غنائية للفصول والمواسم

غنائية للفصول والمواسم

ستظل نصوص غادة السمّان الغنائية في مقدمة إبداعاتها في رحلة الزمان الآتي, وسوف يزداد قرّاؤها، ذلك أننا مع تلك النصوص نقع في دائرة السحر إذ تحملنا الكلمات إلى أعماقنا, ويرتدّ الطرف فنرى آفاق الدنيا وبين الحلم والصحو تتشكّل سطور أيام جديدة.

ولا تخفى أواصر نسب بين ما قدمته غادة ورصيد ثريّ للنثر العربي في تجلّياته الغنائية في النصف الأول من القرن العشرين في نتاج: مي زيادة وجبران خليل جبران ومصطفى صادق الرافعي, وجاءت الصفحات الحديثة نابضة بدفق متطوّر لم يلتبس بجلبة المصطلحات واضطرابها, ورغم خفق الأجنحة البعيد ظلت الدار القديمة تصطحب بزوغ الشمس.

لابدّ لنا من ثلاث محطات قبل أن نشير إلى جسور الإبداع الأسلوبية وآفاق التجربة في نصوص غادة السمّان، وقراءة متجدّدة فيها تجعلها تتخذ مواقعها في مدارات الأزمنة وتساؤلاتها:

أولى هذه المحطات هي (الغنائية) فقد آثرنا أن تكون مركزا ننطلق منه, ونقرنه بالأداة اللغوية النثرية وطاقاتها التعبيرية, فهي الحاملة ملامح التجربة إلى المتلقين, وذلك في خطوط مختلفة ومتمايزة من الغنائية الشعرية بطابعها الموسيقي الظاهر, وهذا مناظر لما يكون من إدراكنا فروق السردية النثرية وحالات شعرية للقصص, وللدراما النثرية وتلك الشعرية عبر العصور الأدبية في العالم. وقد تركت غادة للنقّاد في مقدمة كتابها (الحبّ من الوريد إلى الوريد) أن يتحدثوا عن أعمالها بمناهجهم, فهي مطمئنة إلى أن ما دوّنته تحفظه كتبها رغم ألوان هؤلاء أصحاب التأويل والتفسير, وأن زوايا الرؤية متعددة, ولن تستقرّ الفصول الأربعة في لحظة كونية واحدة!

تقدم (الغنائية) التجربة الأدبية من خلال ذاتية تكشف الانفعالات ومواقفها في مباشرة أي مواجهة للمتلقي تجعله يقلّب أوراقه ويخوض في اللعب أو الصراع في حالة من التماهي مع المبدع, وهذا ما يفسّر مفهوم الذاتية المباين للفردية أو الشخصانية. إن غادة السمان بعض من نصوصها التي تتسع لكثيرات وكثيرين يمتد معهم قوس قزح جاءت ألوانه من قطرات المطر وشمس تعلن حضورها. ومن أبرز معالم الغنائية الكثافة في تعبيرها حتى لكأنما تجمع أحاسيسها وموقفها في قبضة تتوهّج وتنفلت من بين أصابعها.

والمحطة الثانية هي حقّ غادة السمان في أن يكون نتاجها حاضرا جميعه في القراءة النقدية التمهيدية, والسابقة للدراسة التحليلية الجزئية أو المفصلة لكتاب واحد، ذلك أن تكاملا يتشكّل معها وتتراءى لنا الشخصية الإبداعية, وعندما نقرأ بعضا من تلك الأعمال تظل الجوانب الغائبة فاعلة في حالة التلقي على نحو ضمني, ويدرك النقاد أن زوايا الخطاب لدى غادة تماوجت بين مدّ وجزر في كتبها العشرة التي قطعت ضفاف ما يقارب الخمسين عاما (حبّ 1973 - أعلنت عليك الحبّ 1976 اعتقال لحظة هاربة 1979 - الحبّ من الوريد إلى الوريد1980 - أشهد عكس الريح 1987 - عاشقة في محبرة1995 رسائل الحنين إلى الياسمين 1996 - الأبدية لحظة حبّ 1999 - الرقص مع البوم2003- الحبيب الافتراضي 2005) ويبدأ أول نص في سنة1960، وينضوي أحدث نصّ في سنة 2004.

وفي المحطة الثالثة نلحظ الصلة الوطيدة بين شخصية غادة وأدبها الغنائي من ناحية والمشروع النهضوي العربي من ناحية أخرى، فقد تصاعد في الخمسينيات والستينيات في القرن العشرين مدّ فكري وسياسي أراد متابعة إنجاز الآباء في تحرير الأرض والاستقلال، وذلك ببناء جديد قوامه الإرادة الحرة للشعب العربي وقدرات اقتصادية تضعه في مكان فاعل وندّي ّفي مسار الحضارة العالمية المعاصرة. ولم يكن تصوّر التقدّم ماديا وإنما أطلقت نداءات التطور الاجتماعي في خلية الأسرة وإطار المجتمع, وتصورات للدنيا فيها الجهد والكفاية والمشاركة في تقرير المصائر بعد نفض غبار تراكم وظنه بعضهم جوهريا.

لقد تفتّحت موهبة غادة الإبداعية مع صعود هذا المشروع, واستطاعت طبائعها الذاتية أن تتنفّس وأن تعلن مسارها, واقترن تمرّدها بالحداثة التي تطلّعت إلى صفحات مغايرة في الحياة العربية ومكوّنات نهضتها، ولكن المميز هو أن غادة أصرّت على أن تبدأ من الإنسان، ولا بدّ أن تكون حريته وإرادته كلمة السرّ لبناء جديد ووطن قويّ، كما أن الشخصية المتماسكة غير المتناقضة تتحرك وتبني وهي مبصرة فتتسع دروبها. وهنا نشير إلى أن صورة المرأة المعاصرة والمتطورة في النصوص الغنائية لم تحجب الرجل، وإنما رأيناه عند غادة في سماته الإيجابية وفي مواطن ضعفه وتناقضاته بين الشعارات والواقع، وبين أنانيته وصدر يتسع لعين ترى معه وتمشي إلى جواره.

وفي هذا كله لا نريد أن نؤطّر نتاج غادة في حيّز زمني محدود, وإنما رغبنا في توضيح انصهار تجربتها بالحراك السياسي والاجتماعي مما أكسبها صلابة تحفظ الأبعاد الإنسانية في شمول وعمق.

الرؤية والخطاب

الأنثى والرجل وجهًا لوجه وعينًا في العين سواء أضاقت الأمكنة أم كانت تنداح على مدى الجبال والقارات وساحات مطارات الدنيا.. هذا ما أرادت رسمه غادة السمّان في نصوص لم تغلق عليها أغلفة الكتب إلا حرصا على أن تخرج بين قرّائها ليكونوا قربها في خطاب تتحاور فيه مع هذا الرجل عبر ضمائر المخاطبة التاء والكاف وأنت والنداء يا أيها...ولكن كيف تحصر الدائرة بينهما وتريد أن نشاركها أحاسيسها فرحة وألما وحسرة وكبرياء؟! إنها تقول: حدّقوا في وجهي جيدا ألا ترون بعضا من وجوهكم ووجوهكن فيّ ؟! وتستدرك: إنكم لو تأملتم لوجدتم شيئا من نفوسكم وواقعها وشيئا هو الحلم أو الأطياف المستحيلة, أو الصور التي تخافونها فتحتمون بالواقع وأنفاسه المطمئنة!!

لقد أطلقت كلمات تحمل البوح بكل ما يعتريها وهي مفعمة بالأحاسيس وأعمق تواصل مع الكون من خلال وجه من تحبّ وخطواته وسماته ولحظاته وأوقاته الحميمية، إنه اكتمال إنساني تزهر معه البسمة ويسري شعور بالأمان وتذوب لحظات الماضي والحاضر وتحلّق سعادة هي والأبد جناحان لا يهدآن.

قد لاتسعف الدراسة سطور قليلة نقتطعها من أجواء ذاك الحوار الذي افترش دقائق اليوم وتتابع الشهور وتغلغل في تبدلات الضوء والعتمة, وغاص في أعصاب أوراق الشجر, بل إنه وصاحبته امتطيا عصا ساحرة فتعددت في نصوص غادة البراري والمدن والمقاهي, وهذا ما يفسّر فيض الصور والكلمات إنه الحبّ جوهر واحد يتزيّا بكل ما في العالم والطبيعة, ويتجدد مع رفّات الجفون, إنها تخاطبه في (صباح الحبّ):

«لأجلك / ينمو العشب في الجبال / لأجلك / تولد الأمواج / ويرتسم البحر على الأفق / لأجلك يضحك الأطفال في كل القرى النائية/ لأجلك تتزين النساء /لأجلك / اخترعت القبلة!».

ولكنها ليست الرومانسية التي تغيب ويطويها إهاب الرجل الذي أحبّت, إنها ترفض (التلاشي والاستقرار) وليس توهّج اللقاء نهاية خطوات التوق بل هو بدء لحياة, لذلك نرى أنها تدافع عن وجودها وعن استمرار ضربات القلب على إيقاع العنفوان، إننا نسمعها في (حبك طلقة مبتلة):

«سعداء كنا قبل أن تقطف أزهار الشوك الليلكية/ وتسقط في خطيئة التملّك المميتة / وتتدلى جثتي المعلّقة بخيط إلى رقبتك / ميدالية للعنة / ويطردنا الكون جديد الألوان والأشكال / إلى عالمنا الأرضي / لنقطف الألم / من براري الندم الشاسعة».

وبين ذاك التواصل ونعمى القرب وهذه القطيعة المدمّرة تتدرج وتشتبك درجات من اللهفة والبهجة والقلق، وتتغير ترجمة الوجوه والأشياء في الطريق والمحطات, وتقلب إشارات الموسيقا ونغماتها,وهي تقول في (عاشقة تقتل الصمت):

«آه صوتك / كيف يمكن لفرحة أن تدوم على مدى موتين داخل مكالمة هاتفية واحدة؟ / آه صوتك / النوافذ الموصدة صارت أفقا بحريا / النوارس تطير من منفضة السجائر /جلد الجدران يتنهّد ويرتجف ويتعرّق /آه صوتك /بين ذاكرة وأخرى وشجار وآخر/صوتك رائحة الحقول بعد المطر / ثلج على شعري وأصابع دافئة تطارده / ضحكات المقهى ابتسامات تبغية، بائعة أزهار عجوز تلاحقنا فنشتري كل ما معها، ونرميه وردة وردة على صفحة نهر السين».

لقد كان هذا الحوار- المواجهة بين المرأة ومن تحبّ في كل طقوسه وهواجسه وأشواكه ووعود فيه وخيبات، كان يهيمن على الكتب الستة الأولى (حب-أعلنت عليك اعتقال لحظة-الحب من الوريد- أشهد عاشقة في محبرة), وترك صفحات قليلة لخطاب آخر للمرأة تراجع فيها مواقفها وحالات لها, وكذاك خطاب للآخر للآخرين أي من توجّه رسائل إليهم ليشتركوا في التأمل ومغادرة سكونهم, وهذان اللونان حظيا بمساحات أخذت تتسع مع الكتب الأربعة الأخيرة (رسائل الحنين الأبدية- الرقص مع البوم الحبيب الافتراضي).

إننا نتابع قضايا المرأة العربية الاجتماعية, وقضايا الوطن العربي, وتبرز إشارات سياسية واضحة, ولعل الحنين ومعاناة الغربة رغم أرديتها الظاهرة وأماكنها اللامعة ورفاهية تتاح لبعضهم، لعل هذين القطبين عند غادة السمان يستحضران دمشق وهي كما قالت - الاسم الحركي لسورية بامتدادها, وتعاودها صور بيروت التي عاشت فيها قبل اغترابها في باريس, ومن خلال هذه المدن الثلاث تتحرك في الدنيا مسافرة, وباحثة عن أوقات تجمع خيوطها الملوّنة، فتجد مشاهد تعرفها وحالات تحبها أو تفاجأ بسريالية تأبى الانصياع لمفردات المنطق والأبجدية, ولعل استحضار بضعة من نصّ تشجع على القراءة أو معاودتها لمن قرأها قبل, وإذ ذاك يفصح النصّ الكامل وينثر دلالاته, فمن نصّ (عاشقة في جيبها نجمة) نقرأ تقاطعات الغربة وشوقا إلى أسرار الحياة البعيدة القريبة:

«في مقبرة الأنفاق / أهرول كفأر إلكتروني / مع قوافل الجرذان المعدنية كالحة الوجوه/ المتزاحمة على أحشاء القطارات المسائية الحزينة / وأكاد لا أصدق أن جسدي المقدّد بالنفتالين / والفراء وعفن الضباب وصدأ الشوارع الكئيبة / كان ذات يوم يغطس في الرقة الشفّافة / لسماء قريتي (الشامية) مستحما بالخضرة والضوء / ...أهذا الجسد نفسه / الراكض في هباب البكاء السري لدهاليز (المترو) / هو ذاته الذي رقته العجائز الدمشقيات / وقرأت عليه جدتي تعاويذها...»

يتضح للناقد أن الذات في نصوص غادة الغنائية تلبّست بوجوه وأطوار مختلفة وعرضت مواقف جامحة لبعض منهن, لكنها كانت تتوخّى تحفيز الإحساس والفكر عند المتلقين والمتلقيات, وأن يخرج هؤلاء إلى أفق آخر بعد التناظر والتعارض بين ما يرونه عبر السطور، وما يحفل به واقعهم, وهنا لا يغيب عنا الربط بين الوعي الحضاري- السياسي في نصوص الحوار الذاتي والحوار مع الآخر المطلق وبين أحاديث الحبّ, فثمة رؤية كامنة في أعماق المبدعة تجعل أناملها تعقد بين حروف سحرية قادرة على فتح النوافذ لتدخل الشمس ويهمس القمر ونبصر دروب الليل والنهار. ولعلنا في هذه الزاوية نتذكّر نزار قباني ذلك أن أسرة دمشقية واحدة تجمع أواصر قرابتها بين غادة ونزار كما ذكرت في حوار معها دوّنته في كتاب أصدرته فهناك من يتساءل: ألا يكرران المواقف والمشاهد ؟ والإجابة نستحضرها من الموسيقا, فهنالك يطلقون مصطلح (التنويع على اللحن), فثمة مشترك لكن الإضافات وتغيرات الزوايا تمنح جديدا, ولعل المصطلح العربي (تشقيق الدلالة) يعين على إدراك قيمة هذا التنويع في النصوص.

الدلالة في عالم السحر

يؤخذ المتلقي عندما تتحرك عيناه أمام النصوص الغنائية في كتب غادة السمان, ويحاول أن يجد تفسيرا لهذه الجاذبية تشدّه وتضطره إلى مراجعة السطور في قراءة ثانية أو أكثر, إنه يغادر سكونه وهدوءه بل اطمئنانه إلى الأمور والأحداث, فثمة ما يقطع المسالك أو يغيّر مسارات, فتنشأ علاقات مدهشة.. غريبة.. إنه عالم مختلف!

إن اللعب بمعناه الأسلوبي أي إدارة أدوات التعبير وإشارات التوصيل إنما يعتمد على الدلالة اللغوية، وهي تنشط عند غادة في تجربتها, فتتداخل الحقول الدلالية في الجملة وفي العبارة الممتدة في تشكيلات استعارية, أو هي تتجاور بكثافة واختزال للصورة التشبيهية, وهذا ما يحرّك المخيّلة بتسارع وانتقالات تبدّل المسارات. وهنا يقوم السياق المركّز في نصّ لغوي قصير برفع طاقة التعبير إلى درجات عالية, ويتحقق التوتّر الذي لا شكّ ينقل المتلقّي من مساراته اليومية المكرورة والأليفة للناس والعلاقة فيما بينهم, وللقيم الوظيفية للأشياء كما يقررها المنطق أو الطبيعة.

وهكذا تحقّق المبدعة كسبا عندما يدخل المتلقي دائرة النص- السياق, ومن ثم يمشي في منحنياته وتناوب الإضاءة والتعتيم, وينتقل إلى موقع قريب جدا منها أي من تمرّدها سواء قبل ما هي عليه أو تردّد وسعى إلى حوار معه.

إن غادة السمان استطاعت بهذا الإلحاح على تداخل الحقول إحداث خلخلة أو تكسير لعلاقات الدال والمدلول بما يعادل تمردها على السكوني والأليف في الحياة الاجتماعية وما يهيمن على النفس المحاصرة, وبمعنى آخر يتحقق شقّ من الحداثة عبر اللغة والتخيّل في تركيب الجملة وخطوط العلاقة بين مكوناتها التي هي نظام خارج اللغة إي الواقع واحتمالاته.

ويتضح لنا أن ثمة صورا جديدة أو حركة في السياق الرؤية توجّه بعض الصور القديمة, فهي تكتسب دلالات موقعية زمانية مكانية تدور حول الإنسان, ومشاريعه في أحداث يصرّف وجهاتها من اليوم والغد الآتي.

لسنا أمام كمّ من الأبنية- القوالب التصويرية, وإنما هو تواصل بين المكوّن الأسلوبي وحيوية السياق الذي تماهى مع رؤية وتطلّع للمبدعة على الأرض وبين ناسها, فاقترن التعبير والتوصيل في نفس واحد اكتنز ما هو أكثر من الصوت, لقد حمل نبضا ودماء.

يمكننا أن نقرأ كلمات وصورا اكتسبت طاقتها المؤثرة من رؤية غريبة ومدهشة رغم أن بعضا منها معروف قبلا كما في (أشهد بشوارع البرق):

«حين تمتعني القطرات المتوحشة / للمطر الربيعي الحار / وأهرول بين الغيوم السود / راكضة فوق شوارع البرق / حين أعود جنّية الرياح / وأميرة المناخات المكهربة الغامضة / والأهواء الشرسة الجموح اللامنسية /أعرف أنني مازلت / واحدة من رعاياك يا سيدي / أتسوّل حبّك بكلّ عجرفة!».

إن حيوية الدلالة في النصوص ومنعكسها التصويري استطاعا أن يكوّنا حركة داخل المتلقي تقوم على ذبذبات متسارعة أو تفصل بينها فواصل متباعدة وكل منها عبارة عن تكوين مشهدي, ولعل هذا ما تعالى في غنائية غادة النثرية وكان الأسلوب المميز من الموسيقا الظاهرة.

وقد أكّدت غادة هذا الأسلوب الدلالي التصويري بتجليات أخرى, فقد اختارت دوال مفتاحية مفردة أو مركّبة جعلتها عناوين لعدد من كتبها وتبتدئ بها مجموعة من نصوص- مواقف فيها, وهنا نجد اختيارا لوحدات دلالية يحملها هذا المفتاح تنعكس على الحالات والمواقف التي تطلقها, فلا تبقى دلالات النصوص قطعة من الحياة, وإنما هي مشهد ملوّن بما أرادته الكاتبة ليترك أو يحمل المتلقي إلى دنى وانفعالات من زاوية عاشتها, وقد بدأت هذا النهج مع الكتاب الثالث (اعتقال لحظة هاربة) ثم (الحبّ من الوريد إلى الوريد) و(عاشقة في محبرة) و(رسائل الحنين إلى الياسمين) و(الأبدية لحظة حبّ) و(الرقص مع البوم) و(الحبيب الافتراضي), ونلحظ كيف تتشكّل بؤرة دلالية تنداح في أرجاء العالم وبين البشر: الاعتقال /الوريد / عاشقة / رسائل / الأبدية / البوم / الافتراضي.

والتجلّي الآخر هو الأغلفة التي تقوم باختيارها غادة وهي صاحبة دار النشر مما يؤكّد علاقتها المباشرة بهذه الظاهرة فهي نتاج فنانين عالميين أصحاب أساليب تعبيرية حداثية غير كلاسيكية أو رومانسية أو انطباعية, وواضحة نزعة المغايرة والخرق للمألوف وإحداث المفاجأة. وقد أضافت إلى ذلك غلافا يحمل رسما لها بريشة فنان سوري (حسن إدلبي) بطريقة كاريكاتورية مميزة مع البومة الطائر المفضّل والحامل رغبة التحدّي عند غادة, إذ تعيد إلى هذا الطائر حقيقته المسالمة والجميلة بعد أزمنة رأى العرب فيه دلالة الخراب والتشاؤم. وثمة رسوم داخلية في بعض كتبها بالأبيض والأسود لفنانين عرب وأجانب: رفيق شرف وجورج بهجوري وحسن إدلبي وإدوارد مانش. ويلفت الانتباه كتابها (الرقص مع البوم) الذي تذكّر لوحاته الكاريكاتورية بما كانت تنشره مجلة دمشقية اتخذت هذا النمط من الرسم أداة تعبير سياسي وهي مجلة (المضحك المبكي) أيام الانتداب الفرنسي ومطالع الاستقلال في سورية.

وثمة موقع دائم على الغلاف الخلفي لكتبها جميعها يحمل صورتها, ولكن نلحظ اختيارها لحالات وزوايا تعبيرية تقصد منها تلوين القراءة بها, فلا تكون النصوص مطلقة تماما, وإنما هي متأثّرة بشخصية يراها المتلقي, وتشكّل بعضا من الصور وتأويل الأحداث والمواقف.

لقد كان الجهد الأسلوبي كما رأينا يتوجّه إلى المتلقي سواء من خلال الدلالة اللغوية أو عبر سيمياء اللوحات والرسوم وزواياها, وكلّ منها يتطلب وقفة تحليلية نصيّة تتيح فرصا أبعد للمغامرة والتجوال المترقّب بين الكلمات في كتب غادة السمان.

وتستوقفنا ظاهرة الطول والقصر في سطور النصوص سواء باكتمال الجملة أو بتجزئتها عندما يبدأ السطر الثاني بالمفعول به أو الجار والمجرور أو بحال مكمّلة, فهذه من المسالك التي تنتهجها الكاتبة للتأثير في حالة التلقّي ويتبادر تساؤل مع الأعمال التي اتصلت سطورها وجملها خاصة في الكتب الأخيرة, وعن أسباب العدول عن الرسالة بوحداتها السطرية؟

وكذاك يعدّ من المؤثرات الأسلوبية الخارجية ما تعاظم في الكتابين الأخيرين: (الرقص مع البوم) و(الحبيب الافتراضي) من ميل إلى النصوص القصيرة في صفحة قد تزيد أو تقلّ بضعة أسطر, وكذلك ما يطلق عليه (الومضة) في سطور محدودة كما في نص (بومة بعينين واسعتين): «العين ثرثارة كأرملة ضجرة / العين نافذة بلا ستائر / العين لم تسمع بكلمة الكتمان / العين لافتة إعلانية عن أسرار القلب / ولذا أحرص على ارتداء نظاراتي السوداء حين ألتقيك».

ونقرأ (المستحيل الافتراضي): «حين تختار أن ترحل معي / على متن طائرتي الورقية الملوّنة / بدلا من طائرتك الخاصة النفاثة / تصير حبيبي».

لعلنا فتحنا أبوابا أو نوافذ أمام النصوص الغنائية بعدما بلغت الكتاب العاشر وتنوّعت الرؤى والأساليب، وبرهنت غادة السمّان على أنها تباري الزمن، ولا تقف في محطة واحدة تلوّح لمسافرين ابتعدت ملامحهم وأيامهم.

 

 

فايز الداية