غادة السمان تقتحم المستحيل

غادة السمان تقتحم المستحيل

رواية السيرة الذاتية ليست ظاهرة نادرة في الآداب العالمية، كما أنها ليست ظاهرة نادرة في الأدب العربي.. فلماذا إذن كانت رواية غادة السمان «فسيفساء دمشقية» رواية مستحيلة؟

إن رواية غادة السمان مستحيلة، أولاً لأن كاتبتها كبطلتها «زين» تحاول التلصص عبر ثقوب الزمن لتعمل محققة بوليسية مع الظلال والأسرار واللامعقول والبياض لترى ما الذي حدث في الماضي. ولكن الحقيقة مشاكسة وتفرّ منك كلما ظننت أنك توشك تمسك بها. إنها كمن يطارد هدفًا متحركًا على صفحة أمواج يصطخب كل شيء فيها، فما تكاد اليد تتوهم أنها أمسكت بشيء حتى ينزلق من بين أصابعها كزئبق مراوغ، لاسيما وأن الذاكرة تتشوّش عبر الزمن وتصهر أصواتها وتتداخل تحت وطأة السنين.

ثانيًا: رواية غادة السمان مستحيلة، لأن للحقيقة التي تحاول الكشف عنها وجوهًا متعددة كثيرة وللوقائع المستقرة في قاع ذاكرتها تأويلات لا حصر لها. لقد قامت الكاتبة بأربع محاولات لرسم صورة ما حدث في الماضي، فجسّدت في كل محاولة لوحة فسيفسائية لذلك الماضي ووقائعه على نحو يواكب تطور وعي صاحبة السيرة (زين) عبر سيرورة الزمن التي كانت في كل مرة تترك بصمات مختلفة (هي مختلفة وليست متناقضة) على المكان والأحداث والشخوص، الأمر الذي يتيح للمتلقي إمكانية رؤية جديدة للحقيقة وتأويلًا جديدًا للأحداث وتقويمًا جيدًا للشخوص.

ذلك، على ما أظن، هو المعنى المتخفّي وراء جعل هذه المحاولات كلها، محاولات لكتابة الفصل الأول في رواية لم تكتمل، بل إن الروائية نفسها تؤكد عدم اكتمالها حين تلحق بمحاولاتها الأربع الأول («ذكريات وهمية»، «ومن الدفتر السرّي لمراهقة تخترع نفسها»، و«فسيفساء الظلال المتحركة»، و«حرّاس الصمت أو متلصصة عبر ثقوب الزمن»)، محاولة خامسة اكتفت بذكر عنوانها («منيّة إلى الوطن أو أشجار العشاق بين صبية ومدينة») تاركة للمتلقي مطلق الحرية في تخيّل ما يمكن أن تتضمنه هذه المحاولة.

ثالثًا: رواية غادة السمان مستحيلة لأن صورة الماضي تجسد في كل محاولة لوحة «فسيفسائية تبدو موحَّدة لكنك تكتشف عند الاقتراب منها أنها مكوّنة من عدد لا حصر له من اللوحات الصغيرة التي تنسجم تارة وتتنافر تارة أخرى، غير أنها تشكّل في نهاية المطاف لوحة واحدة تنفتح على تأويلات متعددة تعدّد وجوه الحقيقة التي تسعى المؤلفة إلى الإمساك بها.

أماكن وشخصيات رمادية

ليس ثمة لوحة جزئية في الرواية تمتلك قيمة إيجابية مطلقة أو قيمة سلبية مطلقة، لا البيت الكبير في زقاق الياسمين، ولا بيت ساحة المدفع، ولا السير على ضفاف بردى، ولا الحفلات في الشقق الحديثة في شارع أبي رمانة. وكما هي حال الأمكنة، كذلك هي حال الشخوص الأساسية في الرواية. فليس ثمة سمات إيجابية مطلقة أو سلبية مطلقة تتحلى بها شخصية الأب (أمجد الخيال)، أو العمة (بوران) أو الجدّة أو العمَ (عبدالفتاح) أو الخادمتان (جهينة) و(فهيمة) أو ابنة العم (فيحاء)..إلخ. إنها جميعًا شخصيات قلقة يشدها الماضي فتتعثر في سيرها نحو المستقبل ولكنها تسير لملاقاته بحكم سيرورة الزمن. حتى أم زين (هند) تظل، رغم كل الإشارات والعبارات الموحية التي تقتنصها زين من الوثائق والأوراق وأقوال الشخصيات، غامضة حتى آخر الرواية، لا تروي غليلها فتصطدم في كل مرة تقترب فيها من إدراك حقيقة أمها بالرمادي في حين أنها تسعى بكل طاقتها وبكل ما تملك من جرأة وشجاعة إلى تمييز الأبيض من الأسود في هذه المسألة.

رابعًا: رواية غادة السمان مستحيلة لأنها ليست سيرة ذاتية لشخصية بعينها هي شخصية (زين)، فإلى جانب السيرة الذاتية لزين سيرة ذاتية لشخصية أخرى تتحد معها وتفترق عنها في آن، هي «دمشق» التي شكلت فسيفساؤها الجغرافية والبشرية حاضنة لطفولة زين وصباها، وشكّل تاريخ تطورها في الزمن تاريخ تطور وعيها.

لقد استطاعت غادة السمان ببراعتها المعهودة أن تربط تطور شخصية زين وطباعها بطبيعة دمشق وتاريخها فقدمت لوحات رائعة في قوة تعبيرها وإيحاءاتها للتغيرات في دمشق وفي وعي زين بسلاسة وحميمية تخلو من الإدعاء والشعاراتية، وبترابط لا يعاني من فراغ يتخلل الانتقال من حالة إلى أخرى فيشعرك بتفكك الرواية وترهّلها.

إن غادة السمان المعروفة بامتلاكها المتفوّق لتقنيات القص تفجر طاقات لغتها الروائية باستخدام كل التقنيات الضرورية من سرد ووصف وحوار ونجوى وتناص وتضمين وتعدد أصوات وكوابيس وأحلام وتداخل أزمنة، لتحقيق روايتها المستحيلة. إنها تتوغل عميقًا في العوامل الداخلية لشخصيات الرواية. وتنبعث من تحت قلمها حارات دمشق وغوطتها ونهرها العريق والأشجار على ضفتيه والطيور التي على أغصانها، ولاسيّما طائر البوم الذي رأت فيه طائرًا جميلًا ورقيقًا وحكيمًا وليس شؤمًا كما يعتقد عامة الناس. كل ذلك ينبعث حيًا في روايتها يشارك الإنسان مشاعره ومصيره. وهكذا يبرز للرواية وجهان: وجه ملحمي تتلاحق في رسم قسماته صور الطبيعة الخلّابة في غوطة دمشق وصور أحياء دمشق القديمة وبيوتها المدهشة بحميميتها وجمالها، والأحداث الكبرى (الاستقلال، نكبة فلسطين، الانقلابات العسكرية، اللبنات الأولى في بناء الصناعة الوطنية) التي عاشتها دمشق وعايشتها البطلة (زين)، وحملتها غادة السمان في وعيها وقلبها سنين طويلة قبل أن تسكبها حية ودافئة على صفحات روايتها.

الوجه الآخر للرواية هو وجه درامي - نفسي تتلاحق في رسم قسماته صور الصراع بين أنصار القديم وأنصار الحديث، والصراع بين الرغبة في التمرّد على ما هو قائم وتغييره، والرغبة في الاستكانة والاستسلام في داخل كل شخصية من شخصيات الرواية، الأمر الذي كان يقود تلك الشخصيات، غالبًا، إلى سلوكات تحاول المواءمة بين الرغبات المتصارعة، ولكنها تدلّ بقوة على انتصار الحديث على القديم بسلاسة ومن دون عنف.

لا يقلل من قوة تلك الدلالة أن هذا الانتصار جاء مشوبًا ببعض الحزن على فقدان قيم محببة كانت في الماضي كالمودّة والألفة والتضامن والبساطة، وببعض النفور مما رافقه من صفات سلبية كازدياد سلطة المادة والأنانية والفساد وضعف الوازع الأخلاقي.

من أجل الحرية

ثمة خط واحد في هذا الصراع لم يتخلله تهاون أو ضعف، بل استمر متصاعدًا من بداية الرواية إلى نهايتها هو تمرد (زين) وصراعها من أجل الحرية. وهو صراع لم يكن بينها وبين الرجل فحسب، بل بينها وبين النساء الراضيات بما هو قائم أيضا. قد يكون تمرّد (زين) سمة حقيقية من سمات طفولة كاتبة الرواية وصورة حقيقية عن سيرتها الذاتية أثبتتها في روايتها، وقد يكون، وهذا الأرجح، انعكاسًا لرغبة غادة السمان الجامحة في الحرية، تلك الرغبة التي لا شك نشأت عندها حين دخلت الجامعة وخاضت تجربة حبّ أولى دفعتها إلى تمرّدٍ وزواج فاشل تمخض عن مواجهة أليمة جراء خيبة الأمل بالرجل الذي أحبته. فبعد تلك التجربة التي عاشتها غادة السمان وهي في ريعان الشباب بدأ اسمها يبرز في دنيا الأدب وبدأت ثورتها من أجل حرية المرأة تتجلى فيما تكتب. نذكر على سبيل المثال المقال/ الدستور الذي نشرته عام 1962 فأكدت فيه أن الفرق بين «المرأة» و«الرجل» كيفي لا كمي، وكلاهما يتساوى في رتبة الإنسانية وفي الحقوق الإنسانية. لذا فإن المرأة المتحررة تصرّ على أن تملك حريتها غير منقوصة وتحمل مسئوليتها كاملة. وأكدت فيه أيضًا أن إطلاق أي حكم أخلاقي على سلوك المرأة لا يصح إلا حين تملك حريتها في اختيار أفعالها، فالاختيار هو الشيء الوحيد الذي تنتج عنه المسئولية. وأكدت كذلك حق المرأة المتحررة في أن ترفض الزواج بالطريقة التي قبلت بها أمها وجدّتها، فهي ترى أن الرجل إنسان تشاطره المرأة وجوده ومصيره لا مائدته وسريره. وهي تستغرب في ختام مقالها كيف أن بعض النساء يعترضن على منحهن حق الحياة والكفاح وشرف المسئولية والنضال، علىالرغم من أن حشرجات النساء الموؤودات لا تزال تسمع.

إن من يقرأ «الرواية المستحيلة - فسيفساء دمشقية» يكتشف بسهولة طغيان قضايا المرأة ومكانتها الاجتماعية وعلاقتها بالرجل وتحررها من القيود التي تفرضها عليها العادات والتقاليد، على كل الموضوعات الأخرى فيها. ومن يقرأ الرواية يكتشف بسهولة أنها ليست رواية سيرة ذاتية لطفولة الكاتبة وصباها، بل هي في الواقع، رواية استخدمت تجارب السيرة الذاتية مشجبًا تعلّق عليه آراءها وأفكارها التي حملتها في وعيها دائمًا. وعبّرت عنها في المقال/الدستور الذي نشرته عام 1962. وهذا هو السبب الحقيقي الذي جعل قضايا المرأة تطغى في الرواية على كل ما عداها.

لقد رصدت غادة السمان في روايتها قضايا المرأة وتطورها من أواخر ثلاثينيات القرن الماضي حتى أواخر خمسينياته بمهارة فنية عالية وواقعية مدهشة، فصورت مآسي النساء وأفراحهن، إنجازاتهن وإخفاقاتهن، تمسكهن بالتقاليد ورغبتهن في الانعتاق والتحرر من دون اختلاق أو مبالغات تفقد شخصيات الرواية انسجامها فتفقد الرواية صدقها الفني.

المرأة والحضور الذاتي

لقد شكلّت المرأة في رواية غادة السمان نسقًا تابعًا في مقابل نسق مسيطر هو النسق الذي يمثلّه الرجل، فليس للمرأة حضور ذاتي مستقل فيها. ولكن النسق النسوي يصارع النسق الرجالي صراعًا غير مصحوب بالصخب فيخفق تارة وينجح أخرى محققًا إنجازات جزئية غير حاسمة، ولكنها دالّة على اتجاه حركة المرأة نحو التحرر والاستقلال، كالطلاق بعد زيجة فاشلة (ماوية)، والنجاح في الدراسة والعمل (فيحاء)، وتعلّم مهنة الخياطة والتكسّب منها (جهينة)، والنزول إلى ميدان العمل في صناعة النسيج (بنات عبدالفتاح).. إلخ ما هنالك مما لا يتسع المجال لدراسته والحديث عنه.

غير أن في الرواية رمزين لنضال المرأة من أجل الحرية تبدأ بهما ويستمران في الحضور حتى نهايتها (إن صحّ أن نسمي محاولة الكاتبة الخامسة نهاية)، وهما (هند) زوجة أمجد الخيال، و(زين) ابنته صاحبة السيرة الذاتية.

تبدأ الرواية بحفل تأبين «للمرحومة» (هند) في الجامعة توحي مجرياته بأن ما قيل فيه عنها تقليدي وزائف، يتضمن تقريرًا لمكانتها كزوجة للأستاذ في الجامعة (أمجد الخيال) أكثر مما يتضمنه من حزن على فقدها، ما عدا قصيدة ذلك الشاعر الذي اتهم الزوج صراحة بقتلها، ثم تتوالى في الرواية محاولات الكشف عن المحطات المفصلية في حياة (هند) واكتشافات (زين) من خلال ما قرأته من كتابات أمها ورسائلها. غير أن تلك المحاولات كلها لا تمكّن المتلقي، بل تمكّن صاحبة السيرة ذاتها (زين)، من رسم صورة واضحة وأكيدة لهذه الشخصية الإشكالية.

نحن نعرف، مثلًا أن (هند) هربت من اللاذقية إلى دمشق لتتزوج من الرجل الذي اختارته (أمجد الخيال)، ولكننا لا نستطيع أن نؤكد تأكيدًا قاطعًا أنها فرّت من اللاذقية حبًا بالرجل الذي اختارته، ففي الرواية ما يجعلنا نعتقد أنها فرّت طلبًا لحماية رجل القانون القوي (أمجد الخيال) لها من جشع أهلها وطمعهم في ثروتها. ألم تخضع بعد فرارها الأسطوري، لرغبة زوجها في السكن في البيت الكبير وبين مجموعة من البشر

ما كانت لتتحمل سلوكهم وآراءهم لولا سطوته ومكانته؟

ألم تخضع لرغبة زوجها في الحمل من جديد على الرغم مما في الحمل من خطر على حياتها، وذلك فقط من أجل أن تنجب له ولدًا ذكرًا يعوّضه عن خيبة أمله حين أنجبت له (زين)؟

ثم، ألم تخضع لرغبة زوجها في الامتناع عن نشر ما تكتب لأنه كان يرى في ذلك خروجًا عن الأعراف والتقاليد؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة وأمثالها مما تطرحه الرواية توحي للمتلقي أن هند لم تكن متمردة، ولم تكن راغبة في التحرر، أو أنها تخلت عن هذه الرغبة بعد الزواج. غير أن سفور (هند) وعملها في التدريس، وتأثيرها في وعي بعض نسوة البيت الكبير (فيحاء) وتعليم الأميات منهن القراءة والكتابة (جهينة) وتحدّيها لـ (بوران) وأفكارها، وأخيرًا روايتها التي ظلت حبيسة الصندوق حتى اكتشفتها (زين) ونشرتها بعنوان «المرأة الجديدة» لتنال الجائزة الأولى لمسابقة الرواية في جريدة «النقّاد»، ذلك كله يؤكد وجود رغبة حقيقية في التحرر عند (هند)، ولكنها رغبة لم تتجسد بوضوح إلا في أحلام (زين) وهكذا تظل شخصية (هند) ملفوفة بغموض شفاف يحول بين المتلقي وبين الحكم عليها حكمًا قاطعًا.

ولكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى (زين). لقد كانت (زين) منذ طفولتها متمردة وعنيدة، ليس فقط في بحثها عن حقيقة أمها، وإنما أيضًا في مقاومة كل ما يحدّ من حريتها لأنها أنثى، فمارست ألعاب الصبيان وتفوقت عليهم في امتحان الشجاعة فلقبوها بـ «حسن صبي». إن في حياة غادة السمان شيئًا من هذا القبيل، فهي نفسها كانت تتحدى الصبيان الذين يحاولون السباحة مثلها. غير أن (زين) كانت تمارس ذلك لإثبات اختلافها عن ساكنات البيت الكبير وقدرتها على تحدي ساكنيه من الذكور الصغار والكبار. وقد ساعدتها حماية أبيها لها على الصمود والقدرة على المواجهة التي كان يشوبها بعض الحقد الذي لا يلبث أن يتبدد حين تشعر أن السبب في صراع سكان البيت الكبير معها ليس الكره وإنما الاختلاف في النظرة إلى الأمور.

مما لا شك فيه أن حماية (أمجد الخيال) لـ (زين) أمّنت لها حرية التصرف والإفلات من المساءلة، ولكنها كانت حماية ذات هدف محدد هو التفوّق في الدراسة، ودخول كلية الطب. قد يكون اختيار (أمجد الخيال) لابنته اختصاص الطب حتى قبل أن تنهي دراستها الثانوية، نتاج رغبة أب في تأمين مستقبل مضمون ماديًا لابنته، وقد يكون تعبيرًا غامضًا عن رغبته في تنشئة (زين) على نحو مغاير لما كانت عليه أمها. وإلا فما سبب إخفائه لأوراق الأم في صندوق مقفل ومنعه الجميع من الخوض في الحديث عنها أمام ابنتها المتلهفة إلي معرفة أي شيء يوضّح لها صورتها؟ وهل من تفسير لعدم نشر (هند) لروايتها أو أي شيء آخر كانت تكتبه سوى قناعة (أمجد الخيال) بأن الأدب مجال لا يليق بالمرأة؟

لقد بذل (أمجد الخيال) قصارى جهده لإخفاء صورة الأم، وأحاط ابنته ببحر من الحب والحنان، قد يكون من أسبابه شعوره بالندم لعجزه عن حماية زوجته وغيابه عنها حين كانت بأمس الحاجة إليه. وهكذا نشأت بين الأب وابنته علاقة حميمة راسخة ظهر فيها تأثر البنت بأبيها وآرائه من دون أن تنقاد له انقيادًا أعمى، فشيطان أمها (هند) كان قد تلبّسها فراحت تحلّق معها بأجنحة الأحلام على شاطئ «الطابيات»، حيث البحر والسماء، متحررة من قيود الواقع في كل مرة يحاول فيها الواقع تكبيلها بقيوده. وقد كانت كل رحلة تحليق بأجنحة الأحلام مع (هند) تزيد من حماسة(زين) للانعتاق من رغبات أبيها في أن تدرس الطب وتكفّ عن البحث عن حقيقة أمها، وتبتعد عن دنيا الأب، والكتابة، فتؤجج الصراع الخفيّ بينها وبينه، ذلك الصراع الذي كان يتكامل من محاولة إلى أخرى من دون أن تلوح له نهاية، والذي كانت زين تترجح فيه بين الواقع والخيال، ولم تنجح في التغلّب على ترجحها إلا حين توحّد الواقع والخيال في وعيها وهي تواجه الموت وقد شارفت سنوات مراهقتها على الانتهاء. لقد اكتشفت وهي تصارع الموت المحدق بها على متن الطائرة الشراعية أن الحقيقة الوحيدة التي تعرفها هي الرغبة في الحياة، وبيسر وحبور استخرجت جناحيها واستحالت نورسًا أبيض يحلّق إلي جانب البومة والنسر وسط دهشة الماضي الذي يأتيها صوته من بعيد فتضحك بلا حقد وهي تهبط بالطائرة وتغادرها فتشعر للمرة الأولى في حياتها أن الأرض صلبة تحت قدميها وأن الفضاء أقل عدوانية تحت جناحيها. إنها الآن تنطلق في مسيرة الحرية الحقيقية التي ناضلت من أجلها كاتبة الرواية المستحيلة - غادة السمان، طول حياتها الواعية.

 


فؤاد المرعي