ماذا بين ابن تيمية وابن بطوطة?

ماذا بين ابن تيمية وابن بطوطة?

كتب الدكتور نواف عبدالعزيز الجحمة, في باب (أدب) من العدد (552) نوفمبر 2004 من مجلة (العربي), مقالاً موسومًا: صورة الآخر في رحلة ابن بطوطة (ص 90), ولم يلمح إلى التقاء ابن بطوطة بالشيخ ابن تيمية - رحمة الله عليه -.

ثم جاء العدد الذي يليه من (العربي) الوضّاءة, ليطل علينا المؤرخ المغربي الدكتور عبدالهادي التازي بمقال - سؤال: هل التقى ابن تيمية وابن بطوطة? إن التازي لكالذي يضع أمانة في أعناق قرّاء مقاله بعدم جواز إهمال معلومات رحلة ابن بطوطة, ويشدّد على أن الهدف, يبقى دائمًا, البحث عن الحقيقة!

إن سؤال المؤرخ التازي, خليق باللسان النضناض الذي يبحث في تضاعيف الحقائق لإزالة الازدحام من تعاضل الكلام في جواب تبردُ في ثناياه القلوب الوامقة, وتطمئن النفوس المتحرّقة.

أما أولاً: فإن شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ممن لا يُجهل مكانه من التقوى والورع في الدين, فلا يمكن الظن به مما هو منه براء, وما بينه وبين التقوّلات عليه, سبل وعرة وأرض عراء.

وأما ثانيًا: فلقد تساءل العلامة عبدالوهاب عزام عن إدراك ابن بطوطة لشيخ الإسلام, في عام 1939, ونحن نعلم أن عزامًا أستاذ جامعة فؤاد الأول وقتذاك, ومحقق متمكن وكاتب مبرز مبدع, ينم حكمهُ عن رسوخ كعبه في الأدب وعلوّ مقامه بين المحققين, سبّاق غايات وصاحب كتابات ومدبج رحلات رائعات, قال عزام: شرّف الشيخ الجليل العلامة خليل الخالدي, مدينة حلوان منذ حين. فحضرت مجلسه الذي أفاد وأمتع, ثم سألته: أرأيت لابن تيمية طعنًا في جلال الدين الرومي? قال: نعم. ويستمر الدكتور عزام في أسئلته للشيخ الخالدي قائلاً: قال ابن بطوطة, إنه حضر ابن تيمية في دمشق وهو على المنبر يتكلم في نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا, وقال: نزل كنزولي هذا (ونزل درجة من المنبر), فقال الشيخ الخالدي: (إن ابن بطوطة لم يدرك ابن تيمية, والتحريف في الكتب كثير).

وأما ثالثًا: فقد عقّب الأستاذ محمد محسن البرازي (من دمشق) على صفحات (رسالة الزيات) عام 1939, صفحة 2028 على قول الدكتور عزام قائلاً: (أما إدراك ابن بطوطة لابن تيمية, فأمر يكاد لا يحتاج إلى دليل, وحسبنا أن نعلم أن ابن بطوطة ولد سنة (703هـ) وتوفي سنة (779هـ), وأنه جاء إلى دمشق كما ذكر في رحلته (طبع المطبعة الأزهرية ج1 ص 50), سنة 726هـ, وهي السنة التي سُجن فيها ابن تيمية سجنه الأخير في القلعة إلى أن مات, وكانت وفاته - رحمه الله - عام (728) ثمان وعشرين وسبعمائة, كما هو ثابت في جميع تراجم ابن تيمية نذكر منها (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية للإمام أبي عبدالله محمد بن أحمد بن عبدالهادي) (مطبعة حجازي بالقاهرة سنة 1938 ص 369), وكما هو بارز الآن منقوشًا على قبره خلف بناء الجامعة السورية في مقبرة الصوفية المندرسة, التي لم يبق منها غير ضريحه.

أما الشك في صحة رواية ابن بطوطة, فمصدره ما يأتي: ذكر ابن بطوطة في رحلته (المطبعة الأزهرية ج1 ص50) أنه وصل إلى دمشق (يوم الخميس التاسع من شهر رمضان سنة ست وعشرين وسبعمائة, ثم سرد بعد ذلك (ص58) روايته التي نحن بصددها, وأضاف: إن ملك الأمراء سيف الدين تنكيز كتب إلى السلطان الملك الناصر في أمر ابن تيمية (بأمور منكرة) فورد أمر السلطان من القاهرة (بسجنه بالقلعة, فسجن حتى مات) في حين أن سائر المظان والمصادر ومنها (العقود الدرية) (ص329) و(دائرة المعارف) التي تعتمد بحقيقتها على تراجم وكتب متعددة تعيّن يوم الاثنين السادس من شعبان عام ستة وعشرين وسبعمائة تاريخًا لسجن الإمام تقي الدين للمرة الأخيرة التي مات فيها. ينتج مما تقدم أن ابن بطوطة, إذْ حطّ رحاله بالشرابشية (المدرسة المالكية) في دمشق, كان شيخ الإسلام رهن سجن القلعة يقضي أيامه ولياليه في التأليف والعبادة, فلابد لنا بعد هذا من الحكم بعدم صحة رواية الرحالة المغربي مالم يثبت لدينا خطأ ابن عبدالهادي, وسائر المؤرخين والمؤلفين كـ(ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات, والصدقي في طبقاته, وابن الوردي في تاريخه), الذين استندت إلى أقوالهم دائرة المعارف الإسلامية, وهذا بعيد عن المعقول).

ويخلص الأستاذ البرازي إلى أن ابن بطوطة قد أدرك ابن تيمية, وإن لم يره ويسمعه.

وأما رابعًا: فإن هذا الخبر ذكره ابن فرحون في (الديباج المذهب), وقال الحافظ بن حجر في (الدرر الكامنة): ذكروا أنه ذكر (أي ابن تيمية) حديث النزول, فنزل عن المنبر درجتين فقال (كنزولي هذا) فنسب إلى التجسيم, وفي الصفحة 48 من حواشي (دفع شبه التشبيه لأبي الجوزي) بأنه رأى خطبة ابن تيمية في مخطوط, وفيها زيادة (لا) قبل (كنزولي) أي (لا كنزولي هذا).

وبين الزيادة والنقصان, يتحتم على الثقات الحري والتثبت بإمعان, من الدس والتحريف من أرباب الزندقة كأمثال الهيثم بن عدي الذي هرق حبر كتاباته في مثالب العرب تشفيًا منهم.

وأما أخيرًا, فنحن لا نجوّز لأنفسنا, أحياءً, تكذيب مثل ابن بطوطة وغيره أمواتًا, وإن أماط الدكتور نواف الجحمة, اللثام عن أساطير وخرافات مبثوثة في سرديات رحلته. فنحن لا نصلح للنهوض بشنآن قضية لفّاء, وإنما يرتمض في فض مغاليقها نخبٌ من عمالقة الفكر والفقه والتاريخ, وليس لنا كمثقفين سوى الغيرة على الحقيقة, فنرفع لافتةً عريضة أمام أولاء النخب أوان التحقيق في هذه القضية.

موسى زناد سهيل
بغداد - العراق

هوَذا الفَجرُ فَقُومي نَنصَرِف عَن دِيارٍ ما لَنا فيها صَديق
ما عَسى يَرجو نَباتٌ يَختلف زَهرُه عَن كُلِّ وردٍ وَشَقيق
وَجَديدُ القَلبِ أَنَّى يَأتَلف مع قُلوبٍ كُلُّ ما فيها عَتيق


(جبران خليل جبران)