مصير مكتبة الإسكندرية القديمة

مصير مكتبة الإسكندرية القديمة

قرأت في عدد مجلة (العربي) رقم (556) مارس 2005 مقالاً للدكتور قاسم عبده قاسم تحت عنوان (مكتبة الإسكندرية القديمة... ما المصير?), ويحمد للمؤلف التحقيق القيم الذي عرضه في شأن تبرئة الفاتحين المسلمين من جريمة حرق المكتبة, وقد وجه الاتهام إلى غيرهم بقوله: (تعرضت مكتبة الإسكندرية لحريق جزئي أثناء حملة يوليوس قيصر على الإسكندرية, لأن النيران التي اندلعت في السفن الراسية بالميناء امتدت إلى بعض أجزاء المكتبة, ولكن المكتبة ظلت تعمل بعد ذلك, بدليل أن إسترابون الذي زارها بعد سنين عدة وصف الأنشطة والحياة داخلها, ثم تعرضت المكتبة لحريق يبدو أنه كان مدمّرًا بحيث وضع نهايتها المأساوية أثناء حوادث الشغب, التي قام بها المسيحيون في الإسكندرية أواخر القرن الرابع الميلادي ضد الوثنية ورموزها, وكانت مكتبة الإسكندرية من بينها بطيبعة الحال).

أما فيما يتعلق بجزئية توريط المسلمين في جريمة الحريق وتدمير المكتبة, فأضف إلى ما ذكره الكاتب التحقيق المهم المقنع الذي استوفى هذا الموضوع حقه, في مؤلف أستاذنا العقاد (عبقرية عمر) ولعموم الفائدة أسوق ما سطره المغفور له العقاد قال:

إن (عمر) كان من نخبة المثقفين في العربية, وكان وافر السّهم في ثقافة قومه وعصره. وكان الجانب العملي من ثقافته أغلب وأظهر من جوانبها النظرية كما هو المعهود في ساسة الأمم وعواهل الدول. وإن كان هذا لا يمنع أنه اشتاق إلى نفائس الشعر وأطايب الأدب لما يجده من راحة النفس ومتعة الخاطر.

ويستطرد بنا الكلام على ثقافته العربية إلى الكلام على موقفه من الثقافات الأخرى في زمانه, وعلى حقيقة الرواية, التي شاعت وتواترت عن موقفه من مكتبة الإسكندرية التي قيل إنه أمر بإحراقها. فهل هو الآمر بإحراقها كما جاء في تلك الرواية? وإذا كان هو الآمر بذلك, فما دلالته على تفكيره? وما وجه التبعة فيه? فحوى تلك الرواية أن عمروبن العاص رفع إليه خبر المكتبة الكبرى في الإسكندرية, فجاءه الجواب منه بما نصه: (أما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله, ففي كتاب الله عنه غنى, وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله, فلا حاجة إليه, فتقدم بإعدامها). قال مفصل هذه الرواية: فوزّعت الكتب على أربعة آلاف حمام بالمدينة, ومضت ستة أشهر قبل أن تُستنفد لكثرتها!

وأحرى شيء أن يلاحظ في مسألة المكتبة هذه أن الذين دحضوها وأبرأوا عمر من تبعتها كان معظمهم من مؤرخي الأوربيين الذين لا يتهمون بالتشيع للمسلمين, وكانوا جميعًا من الثقات الذين يؤخذ بنتائج بحثهم في هذا الموضوع.

فالمؤرخ الإنجليزي الكبير إدوارد جيبون صاحب كتاب الدولة الرومانية في انحدارها وسقوطها يسرد الحكاية, ويعقب عليها قائلاً: (أما أنا من جانبي فإنني شديد الميل إلى إنكار الحادثة وتوابعها على السواء. لأن الحادثة لعجيبة في الحق كما يقول مؤرخها إذ يسألنا هو أن نسمع ما جرى ونعجب!

والدكتور الفرد بتلر المؤرخ الإنجليزي الذي أسهب في تاريخ فتح العرب لمصر والإسكندرية يلخص الحكاية وينقضها ابتداء لأن حنا فلبيوتوس الذي قيل إنه خاطب عمرو بن العاص في أمر المكتبة لم يكن حيًا في أيام فتح العرب لمصر. ثم ينقضها لأسباب شتى, منها أن كثيرًا من كتب القرن السابع كانت من الرق (جلد رقيق يكتب فيه), وهو لا يصلح للوقود, وأنها لو قضى الخليفة بإحراقها لأحرقت في مكانها, ولم يتجشموا نقلها إلى الحمامات مع ما فيه من التعب, ومنع إمكان شرائها من الحمامات بعد ذلك بأبخس الأثمان. وأننا لو صرفنا النظر عن الكتب المخطوطة على الرق, لما كفى الباقي من ذخائر المكتبة لوقود أربعة آلاف حمام مائة وثمانين يومًا, وهذا عدا الشك الذي يعتور القصة من تأخر كتابتها زهاء خمسة قرون ونصف قرن بعد فتح الإسكندرية. ثم كتابتها بعد ذلك خلوًا من المصادر والإسناد, بل هذا عدا ما قيل من احتراق المكتبة في السنة الثامنة والأربعين للميلاد, وفيما تلا ذلك من الفتن والقلاقل بين طوائف المسيحيين.

والمستشرق كازانوفا يسمى الحكاية أسطورة ويقول إنها نشأت بعد تاريخ الحادثة بستة قرون, وينقضها لمثل الأسباب التي لخصناها من كتاب بتلر, ثم يقول: (...وهناك اعتراض أخطر مما تقدم وهو أن ما ذكر عن يحيى النحوي منقول عن كتاب الفهرست لابن النديم في أواخر القرن العاشر, وفيه أن يحيى هذا عاش حتى فتحت مصر, وكان مقربًا من عمرو, ولم يذكر شيئًا عن مكتبة الإسكندرية, فحادثة المكتبة - إذن - من أوهام ابن القفطي أخذها عن خرافة كانت شائعة في عصره).

ومن المشارقة الذين تناولوا حكاية المكتبة المؤرخ الكبير جرجي زيدان في الجزء الثالث من كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي), حيث قال إنه كان يميل إلى نفي الحكاية, ثم عدل عن ميله هذا إلى قبولها, وأورد من أسباب ذلك (أن حكاية إحراق مكتبة الإسكندرية لم يختلقها أبو الفرج لتعصب ديني, ولا دسها أحد بعده, بل هو نقلها عن ابن القفطي وهو قاض من قضاة المسلمين عالم بالفقه والحديث وعلوم القرآن واللغة والنحو والأصول والمنطق والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل, وكان صدرًا محتشمًا جمع من الكتب ما لا يوصف, وكانوا يحملونه إليه من الآفاق, وكانت مكتبته تساوي خمسين ألف دينار, ولم يكن يحب من الدنيا سواها, وله حكايات غريبة عن غرامه بالكتب, ولم يخلف ولدًا, فأوصى بمكتبته لناصر الدولة صاحب حلب, وله مؤلفات عدة في التاريخ والنحو واللغة, وفي جملتها كتاب أخبار مصر من ابتدائها إلى أيام صلاح الدين في ستة مجلدات, وكتاب تراجم الحكماء الذي نحن في صدده, وأن ابن القفطي وعبداللطيف البغدادي أخذا عن مصدر ضائع. وأما خلو كتب الفتح من ذكر هذه الحادثة, فلابد له من سبب, والغالب أنهم ذكروها ثم حُذفت بعد نضج التمدن الإسلامي واشتغال المسلمين بالعلم ومعرفتهم قدر الكتب, فاستبعدوا حدوث ذلك في عصر الخلفاء الراشدين فحذفوه, أو لعل لذلك سببًا آخر, وفي كل حال, فقد ترجح عندنا صدق رواية أبي الفرج..).

ونرى نحن أن ابن القفطي كان أولى ممن تقدموه بالسكوت عن حريق المكتبة بأمر عمر بن الخطاب لو كان الذين تقدموه قد سكتوا عنه لعرفانهم قدر الكتب وغيرتهم على سمعة الخلفاء الراشدين, فإن ابن القفطي لا يجهل قدر الكتب ولا يسبقه سابق من المؤرخين في المغالاة بنفاسة المكتبات. فلابد من تعليل أصوب من هذا التعليل لسكوت المؤرخين المسلمين والمسيحيين الذين شهدوا فتح مصر عن هذه الحكاية, إلى أن نجمت بعد بضعة قرون.

فمن جملة هذا العرض لآراء نخب من الثقات في هذه المسألة يحق لنا أن نعتقد أن كذب الحكاية أرجح من صدقها, وأنها موضوعة في القرن الذي كتب فيه ولم تتصل بالأزمنة السابقة له بسند صحيح, وربما كانت مدسوسة على الرواة المتأخرين للتشهير بالخليفة المسلم, وتسجيل التعصب الذميم عليه وعلى الإسلام.

وإذا كانت هذه الحكاية من تلفيق النيات السيئة, فالمعقول ألا توضع قبل القرن السادس الهجري الذي تسربت فيه إلى الكتب المدوّنة, وهذا يفسر لنا كل غموض يستوقف النظر في الحكاية من جميع أطرافها, لأن تلفيق هذه الحكاية يستلزم عناصر شتى لا تجتمع كلها في وقت واحد قبل القرن السادس للهجرة.

عل أي فرض من الفروض, لا يجوز لمنصف أن يتهم عمر بأنه كان عدوًا للثقافة وهو الأديب الفقيه الخطيب, الذي وازن بين معرفة ظاهرة النفع, ومعرفة مجهولة, ظواهرها كلها تغري باتهامها.

د. رضا عبدالحكيم رضوان
الزقازيق - مصر