فيروز بطلة المسرح الرحباني

فيروز بطلة المسرح الرحباني

لم تشتهر فيروز فقط كمطربة، بل وكممثلة، وبطلة لجميع المسرحيات الرحبانية، ما عدا اثنتين منها قامت ببطولتهما الفنانة صباح.

كان المسرح الرحباني الغنائي، الذي يمكن أن نطلق عليه أيضا اسم المسرح الدرامي والشعري، لأنه يحمل بعض المقومات من هذين النوعين الأساسيين في تشكيل المسرحيات الدرامية المتكاملة، مجالًا واسع المدى يطلق من خلاله الأخوان رحباني موسيقاهما وأفكارهما، كما كان ميدانًا رحبًا لفيروز لتظهر من خلاله مهارتها كممثلة، إلى جانب مهارتها في الغناء.

وقد أعطى انتهاج الأخوين رحباني خط المسرح الغنائي الشامل، في وقت كانا يمتلكان فيه كل مقوماته: الكلمة والموسيقى وصوت فيروز، الأسبقية في الظهور على غيرهما ممن عملوا في هذا المجال في لبنان وفي العالم العربي بشكل عام. وقد فتح ذلك أمامهما آفاق العمل والإبداع، وأعطاهما الحرية القصوى للتعبير في الوسائل الثلاث تلك التي كانت بتصرفهما، فوّلد هذا المسرح الحامل زخمه وقوته من علاقة وثيقة بين الكلمة واللحن، وبين اللحن والصوت، وبين الفكرة والروح، فلم تعد تعرف وأنت تسمع أو تشاهد عملًا رحبانيًا هل الموسيقى هي التي تتولى قيادة العمل إلى القلب والعقل، أم هي الكلمة، أم هو الصوت.

أما بالنسبة إلى فيروز، فقد اكتسبت مع الزمن هالة خاصة بها. فكل ما كُتب عنها ومازال يُكتب يصورها فريدة عصرها بين المطربات. فمنذ أطلّت في بداية الخمسينيات من القرن العشرين بأغنيات مثل: عتاب وراجعة وإلى راعية والروزانا وغيرها، أعلنت نفسها مطربة مغايرة بهوية صوتية متميزة حتى بات يقال: الصوت الفيروزي، عندما يراد الإشارة إلى صوت مخملي دافئ يغور إلى أعماق، ويصعد إلى ذرى، ويتغلغل في شعب القلب، ويتمدد بين الحنايا. صوت لا يؤخذ بالأذن وحدها بل بمجسات الروح.

لن نتحدث عن الصوت الفيروزي، فقد قيل الكثير فيه والتوغل في خصائصه من مهام العارفين في هذا الميدان، إلا أن أثره في النفوس لا يحتاج إلى دلائل وبراهين. سنتحدث إذن في هذه المقالة عن فيروز «البطلة» في المسرحيات الغنائية الرحبانية التي تفوق الأربع والعشرين مسرحية، وقد عرضت على مدى ثلاثين سنة تقريبا على مسارح بيروت والمناطق وفي المهرجانات المحلية والدولية.

بداية من الصعب علينا أن نتخيل المسرح الرحباني من دون فيروز. فقد كانت بطلته الأولى دون منازع، رغم وجود فنانين كبار إلى جانبها كنصري شمس الدين وفيلمون وهبه وانطوان كرباج وغيرهم، إلا أن وجودها كان الأساس والمحور الذي تنعقد حوله تفاصيل العرض. وقد أبدع الأخوان رحباني لفيروز لغة متميزة ومواقف درامية مفصلة على قياسها إلى حد بعيد، إن لم نقل بشكل كامل.

ولم تكن هذه المواقف أو الشخصيات المسرحية التي مثّلتها بسهلة، بل على العكس، كانت تتطلب مهارة ومقدرة كبيرة بحيث إنها كانت تقوم على دعائم ثلاث: الغناء والتمثيل والحضور.

وكما سبق وألمحنا، فالغناء ليس موضوع جدل بالنسبة إلى فيروز، وليس هو في صلب بحثنا. أما التمثيل، فقد كان من أخطر التحديات التي واجهتها فيروز وتواجهها كل مطربة على درجة من الشهرة والنجاح، إذا أرادت أن تتصدى لفن التمثيل المسرحي وتتقمص شخصيات ذات أبعاد درامية غنية ومعقدة، لا أن تكتفي فقط بأداء أغنيات ورقصات ومشاهد استعراضية كما يحصل في المسرحيات التي يسمونها استعراضية. وقد شاهدنا على مسارح العالم وعلى مسارحنا العربية نماذج من هذا اللون المسرحي تؤدي فيه مغنيات معروفات أدوارًا استعراضية غنائية من دون أن يكون للدور هيكل درامي بالمعنى الحرفي للكلمة، وهذا شأنه يسير نسبيًا، أما تقمص الأدوار المعقدة المبنية على نص درامي حقيقي فشأن يختلف. وقد شاهدنا فيروز تؤدي أدوارًا صعبة كدور «غربة» في «جبال الصوان» و«عطر الليل» في «أيام فخر الدين» و«شكيلا الملكة» في «بترا» و«هالة» في «هالة والملك» وغيرها وغيرها أمثال جميع الشخصيات النسائية الأساسية في الأعمال الرحبانية. وكلها نماذج لشخصيات مسرحية مشغولة بانتباه شديد، تتحرك وتتفاعل وفق نص وحبكة، وتحمل في طياتها أبعادًا درامية عميقة، كما تحمل مشاعر وأحاسيس متلونة بين الفرح والحزن والغضب والهم الوجداني، وهذه العناصر كما هو معروف تشكل الدعائم الأساسية في تركيبة الشخصيات الدرامية.

وقد قدّر لي منذ كنت طالبًا للتمثيل في الجامعة اللبنانية، ثم بعد أن تخرجت، أن أقف ممثلا على خشبة المسرح إلى جانب السيدة فيروز. فتحاورت معها، وراقبتها تمثل، وراقبتها عن قصد مني وفضول لمعرفة ما إذا كانت هذه المرأة تستطيع أن تتجلى في فن التمثيل كما تتجلى في فن الغناء. والحق يقال، لقد وجدتها ممثلة حقيقية ذات حضور طاغ، تتلبس الأدوار بصدق وتؤديها بإحساس مرهف، وتعطي الكلمة معناها والحالة الشعورية حرارتها، فهي تسمع للممثلين الذين يحاورونها، وتتفاعل بما يقولون وتقول، وهذا من شروط التمثيل الصحيح، على الرغم من أنه لم يسبق لها أن درست فن التمثيل أو مارسته خارج الدائرة الرحبانية. وعلى الرغم من أن النص الرحباني كان نصًا متنوعًا، فيه الواقعية المباشرة، والمفردات اليومية المأخوذة من لغة الناس، وفيه الشاعرية المرمّزة، وهي تختلف عن اللغة الواقعية وفيه حالات شعورية جيّاشة، سواء في مواقف الحب أو الغضب أو الثورة، وفيه المقطوعات الغنائية التي كانت أحيانا تخرج عن سياق النص، ومع ذلك فقد كانت فيروز تنسجم وتتفاعل مع كل هذه الحالات بمرونة وحذاقة، خاصة إذا علمنا أنها لعبت مختلف أنواع الأدوار من بائعة بندورة في «الشخص» تبيع لتعيل إخوة صغارًا إلى ثائرة بل قائدة ثورة في «جبال الصوان» إلى دور الملكة، مرورًا بأدوار البنت العفريتة واللعوب، أو العائقة الخائبة، أو المصلحة بين المتخاصمين كما في «جسر القمر» وغيرها، وقد كانت في كل ما مثلت قادرة على اكتساب حب الناس وثقتهم، هذه الثقة العمياء التي حمتها من كل نقد سلبي، فقد كان الجمهور يقبل بها تخرج عن سياق التركيبة الدرامية لتؤدي أغنية ما، وكانت تلاقي الترحاب في هذا وذاك، وهذا من غرائب الأمور حقًا أن يكون لفنان هذه الصدقية والمحبة والثقة كما سبق وقلنا، بحيث يستطيع إمالة جمهوره حيث يميل ويبقى متمتعًا بولائه المطلق.

ومما لا شك فيه أن المناخ العام الذي كان الأخوان رحباني يفرضانه في تناغم النص ومضمونه مع الأغنيات والموسيقى بشكل عام، كان يمنح العمل تماسكاً قويًا، فيبدو وحدة منسجمة ومتكاملة لا خلل فيها. لذا كان الجمهور يروح في حال من الاستلاب الجمالي - وليس الاستلاب السلبي الذي يتحدث عنه الكاتب الألماني برشت - استلاب يجعل صاحبه حاضراً لقبول كل المتغيرات والتحولات حتى حدود التواطؤ، ماحضًا الثقة للحضور الفيروزي بنوع من الاستسلام المسبق، فتزاوجت جاذبية فنانة مع جاذبية الكلمة والموسيقى في غلاف درامي ساحر، فبدت المغناة حالة رحبانية بشعاع فيروزي، عرف الرحبانيان كيف يصقلانها كفسحة سحرية في جاذبية امرأة، وامرأة لفرط انثويتها حاضرة بكل رعشات محيطها، تجسّم عاطفة جماعية، تحرك الحلم، وكأنها الأرض لذاكرة الحنين إلى زمن القلب، إلى حالة كأنها في ماضٍ حقيقي، كأنها في حاضر حقيقي ومنجدلة على وطن قد يأتي، على وطن اسمه لبنان.

لغة مناسبة

هذا تأكيد على الأهمية القصوى التي اكتسبتها هذه الفنانة. وهذا يفسر الهالة الخاصة التي لها. من دونها كان المسرح الرحباني ليلبس وجهًا مختلفًا عما هو عليه. ومما لا شك فيه أن الرحبانيين وهما يبنيان مشاهدهما مشهدًا مشهدًا، وأغنياتهما أغنية أغنية، كانا يأخذان بالحسبان بالدرجة الأولى أن لديهما بطلة - امرأة بمواصفاتها الأنثوية ويجب اعطاؤها لغتها المناسبة وألحانها المناسبة وكذلك مواقفها المسرحية المناسبة.

لذلك فرض وجود فيروز بما هي عليه، لغة تتواءم مع شخصية المرأة بشكل خاص، فخفت مشاهد العنف الجسدي إلى درجة كبيرة، خصوصًا عندما هذه تجعلها المشاهد محورًا في الصراع أو خصمًا، هذا الصراع الذي لم يصل مرة إلى مرحلة مواجهة جسدية.

مع أن أسباب الصراع بمعناه السياسي أو العسكري أو العائلي، وحتى الفردي موجودة بكثرة في الأعمال الرحبانية، وغالبًا ما كانت هذه الأسباب قمينة بإحداث انفجار يؤدي إلى حرب أو مبارزة أو تشابك، لكن كانت هذه البطلة تتدخل في الوقت المناسب لتجد الحلول المناسبة وهي حلول سلمية أخلاقية رادعة. فكلمة منها تصلح أكثر الأمور تعقيدًا ونصيحة صغيرة أحيانًا تغيّر، وبشكل مفاجئ، سيرورة الأحداث، وموقف متمرد أو مهدد أحيانا أخرى، يزعزع هيبة الحاكم ويقض مضجعه، وخطبة في مسألة الوطن وضرورة الدفاع عنه، تلهب أحاسيس الشعب وتدفع به إلى اجتراح أعمال بطولية. والعودة إلى النصوص تعطي أفضل الأمثلة عما نقول. فعندما يشتد الصراع في «جسر القمر» ويبلغ العنف ذروته بين أهل الجسر وأهل القاطع نجد البنت المرصودة على الجسر تتدخل كرسولة وتقول لشيخ المشايخ:

يا شيخ المشايخ
رح قلك هالكلمة
صوت المعول أحلى
من رنين السيف
والرضى أحلى من الزعل
والسلام كنز الكنوز..

فيقتنع شيخ المشايخ بهذا الكلام ويدعو على الفور أتباعه للمصالحة مع أهالي الضيعة الأخرى وإطلاق مجاري المياه ليسقوا مزروعاتهم، فيحل السلام ويغني الجميع بهذه المناسبة.

وهكذا، وبهذه البساطة ينهي الرحبانيان أشد أنواع الصراعات المحلية فيمنحان بطلتهما صفة أخلاقية تصالحية بحيث يعود إليها أمر الحل والربط دون اللجوء إلى تفسيرات منطقية.

وفي أمكنة أخرى تقابل الشر والعنف بالحب والتسامح كما فعلت مع هاولو، شرير «الليل والقنديل» عندما حمته من غضب الأهالي خبأته في بيتها فتعجب هذا ويسألها فيما بعد:

هاولو: ليش وقتا هيك منهن حميتيني
منثوره: خفت يوما عليك
هاولو: وما بتعرفيني..
وبقول يمكن بس عرفتيني
ندمت كتير بحيث خبيتيني
منثوره: ندمت؟ لأ فرحت
وزعلت لما رحت..
هاولو: قاعد انا قاعد
محبوس بقبية (جمع قبو)
ما بحب نور الشمس
يوصل عليي
وبيني وبينك ويل
وحيط دمع وليل
منثوره: وبيني وبينك
خيط
بيضل يجمعنا
يقلك تعا معنا
وهدّ هاك الحيط

وهكذا أصرّت هذه الفنانة الطيبة على مواجهة الشر بالسماح واللين كأنها تقوم بتنفيذ وصايا إلهية صريحة. وهي، بلا شك، تشكل، بمعنى من المعاني، خطًا فلسفيًا روحيًا في الأدب الرحباني.

أما في المواقف البطولية والوطنية، فالبطلة الرحبانية تمتلك مفرداتها الخاصة. فإذا تكلمت تتكلم بلغة مشدودة الإيقاع، وبعبارة صيغت بمهارة لتحرك المشاعر، كما واجهت ذلك المتسلط الذي احتل جبال الصوان، أرض أجدادها بالقول:

«الأرض ملك الكل، بس الأرض ما بتساع الظلم والناس، لما بيوقع الظلم بتضيق الأرض».

ثم تحرّض شعبها على المقاومة والصمود وعدم فقدان الأمل:

لا تخافوا ما في حبوس ساع كل الناس
بيعتقلوا كتير بيبقى كتير
وباللي بيبقوا رح منكمل...
هدمت الحروب المدن وعمروها اللي بقيو
استعبدوا الظلاّم الناس وحرورهن اللي بقيو
بدنا نكمل المشوار. قلال؟ يكون
منكمل باللي بقيو..

فكما كانت لغة البطلة الرحبانية في مواقف السلم والمصالحة تمتاز بشفافية مرهفة وعبارات وادعة، كانت لغتها في مواقف التحدي والدفاع عن الحرية والكرامة الوطنية تمتاز بالجدية والصلابة وقوة الإقناع من خلال الحق دائما.

وإن تضمنت الأعمال الرحبانية أحيانًا شخصيات يعتبرها المجتمع خارجة على القانون وعلى النظم الأخلاقية مثل: الحرامي والطايح والمهرّب والخائن، فسرعان ما نرى هذه الشخصيات تعود عن شرها وتتحول إلى شخصيات غير مؤذية ونرى شرّها ورذائلها تتحول ويصبح وجه الشر فيها وجها كاريكاتوريا محببًا كما أسلفنا.

لولو وزيّون

«لولو» هو اسم البطلة في المسرحية التي تحمل اسمها (عرضت على مسرح البيكاديللي في بيروت (1974). اما «زيون» فهو اسم بطلة «ميس الريم» (عرضت على مسرح البيكاديللي أيضًا 1975)

المسرحيتان تنتميان إلى مرحلة كنت قد أسميتها في كتاب: «الاخوان رحباني: الحياة والمسرح - خصائص الكتابة الدرامية» (بيروت 1990) بمرحلة الانتقال إلى المدينة وتصوير مجتمعها في تعقيداته ومثالبه، حيث أصبحنا نجد شخصيات جديدة تنتمي إلى المسرح الرحباني، شخصيات سلطوية وغير سلطوية من تجار وقضاة ورجال بوليس، وقيام محاكم وسهرات عامرة بالرقص والموسيقى الغربية، الأمور التي لم نكن لنراها في أعمال المرحلة الأولى التي كانت مواضيعها تتمحور حول مشاكل القرية اللبنانية في عاداتها وتقاليدها وناسها وكامل تفاصيلها.

وبالطبع فإن الانتقال إلى المدينة يستلزم إنشاء مفردات جديدة لقضايا جديدة. ففي «هالة والملك» (عرضت في مهرجان الأرز وفي مسرح البيكاديللي 1967) التي تعتبر النموذج الأول للانتقال الى المدينة تقول البنت: هالة - وقد مثلت دورها فيروز - إنها تقف للمرة الأولى في ساحة المدينة:

مدري شو بني
مثل العمري سنة
مدري أنا مستوحشة
مدري أنا حزينة
أول مرة بوقف فيها
بساحة المدينة

ثم تروح، في سياق النص تكتشف زيف المدينة وكذبها وتعقيداتها فتطلب من والدها أن يعيدها إلى ضيعتها «درج اللوز» لكن البطلة هنا كانت

لاتزال تلك الفتاة القروية الساذجة التي تطأ قدمها لأول مرة ساحة مدينة. أما «لولو» فهي البنت التي تحيا في المدينة، وقد سجنت ظلمًا لمدة خمسة عشر عامًا، فخرجت من السجن لكي تنتقم من سجّانيها وتهددّهم بالقتل. وهي المرة الأولى التي تقدم فيها البطلة المرأة في المسرح الرحباني على القتل أو على التهديد به.

وقد شكّل هذا الموقف المستجد آنذاك صدمة للجمهور الرحباني، فكيف يمكن لفيروز - وإن كانت تمثل شخصية مسرحية - أن تتحول إلى شخصية قاتلة فيصيب هالتها السلامية شيء من العطب؟ وكيف يمكن القبول بها مجرمة قاتلة؟ وهل يبرّر سجنها ظلمًا مدة خمسة عشر عامًا إقدامها على الانتقام ومعاشرة القبضايات ومماشاتهم؟

للوهلة الأولى نقول: أجل، لأن موقف لولو هو نتيجة سلسلة من المظالم والأخطاء كان قد ارتكبها الملوك والولاة وأهل السلطة من قبل، أي في الأعمال السابقة: في «ناطورة المفاتيح» و«صح النوم» و«الشخص» و«جبال الصوان» وغيرها... وهذا الامتداد الإجرامي الظالم أوصل البطلة الرحبانية إلى السجن. من هنا يبدو خروجها منه لكي تنتقم مبررًا.

ومن ناحية أخرى فضحت مجموعة القوانين المدينية التي فشلت في إرساء دعائم مجتمع جديد قائم على العدالة والمساواة. لذلك حصرت انتقامها تحديدًا بشخصية القاضي وفي القانون والناطق باسمه.

نحتار فعلًا أمام هذه الشخصية الجديدة في المسرح الرحباني. وقد كانت مرحلة تحول فعلًا أن يرمي الرحبانيان بطلتهما في أجواء المدينة، مع إعطائها كل أبعاد الشخصية المدينية، بخلاف ما حصل مع «هالة» كما رأينا في «هالة والملك». وقد اعتبر النقاد وقتئذ أن للعمل محاذيره بالنسبة إلى بطلة (رحبانية) تعودنا عليها خلال ربع قرن وهي تمثل دور الفتاة القروية الطيبة والمرأة الداعية إلى التصالح والسلام والمحبة تتحول إلى بطلة تنتقم بدل أن تصالح، وتهدد بدل أن تعِظ. لذلك تأرجحت شخصيتها كثيرًا في ضمير الناس ومرّت بفترات اختبارية صعبة على الرغم من أنها كانت تحاول أن تستجير بموقف عدالي من وقت لآخر يبرر تصرفاتها، علمًا أن المسرحية تنتهي أخيرًا من دون حصول عملية قتل لأي كان، فبدت هذه الشخصية شخصية تحذيرية، أو هي تدق جرس الإنذار في أي محاولة لفرض الظلم على الناس، هؤلاء الناس الذين كان الأخوان رحباني، عن حق، يحملان همومهم ويعبران بقدر الإمكان عن شكاويتهم وقلقهم.

وإذا كانت «لولو» تهدد بالقتل ولا تقتل فإن «زيّون» ميس الريم تحاول الرجوع إلى القرية فلا تصل.

تحكي «ميس الريم» عن عائلتين تتحكم فيهما خلافات قوية منذ عشرين عامًا بما يحول دون إتمام قصة حب جميلة بين شاب وفتاة، كل واحد منهما ينتمي إلي عائلة من العائلتين.

تصل إلي بلدة ميس الريم فتاة قادمة بسيارتها من المدينة في طريقها إلى ضيعة جدتها كحلون، لكن السيارة تتعطل وسط بلدة ميس الريم ولا تجد «زيّون» من يصلحها لها بسبب الخلاف المتفاقم في البلدة. وهكذا تجد زيون نفسها منغمسة في مشاكل البلدة وتحاول أن تتدخل لحل الخلافات بين أهلها، لكن تدخلها يزيد المشاكل تعقيدًا، فلا تتمكن من إصلاح سيارتها، وبالتالي لا تتمكن من الوصول إلى ضيعة جدتها، كحلون.

تذكرنا القصة لأول وهلة بمسرحية روميو وجولييت لشكسبير حيث يقف الخلاف بين عائلتين حائلًا دون إيصال قصة حب بين اثنين إلى خواتيمها الجميلة. ومن ناحية أخرى تعيد المسرحية إلى ذاكرتنا قصص الخلاف بين العائلات والأهالي التي كنا قد شهدناها في أعمال المرحلة الأولى كما في «جسر القمر» و«موسم العزّ» و«الليل والقنديل» وغيرها..

من هنا كانت العودة إلى القرية من حيث يجب أن تكون. بمعنى آخر، لقد حاول الأخوان رحباني العودة إلى القرية بعد عشر سنوات على عرض «دواليب الهوا» (1965) ليجدوا أنها لا تزال على حالها، خلافات عائلية تقودها وتتفاعل معها الشخصيات نفسها: المختار، الشاويش، القبضايات وغير ذلك..

لقد تمكنت شبكة الخلافات هذه من إرباك زيون البنت التي وصلت وهي ترتدي أجمل الثياب وتضع على رأسها قبعة من ريش النعام الأزرق وتقود سيارة وتعرف عن نفسها:

أنا اسمي زيون
عندي بالمدينة
محل بيع صحون

إنها أصبحت تتعاطى السيجارة، أي أنها أصبحت ذات اهتمامات مركنتيلية تهتم باقتصاد السوق، وبالتالي لم يعد في أول اهتماماتها أن تدعو إلى مصالحة أو توافق بل على العكس فهي تقول:

«بدي خل عقلهن تا يصلحولي العربية» لذلك يتهمها المختار بأنها هي سبب المشاكل وهي عائق أمام المصالحة، وهي عندما تغني في مكان آخر تقول: «يصطفلو شو ما صار يصير خلي هالزير بهالبير» ما يعني أنها لا تأبه لإجراء المصالحة. وهذا في شأنه أن يزيد الحيرة تجاه هذه التصرفات الجديدة للبطلة الرحبانية. فهل أفسدتها حياة المدينة وجعلتها امرأة لامبالية ضعفت لديها الاهتمامات السلمية الوفاقية والحس الاجتماعي والصفات الأخلاقية كما عرفناها في شخصيات سابقة؟ على الرغم انها سعت لإحلال الوفاق بين الشاب العاشق والصبية، فإن ذلك لم يغفر لها تصرفاتها السابقة تمامًا كما لم يسهم موقف «لولو» الوجداني في النهاية بتغيير صورة البنت المنتقمة والداعية إلى القتل.

من خلال هذين العملين يظهر تغيير واضح في شخصية البطلة الرحبانية، التي وإن بدت غير شريرة حتى النهاية، فإنها في الوقت نفسه، ليست داعية سلام ومصالحة حتى النهاية.

هذا لا يعني بالضرورة أن البطلة الرحبانية يجب أن تكون ذات سمة رسولية وتعليمية ليؤدي العمل وظيفته كما يجب. كلا. لكن ما نريد قوله هو تسجيل نوع من التحول في الشخصية الأساسية في المسرح الرحباني، أي في شخصية البطلة التي باتت تملك مفردات جديدة، واهتمامات جديدة. وقد يكون هذا من ضمن محاولات التجديد في المسرح الرحباني الذي لا بد وأن يلحق تأثيره بالدرجة الأولى البطلة الأساسية.

على كل حال «لولو» تسجل رحلة غير مكتملة العناصر إلى المدينة و«ميس الريم» تسجل عودة متأخرة إلى القرية.

وفي ذلك حصل ارتباك شديد في المسرح الرحباني وكأن البوصلة الرحبانية، أو قوة الاستشراف لدى أصحابه، تنبأت بحدوث تحول وارتباك على أرض الوطن تحديدا. وقد حصل هذا الارتباك على صورة حرب أهلية شاملة طالت المدينة والقرية بشظاياها وأعني بها حرب 1975 في لبنان. ولم تنفع كل الدعوات السلامية ولا التحذيرات ولا كلمات الحب وعبارات الأصول في الحفاظ على الأوطان التي طالما نادى بها المسرح الرحباني في لجم الغرائز المتوحشة، فتهشمت صورة الوطن خلف غبار المعارك البربرية التي دامت أكثر من خمسة عشر عامًا والتي تكلم عنها العالم بذهول لا يوصف. على أي حال بالنسبة إلى المسرح الرحباني، فقد أصيب بدوره بهزة عنيفة بعد الفراق الذي حصل بين فيروز وعاصي. بعده صار لزاماًَ الحديث عن مسرح رحباني ما قبل 1975، ومسرح رحباني ما بعد هذا التاريخ.

 

 

نبيل أبومراد