البندقية قبل أن تغوص في البحر سليمان مظهر
رائعة كعروس في ليلة الزفاف، مضيئة كابتسامة على وجه عذراء، ناعمة كفجر ندي القسمات، متلألئة كنجوم في صفحة السماء، حالمة كجندول ينساب بين حفيف الأنسام، عذبة كلحن سماوي على شفاة ملاك، ساحرة كأسطورة سارحة في الخيلات. ومع ذلك فكم هي حزينة.. البندقية!
أسباب حزنها وآلامها كثيرة بكثرة عدد الدموع. هموم الشيخوخة تملأ وجهها بالتجاعيد. فيضاناتها تنحر منها السواحل وتأكل الواجهات. مناسيب مائها ترتفع لتغرق الميادين والقنوات. حركة مد بحرها تدمر الدروب والممرات. مياهها الجوفية تبتلع الأراضى وتأكل الأساسات. الدخان الأسود والرطوبة الكريهة يغطيان لوحاتها الباهرة وتماثيلها الرائعة. الطحالب البحرية تنتشر على الجدران الطافية فوق الماء. الخط الأخضر يتحرك إلى أعلى بلا هوادة مهددا بأقسى الأخطار. الملوثات الكيميائية ومخلفات البيوت ومعامل التكرير تضيع نقاءها وتسود واجهات قصورها. أبخرة الملوثات السامة والروائح الكريهة تفسد أجواءها. المباني المطلة على القنوات تتخللها المياه فيهجرها السكان. سياحة المجموعات تساعد على تخريبها وتهدد جسورها، حتى الأموال المرصودة لإنقاذها تأكلها البيروقراطية وتبددها الأطماع والأهواء. لهذا كله تبحث البندقية عمن يزيل كربها ويمسح أحزانها قبل أن تبتلعها بحور دموعها وتغوص بها في الأعماق.
المدينة العائمة تنتحر
كانت هذه في الحقيقة هي الصورة التي شاهدناها خلال جولاتنا بين معالم وطرقات وقنوات المدينة العائمة التى كانت ذات يوم عروسا رائعة الجمال، وأصبحت اليوم عجوزا شمطاء، فالنظرة الحزينة في عيون أهلها، تحكي حقيقة المأساة، ونبرة الأسى في أغانيها العاطفية تتحدث عن المدينة العائمة كأنها عاشق ينتحر، ولا يكترث لحال معشوقته بعد أن يطويه العدم. هذه المعشوقة الرائعة التي كانت ذات يوم ملء الأسماع والأبصار، تتلاشى الآن مع الوقت وعوامل الفناء. بحيرة اللاجون الهادئة الرائعة باتت في قرارها مزعجة هائجة ابتلعت على مدار الأعوام الألف الماضية أربعمائة وستين جزيرة من الأربعمائة وتسعين التي كانت موجودة من قبل. القصور بواجهاتها المتلألئة باتت اليوم مثل البيوت الفقيرة في أواخر أيامها. المخازن التي كانت في الماضي أعظم مخازن العالم للسفن، أصبحت الآن عبارة عن جدران سميكة يغطي واجهاتها السواد والعفن الأخضر، وتقوم خلفها برك وأكوام من الألواح الخشبية المهترئة والطوب القديم غير الصالح للاستخدام. التحف الفنية الرائعة التي سرقها التجار البنادقة من كل دول الشرق تم اقتباسها منذ زمن بعيد وبيعت لمدن أخرى كثيرة، المدينة نفسها التي كانت في يوم من الأيام السوق العالمية ومركز التمدن تحولت إلى متحف مثل الكهوف يضم صدى الجلال والروعة وأساطير الماضي البعيد.
وكان هذا ما شاهدناه بالفعل..!
الجلال والروعة اللذان تميزت بهما هذه المدينة التجارية الفريدة، لا يرجعان فحسب إلى عمارتها القوطية والبيزنطية وفنونها التاريخية، ولا إلى ممراتها وقنواتها المائية، بل أيضا إلى التحف واللوحات الفنية والغنائم المسلوبة من مختلف بقاع الشرق والغرب وزخرت بها واجهات المباني وجدران القصور، باعتبارها ملك المدينة. فقد برعت البندقية على مدى تاريخها في اقتباس كل ما يروق لها من مقتنيات الآخرين، فثمة قانون قديم في جمهورية البندقية يلزم كل رحلة بحرية ألا تعود دون أن تكون محملة بتحف ومواد تسهم في تجميل المدينة وزخرفتها، خاصة كنيسة سان مارك وقصر الدوق. وهذا التقليد نفسه اتبعه الحكام والقادة والتجار خلال الرحلات البحرية والغزوات الحربية لتزيين قصورهم التي أصبحت تزخر بمختلف التحف واللوحات وأنماط الزخارف والفنون المعمارية، وهو ما جعل من البندقية متحفا فنيا حيا يسعى إليه السائحون من كل بلاد العالم، كما تتجه إليه أنظار المهتمين بالتاريخ والثقافة والفنون والتراث البشري، لمحاولة إنقاذه قبل أن يبتلعه اليم ويغرقه الطوفان.
الأرض والجذور
هذا المتحف الفني الذي تتهدده الأخطار تشكل على مدى حوالي ألف عام، وامتدت أصوله وجذور سكانه قبل ذلك بعشرات السنين، كما يقول لنا ثروت عكاشة عاشق البندقية الذي شارك في اللجنة الاستشارية الدولية لإنقاذها وكان نائبا لرئيسها.
ففوق قمم مجموعة الجزر الصغيرة الغارقة في أعلى بحر الأدرياتيك حيث ملتقى الحضارتين الرومانية والبيزنطية تقبع مدينة البندقية. وإلى هذه الجزر جاء لاجئون هاربون من سهل فينيتي ومدن ملاماكو ولمبارديا بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين بعد أن داهمتهم جيوش قبائل الهون بقيادة أتيلا، هناك وجدوا ملجأ مليئا بالخصوبة يسكنه بعض الصيادين، فأقاموا لأنفسهم أكواخا ومراكز سكنية بعيدا عن تسلط الممالك المحيطة. وإذا كانت المنطقة التي شملت هذه الجزر المتناثرة على شاطى الأدرياتيك قد حملت اسم فينيسيا ربما نسبة لأهل فينيتي اللاجئين، فقد ظلت تابعة للإمبراطورية البيزنطية، إلا أنها استطاعت التخلص من هذه الهيمنة في القرن الحادي عشر وتحولت إلى حليف لها مع إقامة علاقات طيبة مع الإمبراطورية الرومانية. ومنذ ذلك الحين أخذ سكان الجزر ينظمون دولتهم ويبنون إمبراطوريتهم الخاصة. وبدأت البندقية تمد نفوذها التجاري على متن أسطول تجاري صمم ليسير نحو الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط وإلى المراكز التجارية الأخرى في طرابلس الغرب والإسكندرية وبيروت وليماسول والقسطنطينية، كما امتدت بغزواتها على الكثير من المدن الممتدة على طول الساحل الأدرياتيكي.
في ظل القوة والنفوذ والسيطرة أقام البنادقة نظافا حكوميا هو خليط من الحكم الأوليجاركي والحكم الجمهوري، حكم القلة المستنيرة والحكم الشعبي البرلماني، ووزعت مسئوليات الحكم بين أعضائها تحت الرئاسة الشرعية للدوق الذي ينالها بالانتخاب لا بالوراثة. كما خضعت الكنيسة للسلطة الدنيوية مما أسفر عن حرية دينية وشعائرية كان لها أثرها في تطوير الفنون ونهضتها. وكانت كل شئون الدولة تقسم بين قصر الدوق ورجال الكنيسة وقيادات الشعب.
خيانة على الطريقة البندقية
في كتابه " قصة الحضارة " نقرأ هذه السطور التي كتبها "ول ديورانت ": بلغت جمهورية البندقية قمتها عام 1203 بتصرف خائن أثبت أنه كان يناسب ذلك الوقت. قبيل ذلك العام كانت الحملة الصليبية الثالثة قد انتهت بالفشل وعجزت عن الاستيلاء على بيت المقدس. ولم يكد البابا أنوسنت الثالث "البريء" يجلس على عرش البابوية في روما حتى أخذ يواصل الدعوة إلى حملة صليبية توجه إلى مصر اعتمادا على سيطرة الإيطاليين على البحر المتوسط، ثم تتخذ مصر- الغنية الخصبة- قاعدة للزحف على بيت المقدس. ووافقت البندقية بعد مساومات طويلة على أن تعد ما يلزم لنقل 4500 من الفرسان والخيول و 9000 من أتباعهم وعشرين ألفا من المشاة وما يكفي هذه القوة من المؤن تسعة شهور، وكان المقابل الذي طلبه دوق البندقية اينريكو دوندولو هو أن يحصل على 85 ألف مارك من الفضة، وعرض الدوق أن يمد الحملة بخمسين سفينة حربية بشرط أن تنال جمهورية البندقية نصف الغنائم الحربية. ولأن البنادقة لم يكن في عزمهم ولا في صالحهم الهجوم على مصر التي يكسبون منها الملايين في كل عام بما ينقلونه إليها من الخشب والحديد والسلاح، فقد عقدوا حلفا لمريا مع سلطان مصر يضمنون بمقتضاه سلامة بلاده من الغزو، وحصلوا مقابل ذلك على رشوة كبيرة نظير تحويل الحملة الصليبية عن بيت المقدس. وحانت الفرصة أمام الدوق ليحول خط سير الحملة حين عجز القائمون عليها عن جمع مبلغ 85 ألف مارك الواجب أداؤه للبندقية تنفيذا للشروط المتفق عليها، ونقص المبلغ المتجمع حوالي أربعة وثلاثين ألف مارك، عندئذ عرض الدوق أن ينزل عن المبلغ الباقي إذا ساعد الصليبيون مدينة البندقية على فتح مدينة زأرا أهم ثغور الأدرياتيكي والمنافسة لها في تجارتها والتي كانت قد تخلصت من التبعية لها. هاجر الأسطولان المتحدان مدينة زارا واستوليا عليها بعد خمسة ايام، وقسم الفاتحون الغنائم فيما بينهم. واستطاع الدوق أن يغري رجال الحملة بإغراءات الذهب ليحولوا اتجاههم إلى القسطنطينية أغنى مدن ذلك الوقت قبل الذهاب إلى مصر وبيت المقدس.
الغنيمة والكنز الكبير
أقلع الأسطول العظيم المكون من 480 سفينة في أول أكتوبر 1202 وسط مظاهر التهليل حتى من القساوسة الواقفين عند أبراج السفن الحربية لمهاجمة القسطنطينية، وانقض الصليبيون الكاثوليك على أسوار المدينة الأرثوذكسية الغنية في أسبوع عيد الفصح، وأتوا فيها من ضروب السلب والنهب ما لم يقف عند حد. ووزع الأشراف القصور فيما بينهم واستولوا على ما وجدوه فيها من الكنوز ويصف "ول ديورانت" في "قصة الحضارة" ما حدث فيقول: "كان البنادقة وهم الذين يألفون المدينة التي كثيرا ما رحبت بهم تجارا، ويعرفون أين توجد أعظم كنوزها، قد استعانوا بذكائهم الفائق على أعمال التلصص، وامتدت أيديهم إلى التماثيل والتحف والأقمشة والجواهر، ونقلت الجياد الأربعة البرونزية التي كانت تطل على المدينة اليونانية فجملوا بها ميدان القديس مرقص. وكانت هذه المسرقات المنظمة مصدر تسعة أعشار مجموعة الفنون والجواهر التي امتازت بها كنوز كنيسة سان مارك على سائر الكنائس".
هذا هو الكنز الكبير الذي ازينت به كنيسة القديس مرقص وساحة سان مارك، القلب النابض الذي يتوسط فينيسيا، حيث وقفنا في إطلالة واسعة ومن حولنا البازيليكا بأبراجها وتحفها من ناحية، وقصر الدوق من ناحية أخرى.
ميدان سان مارك
تحس وأنت واقف وسط الميدان كأنك تطل على مشهد رائع بالغ الجمال، يؤكد بحق ما يعتقده أهل البندقية من أن ميدان سان مارك هو قلب العالم.
هنا تشاهد أكبر تجمع للحمام يمكن أن- تراه يحط حولك، ويطير فيكاد يضرب بجناحيه وجهك، ويحط وقد يكون موقعه كتفك أو كفك إذا كانت مبسوطة بالحبوب له. ويرصد مجلس المدينة ميزانية لإطعام هذا الحمام تعتبر بندا ثابتا في كل ميزانية. ويقدم المجلس "جراية الحمام" مرتين في اليوم، ولكن الحمام لا يكتفي بهذه الوجبات الرسمية لأنه يلتقط رزقه من فوق اكف الصغار والكبار الممتدة إليه بعد أن أصبحت تجارة الحبوب رائجة في هذا الميدان الكبير.
ساحة سان مارك واسعة مفتوحة على السماء تبدو كأنها صممت لتكون قاعة ضخمة للاحتفالات. وقد كانت بالفعل هي التي يتجمع فيها الشعب في المناسبات للإسهام في اتخاذ القرارات التي يعرضها الدوق ورجال الحكومة وقيادات الكنيسة. الميدان عبارة عن مستويات ثلاثة، مرصوف كله بالرخام بما في ذلك أرصفته التي تمتد عليها مقاعد المقاهي والمحلات التي تحيط بالميدان، مشكلة أكبر تجمع تجاري، يذكر بما كانت عليه الساحة الصغرى قبل تنظيمها حيث كانت هي سوق التجارة الرئيسية في المدينة. الأعمدة الذهبية تحيط بالميدان وهي خفاقة بالرايات على طول الأجنحة الثلاثة بمبانيها المتناسقة والتي يعتبر جناحها الثالث أكثرها حداثة، وهو الجناح الذي أمر نابليون بونابرت بإضافته عام 1815 إلى إحدى الكنائس التي يرجع زمن إنشائها إلى فترة حكم الدوقات وإلى الشمال من الميدان يقوم اثنان من أعمال كودوس أحد أشهر المهندسين المعماريين. وأبرز ما يلفت النظر في الميدان برج الأجراس المسمى "الكا مبانللي".
برجا الأجراس والساعة الناقوس
البرد القائم امامنا اقيم منذ اكثر من ألف عام إذ أنشأه دوق بيترو تينوتو بين عامي 888 و 912، ومنذ ذلك الحين استطاع أن يقاوم العواصف والزلازل التي تعاقبت على البندقية مع جهود المهندسين والمرممين الذين تناوبوا على علاجه حتى أنهار فجأة عام 1902 وإن لم يؤثر اضهياره على المباني والآثار المحيطة به. وبعد عشر سنوات احتفل أهالي البندقية بإقامته من جديد على الصورة نفسها التي كان عليها وبالارتفاع نفسه الذي يتيح لمن يصعد إلى شرفته العليا مشاهدة بانوراما كاملة للبندقية كلها.
في الجانب المقابل يقوم برج الساعة الذي شيده حوالي عام 1496 المهندس الفنان كودوس وأقام في قمته ناقوسا ضخما تقرعه مطرقتان برونزيتان في أيدي تمثالين لعملاقين مغربيين. وطوال أربعة قرون كان الناقوس يدق كل ساعة حسبما يشير الوقت، وحين توقفت الحركة الميكانيكية للمطرقتين ضبج الأهالي حتى اضطرت السلطات للإسراع في إصلاحهما لتواصل الساعة دقاتها من جديد.
نشاهد أسفل قمة البرج تمثالا للأسد المجنح رمز المدينة يعلو شرفة في جانبها بابان ينفتحان مع دقات الساعة ليخرج من كل منهما ملاك ينحني أمام تمثال برونزي للعذراء تحمل طفلها يسوع.
ومن التماثيل المثيرة تمثال رباعي يقوم في الركن الخارجي لكنيسة سان مارك وعند مدخل قصر الدوق. التمثال تم اقتباسه من سوريا عام 1256 ويمثل الأباطرة الرومان الأربعة ديوقليد وماكسيميان وفالتريوس وقسطنطين، يحتضنون بعضهم البعض رمزا للإمبراطورية الموحدة، أما الساحة الصغرى التي يطل عليها قصر الدوق والممتدة من واجهة كنيسة سان مارك فيقف على جانبها عمودان أثريان يعلو قمة أحدهما تمثال الأسد المجنح، بينما يعلو قمة العمود الثاني تمثال لسان تيودور، العمودان نقلا أيضا من الشرق إلى فينيسيا عام 1125، بين هذين العمودين كانت تتم عمليات الإعدام ومن أشهرها إعدام أحد نبلاء البندقية المسمى بيترو فازيول فورتاريتو بعد إدانته بتهمة القتل إلا أنه ثبتت براءته بعد ذلك مما دعا المسئولين والأهالي إلى إشعال مصباحين لا ينطفئان أبدا في ذكرى النبيل الشهيد لا المكان نفسه الذي أعدم فيه.
الإعدام والعشاق
في نهاية الساحة الصغرى وأمام العمودين التذكاريين يقوم مرفأ سان مارك على القناة العظمى التي تشق مدينة البندقية حيث تصطف قوارب التاكسي التي يستقلها السائحون ويجدون فيها متعتهم بالتنزه على طول القناة. كما يستلقي موقف الأتوبيس المائي الذي ينقل الركاب من مكان إلى مكان على طول القناة العظمى، على جانب الميناء تستلقي عشرات من قوارب الجندول التي طبعت صورتها في أذهان العالم، وصورت المدينة على أنها مدينة العشق والغرام. يقول لنا مرافقنا وهو يغرينا لركوب الجندول "إنه ليس أجمل للعشق والغرام من جندول يسبح فوق ماء كالزئبق بقوة دفع من سواعد برونزية لشبان ذوي قبعات يزينها شريط أحمر هم بالنسبة لفينيسيا كطابع البريد". وإذ نتأمل الجندول تطوف بنا للحظة موسيقى عبد الوهاب في أغنية الجندول ونتذاكر أحد الزملاء وهو يصف الجندول بأنه "قارب عريض القاع رشيق، خطوطه فرعونية لأنك لاتكاد تجد فارقا بينه وبين ما أستقر فوق جدران معابدنا من مراكب الشراع من ألوف السنين. وفي الجندول قمرة مفروض فيها أن تكون العش الهادئ تخفي العشاق عن عيني النوتي وضربات المجداف". ونتابع السائحين وهم يسرعون إلى قوارب الجندول ليمرق بهم النوتي في الشوارع المائية الضيقة أو يمر بهم من تحت الجسور والكباري الصغيرة التي لا يقل عددها عن أربعمائة جسر.
مار مرقص.. له قصة
سرحتنا مع الجندول تنتهي عندما نسمع الأجراس تنطلق من برج الكامبانيللي تدعونا لزيارة البازيليكا، أو الكنيسة التي اقيمت قبل حوالي ألف عام بعد أن تمت سرقة رفات "مار مرقص" من مدفنه في الإسكندرية لتنقل إلى القبر الذي وضعوه في صدر الكنيسة التي سميت باسمه في موضع القلب من فينيسيا.
حدثنا أحد نواب كنيسة سان مارك ونحن وقوف أمام القبر الخالي للقديس مرقص: الجميع هنا يعرفون حكاية مار مرقص الرسول، فهو أحد أصحاب الأناجيل الأربعة وتلميذ السيد المسيح، ورفيق الرسول بولس والقديس برنابا في أول رحلة تبشيرية لهما. وقد رحل مار مرقص إلى روما برفقة الرسول بطرس واستملى عنه إنجيله الذي عرف بأول الأناجيل الأربعة. وثمة حكاية يروونها: أنه بينما كان يقوم بالدعوة على سواحل البحر الأدرياتيكي هبت عاصفة هوجاء ألجأت السفينة التي كان يستقلها إلى الجزر والبحيرات الشاطئية الواقفة عند رأس البحر، وعندها ظهر ملاك ينبئ مرقص بأن هذا المكان سيشهد ميلاد مدينة عظمى تكرم ذكراه، وهو ما حدث بالفعل.
ورحل القديس مرقص إلى ليبيا موطنه الأصلي حيث قضى بها اثني عشر عاما حاملا الدعوة لينتقل بعدها إلى الإسكندرية حيث أسس بها الكنيسة المسيحية. هناك أستشهد بعد مؤامرة يهودية أوغرت صدر الحاكم الروماني ضده فسحله فوق أحجار الطرق بالإسكندرية، ودفن في كنيسة ظلت قبتها بعد ذلك منازا تهدي بحارة السفن لتجارية وبينهم البحارة البنادقة الذين راحوا يتبركون بها ويذهبون إلى الكنيسة ويصلون عند مقبرة تضم رفات لشهيد تحت الهيكل، ولأنهم كانوا يتناقلون قصة مار مرقص وما تبأ به من قيام مدينتهم البندقية، لم يعد يكفيهم التبرك بمقبرته، فجاءوا ذات ليلة فسرقوا رفات القديس على أحدى سفنهم واتجهوا بها إلى مدينتهم، وقدموا الرفات عام 829 م إلى الحاكم الدوق جوستنيانو بارتسيازيو الذي استقبله بدهشة غامرة وسقط على ركبتيه وهو يقول "هذا صديق بطرس الرسول" ولفوره أمر أن تبنى كنيسة أمام قصره واتخذ شعار القديس "الأسد المجنح" شعارا لدوقيته، وهو الرمز الذي اتخذ بعد ذلك جناحين نظرا إلى أن إنجيل مرقص قد نسب المسيح إلى سبط يهوذا الملكي.
على أنه لم تكد تنقضي بعد ذلك عدة قرون استمرت حتى عام 1969 حتى وافق بابا روما بعد مفاوضات طويلة مع الكنيسة القبطية في مصر على أن يعود الرفات إلى كاتدرائية الأقباط الجديدة حيث نقل في احتفال مهيب واستقر فوق الأرض التي استشهد عليها.
الواجهة وجيادها الأربعة
برغم أن كنيسة القديس مرقص قد خلت الآن من رفاته، إلا أن القبر الرخامي الذي كان وقد أودع فيه لا يزال يحتل مكانه، يتجه إليه آلاف السائحين الذين يقفون أمامه للتبرك بزيارته وهم يرتلون الابتهالات والأدعية.
مبنى الكنيسة الذي أقامه الدوق جوستنيانو عام 829 دمره حريق رهيب بعد مائة عام من إقامته، ولكن أعيد بناؤه بالشكل الحالي بين عامي 1043 و 1071 بأمر من الدوق دومينيكو كانتاريني.
المبنى كما رأيناه تحفة فنية معمارية هي خليط من الطرازين الروماني والبيزنطي، الواجهة الخارجية مصنوعة من الرخام، والأعمدة نقلت من الشرق في أثناء الحملة الصليبية الرابعة، طول الواجهة يبلغ 52 مترا وتشكل الجناح الرابع لميدان سان مارك، وهي مزينة بالفسيفساء الذهبية في جميع طبقاتها، بينما المداخل الخمسة القائمة على الأعمدة الشرقية تسترعي الانتباه بلوحاتها وأفاريزها المذهبة خاصة المدخل الرئيسي الأوسط. بين كل مدخل من المداخل الخمسة نشاهد لوحات فنية من العصر البيزنطي أولها تمثل هرقل في صراعه مع الخنزير البري، والثانية للعذراء مريم، والثالثة لسان جورج، ثم سان ديمتريوس، بينما اللوحة الأخيرة تمئل هرقل والغزال. هذا الطابق الأول محدد من أعلاه بشرفة ذات قضبان تفصلها عن الطابق الثاني الذي يضم عدة أشكال متتابعة ذات طابع قوطي تتوجها خس قباب. الشرفة العليا التي تعلو المدخل الرئيسي نصبت فوقها الجياد البرونزية الأربعة التي تم الاستيلاء عليها من القسطنطينية، ويعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد وتمثل الفن الهلينستي، هذه الجياد الأربعة ظلت قابعة في الشرفة منذ 1250 حتى 1798 حين أخذها نابليون بونابرت ونقلها إلى باريس، إلا أنها أعيدت إلى البندقية مرة أخرى عام 1815. وخلال الحربين العالميتين تم إخفاؤها قبل أن تتعرض بعد ذلك للتدمير أكثر من مرة، وقد استبدلت بها الآن نسخة مقلدة طبق الأصل هي القائمة فوق الشرفة، بينما النسخة الأصلية محفوظة ومعروضة في متحف البازيليكا.
مجمع الفنون الشرقية
الديكور الداخلي للكنيسة هو مزيج من الطرز البيزنطية والقوطية والرومانية مع فنون عصر النهضة والفن الإسلامي. المساحات المشكلة من الفسيفساء تبلغ حوالي أربعة آلاف متر مربع. والمساحات المذهبة على المسطحات فوق الأعمدة جعلت البعض يطلق على الكنيسة اسم البازيليكا الذهبية. اللوحات على الجدران تمثل مشاهد من العهد القديم وقصة حياة السيد المسيح والقديسين. هذه اللوحات مرسومة بأشكال مختلفة وفي أزمنة متعددة، مما جعلها تعكس الأذواق الفنية التي كانت سائدة بين القرنين 11 و14 م.
تتابع الأضواء والظلال في الداخل يثير الإعجاب بالفن البيزنطي، فالضوء ينفذ من خلال لوحات الفسيفساء الملونة التي تغشى الجدران بوميض رجراج سرعان ما يتغير مع تعاقب الأشكال في أثناء رؤيتها. وتتجلى المعادن النفيسة أروع ما تتجلى في لوحة الهيكل الذهبية المسماة بـ "الأدورو" الضخمة المرصعة بالجواهر خلف المذبح وفوق القبر الذي كان يضم رفات القديس مرقص. الذهب هو أساس صياغة اللوحة المرصعة بالفسيفساء والجواهر التي تشع عنها أضواء خافتة كأنها نور القمر الهادئ تلقاء تألق الذهب الذي يحكي أشعة الشمس. وكان الدوقات يضيفون إلى اللوحة جوهرة بعد جوهرة كلما جاءت فرصة لهم. يحيط باللوحة إطار من الميناء المرصع بئمانين "بروش" وجواهر من الماس والفيروز والزمرد والاحجار الكريمة. اللوحة طولها 3 أمتار ونصف وعرضها حوالي متر ونصف المتر، وتعود في أصلها إلى عام 978 عندما أتى بها الدوق بيترو أورسلو من القسطنطينية، وتم ترميمهاعام 1105، ثم عام 1209 عندما أضيفت إليها الجواهر الذهبية والأحجار الكريمة التي جاءت ضمن غنائم الحملة الصليبية الرابعة من قصور القسطنطينية. وفي عام 1345 رصعت اللوحة بمجموعات من الكنوزالشرقية التي جاء بها الدوق أندرياداندولو وهي كلها قليل من كثير مما يزخر به المتحف الخاص بكنوز الكنيسة.
بوابة الورق وقاعات الحكم
القصر الدوقي، أو "قصر الدوق" كما يسمونه، والملاصق لكنيسة سان مارك كان مقر الحكم، وهو يتميز بأنه قمة في الفن والامتزاج المثير بين الزخارف القوطية الدقيقة، والبواكي والشرفات الرشيقة والأحجار المتشابكة والجدران المفتوحة، بالإضافة إلى أقواس تنتمي إلى الفن الإسلامي تبدو متناقضة مع أسلوب عصر النهضة الذي يسيطر على معالم القصر الداخلية.
القصر يعد بواجهتيه الجنوبية والغربية المطلة إحداهما على البحيرة والثانية على الميدان الصغير من أروع ما خلفه عصر النهضة.
ندخل القصر من خلال "بوابة الورق" المحكمة الصنع بزخارفها التي نحتها الأخوان بون عام 1442. في الفناء الداخلي نشهد بئرين برونزيتين من القرن 16، بالإضافة إلى تماثيل رائعة من أعمال المهندس المعماري ريتسو وهو مهندس من فيرونا أدخل نمط عصر النهضة المعماري، وكان هو الذي صمم "سلم الجبابرة"، هذا السلم الضخم يقوم على جانبيه العلويين تمثالان ضخمان لمارس إله الحرب ونبتون إله البحار للمثال سانسوفينو، وهما يرمزان لسيادة البندقية على البر والبحر. بين التمثالين الهائلين كان يتم تتويج الدوق فور انتخابه في حضور أبناء الشعب ورجال الحكم. وكان السفراء وكبار الضيوف يجري استقبالهم في هذا المكان.
وإذا كنا نلتقي في الطابق الأرضي بطراز عصر النهضة، فإننا نجد ما فوقه يبدأ بالطراز القوطي وينتهي بالطراز البيزنطي، فهناك على امتداد الطابق الثاني نجد سلسلة من القاعات المزخرفة بالديكورات الرائعة التي أبدعها كبار فناني البندقية. القاعات تمثل متحفا رائعا لإبداعات الفنانين أهمها قاعة أسد سان مارك بما على جدرانها من لوحات من عمل الفنانين كارباكيو وجيوفاني بلليني وهيروبوش. وفي القاعة المسماة غرفة الأبواب الأربعة نجد لوحات الفسيفساء الملونة للفنان تونيتروتو أبرزها لوحة للدوق جيريماني راكعا أمام الحق. وفي قاعة الجامعة نجد السقف الهائل وقد حلي بلوحة رائعة للفنان فيرونيز، بينما نلتقي في قاعة نواب الشعب بلوحة أخرى للفنان تمثل فينيسيا ملكة البحار. أما القاعة التي كان يجتمع فيها مجلس العشرة فقد أباع لوحاتها الفنان فيرونيز، وفي هذه القاعة كانت تعقد جلسات المحاكمات على الجرائم الكبرى، بينما يفتح باب القاعة على قاعة تسمى لوسوللا. حيث كان المتهمون والمحكوم عليهم ينتظرون إعلانهم بالأحكام الصادرة عليهم لإدانتهم بالتآمر ضد أمن الجمهورية.
الزنازين وجسر التنهدات في نهاية الطابق الثاني نجد أنفسنا وسط سلسلة متتابعة من الزنزانات الضيقة المهملة التي لا ينفذ إليها سوى أقل قدر من الضوء والهواء، وبينها قاعات التعذيب التي تقضي إلى جسر التنهدات الذي نراه في خلفية القصر حيث كان المحكوم عليهم يلتقطون من فتحاته آخر أنسام الحرية وآخر أنفاس الحياة.
ونتذاكر ونحن ندور بين الزنزانات ما قرأناه عن "ول ديورانت" في "قصة الحضارة" حين يقول: "لقد كان القضاة الأربعون المعينون من قبل المجلس الأكبر يحكمون بموجب قوانين واضحة الصياغة تنفذ تنفيذا دقيقا على الخاصة والعامة سواء بسواء. وكان السجين يلقى به في زنزانة انفرادية، وكان الجلد والكي بالنار وبتر الأعضاء وسحل العينين وقطع اللسان ووتهشيم الأطراف عقوبات يقرها القانون. وكان من المستطاع خنق المحكوم عليهم بالإعدام داخل الزنزانات، كما كانوا يغرقون في الماء سرا أو يشنقون في نافذة من نوافذ القصر أو يحرقون وهم مشدودون على عمود الإحراق. أما الذين أرتكبوا جرائم شنيعة أو سرقات من الأماكن المقدسة فكانوا يعذبون بالملاقط التي تحمى في النار حتى تحمر، ثم تجرهم الجياد في شوارع المدينة، ثم تقطع رءوسهم وتمزق أشلاؤهم.
الأسر الكبرى الحاكمة
قال لنا فيتوريو سيرا مؤلف كتاب "كل شيء عن فينيسيا" حين استقبلنا في مكتبه: مع توالي العصور شهدت فينيسيا ألوانا من الازدهار والانكسار في ظل حكومة البندقية التي كانت موضع إعجاب أصدقائها وأعدائها على السواء. وكانت- فضلا عن أسطرلها التجاري الذي يمكن تحويله في وقت الحاجة إلى سفن حربية عمارة بحرية مؤلفة من ثلاث وأربعين سفينة كبرى تساعدها ثلاثمائة سفينة صغرى. وكانت هذه السفن تستخدم في الحروب التي تقوم بها القوات البرية في إيطاليا. وبينما كان غيرها من الدول الإيطالية يستخدم في حروبه جنودا مرتزقة، أنشأت البندقيه لها جيشا مجندا من أهلها المخلصين الأوفياء المدربين على القتال المسلحين بأحدث أنواع البنادق والمدافع.
وكان نظام الحكم يعتمد على الأسر القديمة التي اغتنت من قديم الزمان بالتجارة غنى أصبح مألوفا لديهم. واستطاعت هذه الأسر أن تحدد عضوية المجلس الأكبر فتقصره على الذكور من أبناء الرجال الذي كانوا أعضاء في هذا المجلس مسجلين في كتاب ذهبي. وكان على المجلس أن يختار من بين أعضائه ستين مدعوا ارتفع بعد ذلك إلى 120 يعملون لمدة عام كامل بوصفهم مجلس شيوخ تشريعيا. ويعين المجلس رؤساء المصالح الحكومية الكثيرة العدد الذين تتكون منهم الهيئة الإدارية. ويختار رئيس الهيئة التنفيذية الخاضع لهذا المجلس، وهو الدوق أو الزعيم الذي يتولى رئاسته ورئاسة مجلس الشيوخ ويحتفظ بمنصبه مدى الحياة، إلا إذا رأى المجلس أن يخلعه. ويعاون الدوق في عمله ستة مستشارين يؤلفون معه مجلس السيادة. وكان المجلس الأكبر يختار من بين أعضائه في كل عام هيئة من عشرة أعضاء يكونون لجنة الأمن العام لمواجهة أي مؤامرات داخلية أو خارجية، وكان ينتدب منهم في كل شهر ثلاثة أعضاء ليقوموا بعمل مفتشي الدولة يبحثون بين الأهالي والموظفين عن كل من تشتم فيه رائحة الخطأ أو الخيانة.
القناة الكبرى..شريان الحياة
في ظل نظام الحكم والدستور الموضوع سارت أمور البندقية على طريق الازدهار زمنا طويلا. وكانت العقود الأخيرة من القرن 15 والأولى من القرن 16 أعظم الفترات روعة وأكثرها فخامة في حياة البندقية، فقد كانت تصب في جزائرها مكاسب التجارة العالمية، ولم تنقص هذه المكاسب كثيرا بكشف طريق رأس الرجاء الصالح، فتوجت الجزر بالقصور التي أحاطت بالقناة الكبرى، وامتلات هذه القصور بالمعادن الثمينة والأثاث الغالي الثمن. وزينت النساء بالثياب الفخمة والجواهر الغالية. وأمدت هذه المكاسب طائفة كبيرة من الرسامين بالمال الكثير، وأنفقت الأموال بسخاء على الحفلات الباهرة في القوارب المزدانة بالطنافس، والمواكب المقنعة وخرير الماء المختلط بالموسيقى.
هذه الأنغام والصور الرائعة كانت تحف بنا طوال رحلتنا في التاكسي المائي وهو يقطع بنا مجرى القناة الكبرى شريان البندقية الرئيسي الذي تحف به قصور البندقية التي مازال الكثير منها يحافظ على رونقه وبهائه القديم. هذه القناة التي تقسم البندقية يد شطرين تجري في مجرى نهر تديم وتعلوها قناطر ثلاث، وتتثسعب منها ست وأربعون فناة كالشرايين. وبين بداية القناة الكبرى قرب محطة السكة الحديد عند سان سوسي إلى سان مارك نقطع مسافة أربعة كيلو مترات، ويبلغ عمقها في المتوسط خمسة أمتار ومتوسط اتساعها حوالي خمسين مترا، ويتفرع من القناة الكبرى أزقة وحارات مائية هي شوارع المدينة العائمة التي تربط بين جزرها الصغيرة ومن فوقها قناطر وجسور يبلغ عددها أربعمائة وخمسين جسرا مابين كبير وصغير، يقترب بعضها من بعض ويطلقون عليها أسماء طريفة مثل "جسر المرأة الفاضلة" وجسر "الخشوع" وجسر "الفردوس" وجسر "الملاك"، وأشهرها "جسر التنهدات" الذي سرنا فوقه قبل ذلك ونحن نجوب قصر الدوق وهو المفضي إلى الزنزانات ودهاليز الإعدام.
فنون القصور
طوال مرورنا في مجرى القناة الكبرى كانت تعذب عيوننا على الجانبيين آثار التدمير والتخريب على الجدران المتآكلة في أسفلها وتغطيها الطحالب الخضراء والملوثات، بينما تتخلل المياه سراديب البيوت وطبقاتها السفلى وتغطي الدرجات والمداخل في المباني المتهالكة.
مجرى القناة مزدحم دائما بكل أنواع المواصلات البحرية من سفن بخارية وجناديل وقوارب من كل نوع وصنف، هذا الممر المائي الفريد من نوعه يختنق بالمرور في كثير من الأوقات تماما مثل أي طريق في أي مدينة ساعة الذروة، فالقوارب السريعة تتزاحم مع مراكب البضائع وقوارب البريد وتجار الحليب ومحصلي الديون وجناديل السياح وجناديل التدريب على السباق السنوي في القناة، بالإضافة إلى التاكسيات والأتوبيسات المائية التي تنتقل بين مراسيها عند كل نقطة مهمة على الجانبين.
على جانبي القناة يقوم حوالي مائتي قصر وعشر كنائس كبرى. القصور عبارة عن درر معمارية تنافس في إقامتها كبار الأغنياء من التجار والنبلاء ولا تزال تتسمى بأسمائهم أمثال آل جوستنياني وكنتاريني وجرتي وبرباري ولورندا ومسكاري وفندراميني. بعض هذه القصور نالها البلى وغطاها السواد وأفسدت زينتها الملوثات، ولكن من يراها لا يستطيع إلا أن يتصور العز الذي كانت عليه في أثناء القرنين الخامس عشر والسادس عشر، الواجهات مبنية بالرخام الأبيض والرخام السماقي والسربنتيني، النوافذ قوطية، والعمد من طراز عصر النهضة، والأبواب المحفورة تطل على الماء، والأفنية المختبئة مزدانة بالتماثيل والنافورات والحدائق والمشربيات والقوارير. وهي من الداخل عامرة بجدران مزينة باللوحات والرسوم ومدافئ فخمة، وأثاث مطعم مرصع، وزجاج من صنع مورانو، بالإضافة إلى السجف المصنوعة من نسيج الذهب والفضة، والأطر البرونزية الذهبية أو المشغولة بالميناء أو المعدن المنقوش. واللوحات المنقوشة الغائرة في السقوف والرسوم الجدارية التي صورها فنانون طبقت شهرتهم الآفاق.
لعل أعظم هذه القصور زينة هو ما وقفنا عنده طويلأ: القصر الذهبي "كادورو"، لقد سمي بهذا الاسم لأن صاحبه مارينو كانتاريني أمر بأن يغطي كل إصبع من واجهته الرخامية بالنقوش التي كان معظمها مطليا بالذهب. وأعجب ما نراه في هذا القصر شرفاته وزخارفه القوطية الطراز التي تجعل هذه الواجهة أجمل الواجهات المطلة على القناة. وأبرز هذه الزخارف ما أطلق عليه "الروكوكو البندقي" حيث طغت عليه كل الأشكال العجيبة التي لا تخضع لقاعدة الرصانة القوطية المأثورة، فهي تبدو في انسجام مع الرخام العتيق والنقوش البيزنطية البارزة. أما العرائس التي تحلي سطح القصر وتجمله فصورة أخرى رائعة من الروكوكو البندقي.
ونقرأ ونحن تدور بين قصور القناة سطورا لثروت عكاشة عاشق البندقية عن قصور تحمل ذكريات عظماء مرموقين مثل قصر موتشبينجو نوفو الذي نزل فيه الشاعر لورد بيرون، والذي لا تزال مياه القناة تغمر درجات مدخله وهي ترتطم به. وكان لبيرون في ذلك القصر أحيانا ذكريات غرامية وأراها أخرى مماجنة، تناثرت في ردهاته الفسيحة شتى التحف الفنية التي جمعها من هنا ومن هناك، وأعد في فنائه مكانا يربي فيه دبا ونسانيس. ومن وراء القصر زقاق ضيق كان يسكن أحد بيوته العاشق المعروف كازانوفا الذي نزلنا في الفندق المسمى باسمه، وإلى الخلف من القصر أيضا يقع بيت المصور فيرونيزي الذي نزل فيه الفيلسوف جوردانو برونو، ثم المثال الشهير كانوفا.
مجمع الفنون في الأكاديميا
حدثنا نائب مدير متحف الأكاديميا وهو يرافقنا في جولتنا فقال:
الذين لم تتح لهم متعة المشاهدة الكاملة للوحات الفنية والصور التى أبدعها الفنانون في فينيسيا على مدى العصور، يستطيعون ان يحققوا أمنيتهم عندما يزورون المجمع الفني لمتحف الأكاديميا المطل على القناة الكبرى، فهنا يمكنهم أن يطلعوا على بانوراما شاملة لمعالم النهضة الفنية للتصوير طوال خمسة قرون من القرن 14 حتى القرن 18 م.
قاعات المتحف تعرض مشاهد كاملة لفن التصوير الفينيسي، بدءا من الأعمال التي تمثل روح العصر البيزنطي، هذه الفترة وحتى القرن الرابع عشر معروضة بشكل رائع من خلال نماذج للوحات كاتارينو التي تصور "العذراء على العرش" بخلافور مشاهد- متباينة من أعمال الفنانين تعود إلى عام 1375 مثل "لوحة البشارة" و "القديسون" بريشة لورنزو، وأعمال أخرى لأكوبللو وبيترو. ومن الأعمال الفنية للقرن الخامس عشر تعرض لوحات لبيلليني من بينها "العذراء مع الطفل النائم" و "المادونا بين سانت كاترين والمجدلية"، ولوحة "سانت ارسولا" من أعمال كارباشيو، بالإضافة إلى أعمال أخرى للفنانين فيفاريتي ولالماجنا ولازاروبستياني.
القرن السادس عشر يقدم من خلال أشهر أعمال جيورجيوني مثل "لوحة العاصفة"، وكذلك لوحة "الأتقياء" لتيتيان ولوحة "العشاء الأخير" و "العذراء بين الملائكة" و "وليمة في بيت لاوي" من أعمال فيرونيزي، ولوحة "آدم وحواء" من أعمال تونتريتو، بالإضافة إلى لوحات أخرى من روائع بوكاشنو ولورنزولوتو وباريس بوردون وشيافون وبوردينون.
تقدم فنون القرن السابع عشر من خلال لوحات من إبداع برنارد ستروزي مثل لوحة "الدعوة" ولوحة "الأسطورة" لدومينكو فيني، بينما يمثل القرن الثامن عشر لوحات من أعمال أشهر فناني القرن مثل لوحة "الفيلسوف" لبترولونجي، ولوحة "بائع الحظ" لبيازيتا، ولوحة "وجه شاب" ولوحة ذاتية من أعمال روزالباكارييرا.
التصوير وأمجاد البندقية
الحقيقة أن التصوير كان من أسباب مجد البندقية الفني، وقد اجتمعت عوامل كثيرة جعلت المصورين والرسامين موضع الرعاية الخاصة في المدينة. ويبرر النقاد الفنيون ذلك بأنه كان على الكنيسة أن تقص قصة المسيحية على شعبها الذي لم يكن يعرف القراءة منه إلا عدد قليل، وكانت من أجل ذلك في حاجة إلى الصور والتماثيل ليستبقى بها أثر الكلام السريع الزوال، فكان لابد والحالة هذه أن يكون لكل جيل في الكنائس والأديرة صور للبشارة والميلاد والعبادة، وزيارة العذراء لأليصابات، والمخاض، ومذبحة الأبرياء، والفرار إلى مصر، والتجلي، والعشاء الأخير، والصعود إلى السماء. وكانت الدولة تنافس الكنيسة في البندقية في حبها للصور الجدارية لأن في وسع هذه الصور أن تذكي نار الوطنية والعزة القومية حتى تحتفل بعظمة الحكومة ومواكبها وانتصاراتها في ميدان التجارة أو الحرب. وكانت الجماعات المختلفة تطلب هي الأخرى صورا جدارية لتخليد ذكرى مواكبها السنوية وأمجاد أجدادها. وكان الأغنياء يطلبون صورا للمناظر الخارجية الجميلة أو مناظر العشق داخل البيوت ترسم لهم على جدران القصور، وكانوا يجلسون أمام المصورين ليرسموا لهم صورا يخدعون بها ساعة من الزمان مجدهم السريع الزوال، وكان مجلس السيادة يطلب صورة لكل دوق يتولى الحكم. وحتى النواب القائمون بالعمل في كنيسة سان مارك عملوا على حفظ ملامحهم للخلف الذي لا يعنى بهم، ولهذا كله كانت البندقية هي المدينة التي انتشرت فيها الصور الملونة الثابتة أوسع انتشار. وقد وجد البنادقة في التصوير الملون وسيلة لنقل الألوان والحياة التى تعلموا الافتتان بها. وربما كان بعض هذا الولع بالألوان قد جاء إلى البندقية من بلاد الشرق مع التجار الذين استوردوا الأفكار والأذواق الشرقية مع ما استوردوا من بضائع، ونقلوا عنهم ذكريات للقرميد البراق والقباب المذهبة، وعرضوا في الأسواق والبيوت حرير الشرق وطيلسانه ومخمله وديباجه وأقمشته المنسوجة من خيوط الذهب والفضة. كذلك كان لانتصارات جيوش البندقية وأسا طيلها وتغلبها ببسالة على خطر الخراب المحدق بها ما أثار خيال أنصار الفن والمصورين وكبرياءهم فخلدوا ذلك الفن، وأدرك ذوو الثراء أن المال لا قيمة له إلا إذا استطاعوا أن يحولوه إلى صلاح أو جمال أو ذكريات.
شارع المال في ريالتو
قال لنا فيتوريو رينو مدير معرض التحف الزجاجية وهو يدوربنا في أنحاء معرضه في جزيرة مورانو: لقد أدرك أهل البندقية طويلا أن مدينتهم متحف يضم مختلف أنواع الفنون، فأصبحوا خبراء في تحصيل أقصى درجة من الربح والفائدة من السائحين الذين يفدون كل صيف، وبعد أن كانت البندقية تعرف في الماضي بـ "إمبراطورية البهارات" أصبحت اليوم تغرق العالم بنماذج الفنون من القبعات القش والجناديل الذهبية الصغيرة ونماذج الكنائس والقصور التي بها ساعات موسيقية من الداخل، كما أصبحت مصدر، لتصدير أنواع الزجاج والبللور المصنوع في جزيرتي مورانو وبورانو حيث تشاهدون هنا في مصانعها ومعارضها الطريقة الرائعة لنفخ الزجاج الملون ذي الشهرة العالمية الواسعة كتحف لا مثيل لها في العالم.
وقد أدرك الفينيسيون دائما أن فرصتهم الوحيدة للبقاء هي التجارة. وفي مكانهم المثالي في منتصف الطرق في أوربا، لم يعملوا فقط كتجار، بل عملوا أيضا كوسطاء لحل الخلافات والمنازعات، بالإضافة إلى دخولهم في كثير من الصراعات من أجل فرض سيطرتهم على أي مكان يسهل لهم العمليات التجارية والتقدم الاقتصادي. وبالرغم من أنها كانت تحارب تحت شعار الاسد المجنح لسان مارك الذي يرمز للكاثوليكية إلا أنها سمحت لجميع العقائد بأن تعيش على ظهر مياهها وجزرها.
وكما حكم المال فينيسيا في الخارج فقد حكمها في الداخل أيضا، ويذهب الفينيسي مرة واحدة على الأقل في اليوم إلى "ريالتو" المنطقة المحيطة بالجسر الشهير المقام فوق القناة الكبرى لزيارة مصرفه للسحب أو الإيداع. فريالتو هو شارع المال الفينيسي مثل "وول ستريت". وحتى الفقراء البنادقة يذهبون إلى ريالتو كل يوم إن لم يكن لأعمال المال والبنوك فعلى الأقل لشراء حوائجهم من محلاته الشهيرة ومن أسواقه التى تبيع كل شىء حتى الفواكه والخضراوات وألعاب الأطفال والأنتيكات. وفي ريالتو عاش شايلوك اليهودي الذي اشتهر باسم "تاجر البندقية" كما وجد شكسبير في المنطقة نفسها ديزمونا زوجة عطيل، وهنا أيضا عاش فاجنر بالقرب من أغاني الجندول التي ألهمته أن يصورها في نفخات مزمار الراعي التي تتصدر الفصل الثالث من أوبرا "تريستان وايزولدا" يحذر بها العاشقين المتناجيين من مباغتة الزوج الملك مارك.
ذروة المأساة
على مدار القرون كانت البندقية عبارة عن كرنفال لا ينتهي، وأغرقت نفسها في بحور الفن، ولقد عاش حب الفن حتى اليوم عن طريق بينالي الفنون ومهرجان أسد فينيسيا السنوي للأفلام.
ولا يكاد يمر أسبوع في فينيسيا إلا ويكون هناك عيد، كل هذه الأعياد والمهرجانات تجري الآن في الوقت الذي يفترض فيه أن تكون فينيسيا مشرفة على الغرق، وبرغم كل لك فلا تزال أوركسترا ميدان سان مارك تعزف موسيقاها، ربما تكون الموسيقى نشازا في بعض الأحيان، وقد تكون مهزوزة في بعض آخر، ولكن السيدة الجميلة لا تزال مصممة على أن ترقص، ولو كانت الرقصة هي الأخيرة قبل أن تلفظ آخر أنفاسها.
هذا التصور في الحقيقة هو ما يملأ قلب سيدة البحار بالرعب بعد أن شهدت بعينيها ذروة المأساة.
وكان الذي حدث شيئا رهيبا مفزعا أثار انتباه العالم. ففي اليوم الرابع من شهر نوفمبر 1966، هبت عاصفة عاتية على بحر الأدرياتيك، وارتفع مد المياه العالية في بحيرة اللاجون المحيطة بالبندقية إلى ارتفاع 1.94 متر فوق مستوى سطح المدينة، واندفعت المياه إلى بقية مناطق المدينة مقتلعة أجزاء من بيوتها، مهدمة جدران قصورها، باعثة بالشقوق في جسورها. كانت سرعة الرياح قد تجاوزت 100 كم/ ساعة وراحت تزأر وهى تدفع المياه من البحر إلى أعماق هذه اللؤلؤة الطبيعية بعد ان ارتفعت الأمواج إلى عدة أمتار، واقتلعت أعمدة الكهرباء والهواتف والغاز، وسقطت المحولات الواحد تلو الآخر، وارتفع منسوب المياه ليخترق السراديب ونوافذ الطوابق الأرضية في بيوت المدينة ومتاجرها ومخازنها وقصورها، واكتسحت المياه الأثاثات المنزلية ومقاعد المقاهي وموائد الباعة وبضائع المحلات والأسواق، وعجز الناس عن الخروج من أماكنهم سواء في البيوت أوالمسارح أو دور السينما أو المقاهي.
وعندما هبط الليل كانت البندقية أشبه بجبانة قبور مظلمة مهجورة عدا أشباح تهوم في الظلمة أو تتحرك في القوارب وعلى قطع الأخشاب التي راحت تنقل الناس بين الأرصفة والميادين، ولم يكن يقطع السكون الرهيب سوى أجراس عربات المطافئ وزئير سيارات الإسعاف.
ولم تكد تنقضي ليلة 5/4 نوفمبر حتى أخذ الفيضان المدمر في الانحسار التدريجي، وبدأت مياه البحيرة تنسحب بدفع الريح المعاكسة لتعود إلى الأدرياتيك من خلال الممرات المائية الثلاثة التي تربط اللاجون بالبحر، ممرات الليدو ومالاماكو وكيوجا.
ساندرد ميكولي أحد أبناء فينيسيا الذين التقينا بهم، قال لنا إنه كتب تقريرا قدمه إلى منظمة اليونسكو وصف فيه صورة المدينة كما كانت عليها صباح الخامس من نوفمبر قال فيه: "كانت السماء لا تزال ملبدة بالغيوم الثقيلة. الشوارع والميادين والأدوار السفلى لأكثر من أربعة آلاف بيت كلها مغطاة بطبقة من الزيت الأسود. الحشائش البحرية العفنة والقاذورات والنفايات من جميع الأنواع التي خرجت من قاع البحيرة احتلت أسطح المدينة بأبشع صور التلوث البيئي، السكون البشع والوجوه الداكنة تطغى على المدينة التي كانت قبل يوم واحد تطفح بالبشر وتضجح بأصوات الموسيقى والغناء. ووقف سكان المدينة على ابواب بيوتهم يترقبون الموقف في ذهول، بينما أطل آخرون من النوافذ في الطوابق العليا يتأملون ما أحدثته الكارثة. كان السوق مقفلا والدكاكين خاوية على عروشها بعد أن سحب الماء في ارتداده ما كان فيها. وبعد أن ساق العديد من التحف الأثرية الرائعة".
الإهمال هو السبب
هذا الحدث الكبير أبرز على السطح فجأة نتائج الإهمال الرسمي والبيروقراطية المكتبية والتسيب الحكومي الذي كانت تعانيه البندقية بعد ضيام استقلالها وسقوطها في تبعية الآخرين. ففي السنوات الخيرة أدى إهمال صيانجة بيوت المدينة وقصورها ومعالمها الأثرية إلى انهيارها. ومن أصل ألف بيت وقصر تاريخي راح أكثر من نصفها يعاني من حالة مزرية أو يواجه أخطا، حقيقية. والشيء نفسه حدث بالنسبة لكنائسها التاريخية التي كانت تبلغ المائتين، وأصبحت البندقية تخسر كل عام حوالي 6% من منحوتاتها و 5%. من رسوماتها الجدارية و 5% من أثاثاتها الفنية و 30%. من لوحاتها. وهي المدينة التي استطاع البنادقة السابقون في ظل الجمهورية المستقلة رعايتها والمحافظة عليها لعدة قرون من خلال القوانين والتشريعات واللوائح الصريحة التي تنفذ بنودها بدقة وصرامة.
أصبح الإهمال يسير بخطى واسعة نحو نهاية بشعة لعروس الأدرياتيك ولؤلؤة اللاجون وسيدة البحار منذ نهايات القرن الثامن عشر، خاصة ابتداء من عام 1797 عندما فقدت استقلالها وغزاها نابليون بونابرت خلال توسعه في إيطاليا. واتفقت فرنسا والنمسا وإيطاليا على إلغاء جمهورية البندقية، وكأن لم يكفها وقوعها في براثن فرنسا فجرى تسليمها للنمسا لتتحول بعد ذلك إلى التبعية الإيطالية لتصبح أحد أقاليمها منذ عام 1866 بعد أن كانت جمهورية مستقلة تسيطر على البر والبحر.
وفقدت البندقية قيمتها كميناء رئيسي بعد أن تحول إلى تريستا، ولم تعد حتى بالنسبة لإيطاليا نفسها أكثر من قطعة غريبة ألصقت بالدولة الإيطالية بالرغم عنها باعتبارها منطقة سياحية فحسب. ولم تهتم بها الحكومة إلا باعتبارها أرضا يمكن استغلالها في الميدان الصناعي، وخطط لها لتقام منطقة صناعية على أرضها في جزيرة جويديكا في قلب المدينة التاريخية، كما أقيمت المصانع على جزيرة سان جورجيو ماجيوري، ثم إلى المنطقة المواجهة لسان مارك لتنشأ فيها محطة للبضائع في السكك الحديدية. وأنشئت بها بعد ذلك ترسانة لصنع السفن وإصلاحها وأقيمت معامل لتكرير البترول زادت من فساد أجوائها وتلوث مياهها.
جهود اليونسكو للإنقاذ
عندما وقعت كارثة 1966 شكلت اليونسكو لجنة دولية استشارية لإنقاذ فينيسيا، اختير رينيه ويج مؤرخ الفن وعالم الجماليات لرئاستها، كما اختير نائبا لرئيس اللجنة الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة المصري، واستمر عمل اللجنة طوال عشر سنوات بجهود حثيثة حتى حدثت خلافات في الرأي بين اللجنة والحكومة الإيطالية فاستقال الرئيس ونائبه، وانتخب لرئاسة اللجنة عام 1978 المؤرخ فون هيروارث. واتخذت اللجنة مقرا لها في دير سان جورجيو الذي تحول إلى مؤسسة ثقافية تحمل اسم الكونت تشيني.
وكان أول اتجاه لنا هو زيارة مقر اللجنة الاستشارية نتساءل عما فعلته لوقف الخطر وما هي إجراءات الإنقاذ التي تمت حتى الآن. ولكننا لم نجد لها وجودا، كل ما وجدناه هو مركز دولي للمعلومات ومعهد لأعمال الترميم والتدريب والصيانة اتخذ مقرا له مكتب اليونسكو.
وهناك عرفنا وسمعنا الكثير.
مشكلات البندقية في الحقيقة قديمة، ولكنها ظلت مهملة لوقت طويل، ولم تنفتح العيون عليها بقوة إلا بعد كارثة فيضان 1966. ففي ذلك الوقت ومع الدراسات المستمرة تذكر الجميع أن ظاهرة ارتفاع المد الكوني سبق أن تحدث عنها باولو دياكونو عام 789 منذ أكثر من اثني عشر قرنا. وبدا الأمر طبيعيا في هذه الظاهرة فالمد الكوني التقليدي يحدث دائما ويسبب ضغطا يدفع إلى ارتفاع منسوب المياه في البحر الأدرياتيكي. وكان المد يرتفع دائما من وقت لآخر تحت أعين أبناء المدينة، لكن ارتفاع منسوب المياه هذه المرة ارتبط بازدياد نسبة ذوبان الجليد في أعالي الجبال. وإذا كان مستوى منسوب المياه يرتفع كل عام في البندقية حوالي 3 ملليمترات، فإن المدينة بالتالي تغرق في البحر بمقدار 30 سنتيمترا كل مائة سنة، وبحساب وحدات القياس نجد أن المياه العالية تضاعفت أخيرا إلى أكثر من ذلك، فقد زادت بنسبة 10 وحدات من عام 1925 إلى عام 1935، ثم بلغت 100 وحدة بين عامي 975 1 و 985 1. وفي عام 1990 وحده ارتفعت إلى 40 وحدة، وهكذا زادت نسبة الهبوط التدريجي للتربة وازداد غوص البندقية مع زيادة سحب المياه الارتوازية من الآبار أسفل المدينة للحصول على مياه الشرب مما ساعد على تحطيم الأبنية الهشة وتدمير أساسات البيوت. ونتج عن هبوط التربة وارتفاع مياه البحر أن أصبحت الفيضانات الموسمية مصدر خطر كبير.
وفي الوقت نفسه كان المد دوما أكثر قسوة وعنفا، وهو يخترق هذه الدروب المفتوحة الأفواه، فيدمر المزيد من الممرات المائية ويشكل خطراً على المدينة التاريخية.
وبشكل متواز أيضا، كانت القنوات تزداد تلوثا وقذارة، ولم يكن يجري إزاحتها أو تنظيفها، أما المجاري التي كانت تعمل بشكل طبيعي منذ قرون عديدة فقد تشتتت في التربة أسفل المدينة. وهكذا اختلفت مخارج المياه المستخدمة من السكان.
ثم هناك التلوث الكيميائي الذي كان القلق منه أقل حدة، فهو من مخلفات الصناعات، وفوسفات الزراعة ونفايات المدينة التي بدأت تتكدس في البحيرات الشاطئية.
سيناريو يثير الأحزان
وعلينا أن نعود بسرعة إلى الماضي لنرى كيف تم هذا السيناريو، ففي عام 1970، وبعد دراسات مستفيضة وأبحاث قامت بها اللجنة الاستشارية الدولية لإنقاذ فينيسيا، تم عقد اتفاق من أربع نقاط بين اليونسكو والحكومة الإيطالية، كان الاتفاق يحدد أربعة أمور محددة:
1 - أن تخص
إيطاليا فينيسيا بتشريع خاص يعتمد على وضعها الراهن.
2- تطبيق هذا
التشريع وتنفيذه يتم بواسطة هيئة عليا.
3- التطبيق الخاص بالتشريع والإنقاذ يتم تمويله في المرحلة
الأولى بتمويل مالي (بضمان الحكومة الإيطالية) بمبلغ 500 مليون دولار.
4- تشكل لجنة من 20 خبيرا عالميا، منهم عشرة تعينهم الحكومة الإيطالية، وعشرة أجانب تعينهم اليونسكو.
ونتساءل: كيف تم تنفيذ هذا الاتفاق أو البروتوكول؟
ونسمع
الإجابة:
أولا: لم يتم عمل تشريع أساسي للمدينة، ولكن صدر قانون
تمويلي يضع فينيسيا بين أيدي السلطة السياسية التي يسميها الإيطاليون "حكم
الحزب".
ثانيا: الهيئة العليا التي عليها أن تتولى تطبيق التشريع المقترح وتنفيذه لم تر النور.
ثالثا: التمويل أو المعونة العالمية بضمان الحكومة الإيطالية تم وضعها في الخزينة الإيطالية، ولم يخصصه لفينيسيا منها إلا النزر القليل بين عامي 1973 و 1984، وقد كشف صحفيان من جريدة الفاينانشيال تايمز ذلك في كتاب قاما بنشره.
رابعا: اللجنة الاستشارية المقترحة من الخبراء العالميين تم دفنها على الطريقة الإيطالية، فقد اجتمعت بهم وزارة الخارجية الإيطالية حوالي أربع مرات فقط قبل أن يسدل عليها تماما ستار النسيان.
ماذا عن فينيسيا المستقبل؟
ولكن هل أسدل الستار حقا؟ الإجابة: ليس بعد.. !، فقد صدر قانونان أحدهما عام 1973 والثاني عام 1984، خصص فيهما من أجل إنقاذ فينيسيا 300.1850 مليار ليرة إيطالية و 9 مليارات فرنك فرنسي، ولكن العوائق الإدارية أو البيروقراطية حالت دون استخدامها، وهناك ما هو أخطر من ذلك، ففي عام 1988 قدمت الحكومة خطة لعشر سنوات لصرف 16,5 مليار ليرة إيطالية من أجل إنشاء فينيسيا جديدة باسم فينيسيا المستقبل على مسافة بعيدة من فينيسيا الحالية باعتبار أن المنطقة الفينيسية مسئولة عن تلوث البحيرة الشاطئية والمدينة.
لكن خزانة الحكومة الإيطالية خاوية، فما كان من الحكومة إلا أن أعلنت أن المشروع قد توقف. وناشد هوجو برجامو عمدة فينيسيا عن الحزب الديمقراطي المسيحي في روما صديقه رئيس الوزراء جوليو أندريوتي لانقاذ الموقف. ولكن شيئا لم يتم رغم أنه وعده بمبلغ 750 مليار ليرة. إن الأمر في الحقيقة يدعو إلى التشاؤم.
حوار المثقفين
في لقاء ضم عددا
من المثقفين من أبناء البندقية دار حوار ساخن، قال كبيرهم وكان أحد المتعاونين مع
اللجنة الاستشارية للإنقاذ: هناك ثلاثة مستويات مسئولة عن إمكان إنقاذ
فينيسيا:
1- الدولة: على أن يملأها الحماس وتطبق القوانين المطلوبة،
خاصة ما يتصل منها بفينيسيا. صحيح أن
المشاعر العامة للإيطاليين أكثر سخونة في الشارع، لكنهم يطلقون على أهل فينيسيا اسم
"النمساويين" كأنهم غرباء وليسوا من بلادهم.
2- السلطات في المدينة: فهذه السلطات مكلفة بالقضاء على تلوث البحيرة، ولكن هناك اتهاما بتبديد 140 مليار ليرة، فضلا عن أن أبناء المدينة ينظرون بازدراء شديد لهذا المبلغ المخصص لإنقاذ، وكأن المدينة المريضة عليها أن تتجرع حبة أسبرين.
3- المجلس المحلي: ولكن هذا المجلس يبدو غير قادر على أن يأخذ مبادرة القرار.
ولكن، ماذا عن
جهود اليونسكو لأنقاذ البندقية؟
الحقيقة هي أنه بفضلها قد تم إنقاذ
وترميم 80 مبنى و 800 عمل فني حتى الآن. والحواجز التي تم إفشاؤها على المداخل الثلاثة للجزر
الشاطئية لا تزال قائمة، كما أن كاسرات الأمواج موجودة في الناحية الأكثر حساسية،
خاصة ناحية مداخل البحيرة الثلاثة، كما أن سخانات المازوت قد تم رفعها مما خفف من التلوث.
أما عن مشروع مدينة فينيسيا الجديدة الذي نبعت فكرته عام 1984، فهو مشروع يعتمد على التمويل المادي. ويمكن أن تشترك فيه بعض المؤسسات الصناعية، ولكن متى؟ هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى جواب.
هل من مجيب؟
ثم، ماذا عن مشكلة السياحة؟ لقد ساعدت سياحة المجموعات على تخريب فينيسيا، فهناك في بعض الأحيان أكثر من مائة ألف سائح يمكن أن يوجدوا في المدينة في اليوم الواحد، لكن كل هذا العدد لا تحتمله الجسور الهشة، كما أن فينيسيا أشبه بصالة عرض، حيث إن 70% من الزوار يصلون في الصباح ويرحلون في المساء. ولاشك أن هذا يستدعي استخدام القنوات والجنادل وسيارات الأجرة والتاكسي المائي. ولاشك أن الصفاء يمكن أن يفقد في مثل هذه الحالات. وذكرى الحفل الغنائي الذي قدمته فرقة بنك فلوبير عام 1989 ليست ببعيدة فقد تزاحم أكئر من 200 ألف عاشق لموسيقى الروك مما شكل عبئا كبيراً على المدينة.
لكن وسط هذه
المخاطر يثور سؤال: هل حقيقة يمكن إنقاذ فينيسيا قبل أن تغرق في البحر؟ ربما، لكن
فينيسيا تحتاج إلى شيء واحد، هو حماية فينيسيا أولا ليطول عمرها قبل ان تغرق في
البحر، فهل من يمد يد العون؟
إن ثروت عكاشة عاشق البندقية الذي
شارك في عمليات إنقاذ المدينة منذ البداية يقول:
"لقد قلت من قبل وما
زلت أقول إن الأفراد مدعوون لإضافة جهد شخمي إلى جهود الحكومات والجمعيات الثقافية
والفنية، فالدعوة إلى هذه المشاركة في إنقاذ البندقية تحمل إثارة حب الجمال في مهج
الأجيال المعاصرة، واجتذاب فكرهم نحو روائع الماضي الجليلة، وإشعال وهج الجمال في
أذهانهم، وفتح عقولهم وقلوبهم على مستقبل يضيف إلى أصالة الماضي قيما ومثلا سامية
متجددة، كما أن تلاقي الأفراد من مختلف بلاد العالم على هدي واحد يبرز القيمة
الكبرى للتواصل الإنساني عبر الفواصل والحدود للتبادل الفني والفكري وللكشف عن
الخبرات والكفاءات القومية المتقوقعة داخل حدود أوطانها المغلقة.
إن الدعوة لا تزال قائمة، ولعل الجهد الذي نقدمه الآن هو بعض من ألوان المشاركة.. نتمنى له النجاح.