دافئة, وكان (تتويج الربيع) هو العرض الختامي للمهرجان الذي قدم على خشبة (المسرح البلدي), فمن منظور إفريقي وفي ضوء المعالم الإفريقية قدم المخرج الفرنسي من أصل جزائري (هادي معلم) قراءة حداثية لسيمفونية (سترافنسكي) تتجاوز الزمن وتتعايش مع كل مفردات الحياة يسبح أربعة عشر راقصًا إفريقيًا في بحر من البياض ميز ديكور العرض مع عرض الفيديو ليذوب الكل في حدث واحد هو (تتويج الربيع) تعبيرًا عن الربيع الدائم والمتجدد لأيام قرطاج المسرحية. وعلى هامش المهرجان أو بالأحرى بعد انقضائه بيوم واحد كان أثره السحري مازال يسيطر على الساحة, فقدمت الفنانة الأردنية (مجد القصص) في قاعة الحمراء شرحًا وافيًا لمنهجها وأسلوبها ثم عرضت على الحضور تسجيلاً بالفيديو للعرض المسرحي (قبو البصل) نص (جونترجراس) وإخراجها ولم تنس أن تنوه بأنها أعدته من منظور عربي, كما قدمت الفنانة التونسية الشابة (فوزية ثابت) عرضا مسرحيًا عن نصها وإخراجها على مسرح غير تقليدي أقيم في (كوفي شوب) تناولت فيه قضايا المرأة التقليدية بطريقة مبتكرة ورومانسية عبر سينوغرافيا بسيطة وعميقة في آن واحد وأداء تمثيلي وحركي بارع قياسًا على حجم المكان الصغير للغاية, وبلغ عدد المشاركين في العرض 4 أشخاص, ثلاثة ممثلين ومنفذ إضاءة

بعد أن قدم المخرج الكبير (فاضل الجزيري) مختارات من عرضه الشهير والممتع (الحضرة) الذي اشترت حق توزيعه شركة (يونفرسال العالمية), كان لابد أن يكون هذا الجو الروحي المفعم بأريج الأولياء والأقطاب سيدي (بلحسن) وسيدي (محرز), وسيدي (سلومة), والسيدة (المنوبية) و(بن عيسى) وفارس بغداد (الجيلاني) يحمل وراءه حدثًا كبيرً. ولم يكن هذا الحدث سوى تكريم عدد من المسرحيين والنقاد من جميع أنحاء المعمورة كان للعرب فيه نصيب الأسد وفي دار (الجنرال حسين) ببطحاء القصر في باب المنارة قلب المدينة العتيقة لبى عدد من المشاركين دعوة رئيس المهرجان, لهذا المكان الذي يحمل دلالات متعددة للدعوة الكريمة حيث إن (الجنرال حسين) كان أحد أهم رؤساء بلدية تونس في عهد المصلح الكبير وأحد معالم نهضة تونس الحديثة (خير الدين باشا التونسي), بدأت المراسم بكلمة ألقاها مدير المهرجان الفنان محمد إدريس, أعقبها توزيع شهادات المشاركة في المهرجان والميداليات على المكرمين, المسرحي الكبير (مسيو بيرينيتي) من فرنسا و(جان جيني) من بوركينا فاسو, ود.عواطف نعيم والفنان الكبير عزيز خيون ود.هيثم عبدالرزاق ود.ماجد السمرائي من العراق, الناقد عبدالغني داود ود.هدى وصفي مديرة مسرح الهناجر وكاتب السطور من مصر بالإضافة لعدة أسماء أخرى ساهمت في إثراء الحركة المسرحية.

 

خالد سليمان 




مشهد من نص (زنديان) المسرحي الذي كتبه وأخرجه نور الدين الورغي والذات المجروحه أمام القهر والعنف في العالم





الأزياء المسرحية كان لها دور بارز في تجسيد بانوراما المسرح العالمي





المزج بين الحاضر والتاريخ كان من التيمات الاساسية في أكثر من عرض بالمهرجان





هوى وطني, نص وإخراج وأداء رجاء بن عمار التي تجسد مرارة وغضب الإنسان المعاصر أمام الأحداث