الديموقراطية التزام أخلاقي

مزيد من القراءات.. كي نستنهض الذات

استوقفني مقال الأستاذ تحسين يقين: «دولة الاحتلال الإسرائيلي تغزو الفضاء.. ماذا نحن فاعلون؟»، المنشور بمجلتنا الغراء «العربي»، في عددها: 597 أغسطس 2008م. وموفقا عرض الأستاذ تحسين قضية مهمة وخطيرة، وطرح سؤالاً جوهريًا وحيوياً، ولامس «جرحًا عربيا» عامًا وخاصًا، فتلك «الفجوة العلمية والمعلوماتية والتقنية» بين الكيان الإسرائيلي الغاصب ووطننا العربي هي من أكبر التحديات في إطار صراعنا الوجودي والحدودي والحضاري معه. لقد أثارت المقالة الشجون، واستدعت ملابسات محاولة لكاتب هذه السطور ـ مضى عليها عامان ـ للإشارة إلى تلك الفجوة، وذلك التحدي عبر ورقة: «التحدي العلمي والمعلوماتي والتقني الإسرائيلي: قراءة لاستنهاض الذات»، المنشورة بمجلة الرابطة (الصادرة في السعودية، العدد: 484، سبتمبر 2006م)، وتعميماً للفائدة، نعرض لمُجملها:

- من بين كل ثلاثة إسرائيليين (عدد سكانها 6.86 مليون نسمة)، يوجد طالب في درسه النظامي.

- في الاقتصادات المتقدمة (يعدون منها دولة الاحتلال الإسرائيلي) تصل نسبة الإنفاق على التعليم إلى الناتج القومي الإجمالي 5.2%، بينما في الدول النامية 3.9% على اختلاف الناتج القومي بينهما. بينما في مصر فإن نسبة الإنفاق على التعليم إلى الناتج القومي الإجمالي 4.9% في 1987/ 1989م وهي في انخفاض، في حين كانت نسبة الإنفاق على التسليح ما يعادل 135% مما اُنفق على التعليم والصحة معا (التقرير الإستراتيجي لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية للعام 1986م، ص 417). وتُـقدر كلفة التعليم على مستوى العالم العربي عام 2015م بـ 154 مليار دولار أمريكي، ونصيب التلميذ في الدول المنخفضة الدخل (ومنها أغلبية الدول العربية والإسلامية) من الموازنة العامة 29 دولارا في العام 1987م، بينما نصيب نظيره في دولة الاحتلال الإسرائيلي 2000 دولار سنوياً. وليس ثمة تقدم علمي بلا إنفاق سخي.. فهل من سبيل لإعادة التوازن في الإنفاق على العملية التعليمية والعلمية والبحثية؟

- كفاءة الجامعات وتطورها رهن بقدرتها على إقامة شبكة علاقات علمية تبادلية مع الجامعات العريقة الأخرى، وترتبط الجامعات ومراكز البحوث الإسرائيلية بالشبكة الوطنية الأمريكية للمعلومات NATIS، التي تضم أهم المعلومات العلمية الأمريكية وأكثرها حساسية. في حين تميل معظم اتفاقيات التعاون العلمي بين الجامعات العربية إلى كفة الجامعات الغربية.

- يأتي الكيان الإسرائيلي بعد اليابان في نسبة العلماء والتقنيين إلى إجمالي السكان (النسبة في العالم المتقدم ما بين 4500 - 8200 باحث/ مليون)، شهد العام 2000م هجرة نحو 32 ألف عربي من حملة الدكتوراه إلى الغرب، ويستمر تكريس «استنزاف» العقول العربية عبر سن تشريعات تنظم تسهيل هجرة الكفاءات وذوي المهارات المفضلة لدى الغرب.

- النشر العلمي والمساهمات البحثية تعكس مستوى التقدم العلمي والتواصل والتراكم المعرفي، وخلال السنوات الخمس الأخيرة تم نشر نحو 3.5 مليون ورقة بحث علمي على مستوى العالم، كان نصيب الاتحاد الأوربي منها37 %، والولايات المتحدة 34%، ودول أسيا والمحيط الهادي 21%، ولقد نشرت الهند وحدها ما نسبته 2.2%، وبعدها جاءت دولة الاحتلال الإسرائيلي بنسبة 1.3% من إجمالي هذه الأبحاث العلمية. وبالمقابل نشر العالم العربي ما بين صفر إلى 0.3% (افتتاحية مجلة العربي، العدد:566، يناير 2006م).

- المنظمات العلمية الدولية ترى الدول العربية «جائعة معلوماتياً» في حين تصف دولة الاحتلال الإسرائيلي بأنها «نهمة تكنولوجياً»، وهى تصدر ما يقارب 65% من إجمالي صادراتها على هيئة تقنيات راقية، ولديها 12 ألف متخصص في مجال المعلوماتية.

- ومع عدد سكانها الصغير نسبيا، تأتى دولة الاحتلال الإسرائيلي في المرتبة العشرين على مستوى العالم فيما يخص عدد المواقع على شبكة الإنترنت، ويضاهي عدد مواقعها تلك إجمالي عدد مواقع الدول العربية مجتمعة.

- ربطت دولة الاحتلال الإسرائيلي الصناعات التكنولوجية المتطورة لديها بالمراكز المتقدمة في الولايات المتحدة من خلال سلسة من الاتفاقيات الإستراتيجية التجارية والعسكرية مما أتاح لها: إنشاء منطقة للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة لرفع قدرتها التصديرية،

- وفى حين لا تتعدى نسبة استغلالنا لشبكات القمر الاصطناعي العربي «عربسات ـ 2» 28% (سعد شعبان: القمر العربي الثالث في الفضاء، مجلة العربي، العدد: 401 أبريل 1992م)، أطلقت دولة الاحتلال الإسرائيلي قمرها التجريبي أفق -1 عام 1988م، ثم في العام 1990م أفق - 2 لأغراض الاستطلاع والتجسس العسكري، وفى العام 1996م أطلقت أول قمر اصطناعي للاتصالات ليغطى الشرق الأوسط ووسط أوربا.

- تؤكد هذه السطور وسواها على ما جاء بمقال الأستاذ تحسين، - وبعيدا عن التفسير التآمري - من أن الدول الغربية أبقت - ومازالت - على تلك الفجوة العلمية والمعلوماتية والتقنية بين الدولة العبرية والدول العربية. وهي «ملتزمة» بضمان «بقاء وأمن وتفوق» الكيان الإسرائيلي، وتضع العراقيل أمام مشروعات نهوض الأمة العربية، وتستنزف خبراتها وكفاءاتها، بينما تنقل إلى أسواقنا «زَبَد» التقنية دون بنيتها التحتية ومناخها العلمي والبحثي.

خلاصة القول: آن وقت الفزع من تلك الفجوة، وذاك التحدي، فإذا كان الجدل حول الصراع العربي - الإسرائيلي: صراع «حدود»، أم «وجود»، وإذا كان الكيان الإسرائيلي يحصر نفسه خلف «جدار الفصل العنصري»، قد تبدو لغة الأرقام لغةً جافة ومؤلمة، بيد أن مؤشراتها الجادة تلح علينا في أن نقف معها وقفة متأنية، لنعيد حسابات واقعنا، ولنحسن اتخاذ القرارات من أجل إصلاح سياساتنا العلمية والتعليمية والتربوية والمعلوماتية والتقنية. لذا فإلى مزيد من مثل هذه القراءات كي نستنهض الذات.

د. ناصر أحمد سنه
مصر