مسافر زاده الشعر - محمود درويش.. د. جابر عصفور

مسافر زاده الشعر - محمود درويش.. د. جابر عصفور

عَبَّرَ شعر محمود درويش عن الروح الفلسطينية المعذبة، فمزج تاريخه الشخصي بنضال شعبه، واستلهم تواريخ العوالم ليضيء صراع وطنه ضد الاحتلال. غمس قلمه في السير الجماعية، والحكايات والأساطير والاقتباسات الدينية، ليقرأ منفاه الذاتي والوطني. وكان في ذلك كله مسافراً زاده الشعر، لا يتحدث إلا به، حتى أصبح قصيدة تتحرك على قدمين، وقلباً يخفق بالعروض، وجسداً تشكّله الحروف. المتذكرون له في هذا الملف، يدركون أنه لايزال حياً. فهو حيًّ في ضمير الشعب الذي زحف وراءه ليواري الجثمان الثرى، بعد أن صعدت الروح لبارئها، وهو حي في وجدان القارئ العربي لقصيدة درويش على مدى نصف قرن، وهو حي مادام الشعر حياً.

أوراق أدبية ذكريات أولى عن محمود درويش

  • رجوته ألا يجري تلك العملية اللعينة. هو أيضا لم يكن يريد هذه العملية. أنا أعرف. أحسست بذلك عندما أخبرني (والدته السيدة حورية)
  • هذه المرة أخذتك القصيدة إلى الأعلى، وعندما حاولت النزول، جاءك شعر الألم، جاعلا منك قصيدته الأخيرة (إلياس خوري)
  • تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني/ووزرِ حياتي/وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،/أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟ (سميح القاسم)
  • لا أكاد أصدق كأنه يلعب معنا أو كأنه يعود بعد قليل بقصيدة جديدة (فوزية أبو خالد)
  • لقد مات محمود درويش وعاش مرات عدة، وكان موته دائماً إيذاناً بالحياة (محمد علي شمس الدين)
  • الجميع الآن يشعرون بأن رحيل محمود درويش فقد حقيقي وخسارة عظيمة للشعر ولفلسطين معاً، لأن محمود درويش وجه أساسي مشرق في الشعر العربي المعاصر. (أحمد عبد المعطي حجازي)

ترجع معرفتي بمحمود درويش إلى السبعينيات، قدمني إليه العزيز أمل دنقل الذي كان أكثر من أخ - ورب أخ لك لم تلده أمك - وكان محمود قد جاء إلى القاهرة من الاتحاد السوفييتي الذي كان يزوره ضمن وفد من الحزب الشيوعي الإسرائيلي، هربا من الاضطهاد الإسرائيلي، وبعد أن دخل السجون الإسرائيلية لخمس مرات ما بين 1961 و1967. وقد انطوى على رغبة اللجوء إلى قاهرة عبدالناصر التي كان يرى فيها أملا في تقريب يوم العودة لكل الفلسطينيين في الشتات. وبالفعل، وصل إلى القاهرة، وسط ترحيب كبير من مثقفيها، ورعاية من الناصريين الذين باركوا عمله مع محمد حسنين هيكل - رجل عبدالناصر- في جريدة «الأهرام» التي كانت لاتزال في ذروة تألقها. وظل محمود في القاهرة إلى أن بدأت السحب القاتمة لعملية استبدال كامب ديفيد بنصر أكتوبر المجيد الذي صنعته دماء آلاف الجنود المصريين. وكنت أعرف شعر محمود درويش عن طريق دواوينه التي كانت توزعها «دار العودة» البيروتية التي كانت قد نشرت له «أوراق الزيتون» (1964) و«عاشق من فلسطين» (1966) و«آخر الليل» (1976) وديواني «العصافير تموت في الجليل» و«حبيبتي تنهض من نومها» (1970) و«أحبك أو لا أحبك» (1972).

وكان رجاء النقاش، رحمه الله، تولى تقديم محمود درويش للوطن العربي كله، فأصبح نجما ساطعا في سماء الشعر العربي بعامة، وشعر المقاومة الفلسطيني بخاصة، وأخذ اسمه يرادف أقرانه من شعراء المقاومة (سميح القاسم وتوفيق زياد وحنا أبوحنا وإدمون شحادة وأمثالهم) فضلا عن أقرانهم السابقين عليهم من شعراء فلسطين مثل عبدالرحيم محمود وفدوى طوقان. وكان شعر المقاومة، في ذلك الوقت، على لسان كل قارئ

وكل عاشق لشعر، أنشودة المقاومة القومية التي لم تكن هزيمة العام السابع والستين قد أماتتها، فقد ظل الوعي القومي منطويا على إلحاح عنيد على المقاومة، إلحاح أجج ناره اكتشاف شعر المقاومة الفلسطينية بوجه عام، وشعر محمود درويش بوجه خاص. وأذكر أن الحماسة الانفعالية التي غمرت الجميع، ومنهم النقاد، إزاء هذا الشعر، هي التي جعلت محمود درويش يكتب مقاله الاحتجاجي «أنقذونا من هذا الحب القاسي» مطالبا بأن تكون النظرة النقدية على وجه الخصوص نظرة موضوعية لا شعيرة احتفالية. وقد كان ذلك وعيا منه بأن الشعر لا يغدو شعر مقاومة حقا إلا إذا كان شعرا أصلا، يحتفى بجماليات الشعر قدر احتفائه بواقع اللحظة التاريخية التي يريد التعبير عنها، وإيمانا منه بأن الفن يقاوم منطلقا من طبيعته الجمالية التي لا ينبغي أن تضيع في ضجيج الخطابة العنترية أو الصرخات الجوفاء.

وكنا قد عرفنا ما يعنيه الالتزام الشعري عند محمود درويش الشاب الذي كتب في ديوانه الأول:

قصائدنا، بلا لون،
بلا طعم.. بلا صوت،
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت.
وإن لم يفهم البُسطاء معانيها،
فأولى أن نذّريها،
ونخلد نحن.. للصمت.

وكانت هذه الأبيات وغيرها مما يماثلها بمنزلة «بيان شعري» يؤكد أن شعر المقاومة من الناس وإلى الناس، وأن فاعليته الحقيقية هي الوصول الفاعل والمؤثر إلى الناس الذين هو منهم ولهم، ولم يقله الشاعر إلا لكي يزيدهم وعيا بما هم فيه، ويؤجج فيهم رغبة المقاومة، وذلك كله في لغة بسيطة بعيدة عن الغموض والتعقيد، أو الجري وراء «الموضات» الزائلة، فالشعر موقف، والكتابة مواجهة والقصيدة رفض لشروط الضرورة غير الإنسانية التي يعانيها الشعب الفلسطيني، ساعيا بكل جهده إلى التحرر منها. ولا يليق بشاعر، يولد وسط الناس ويلتزم بقضاياهم، أن يترك مهمته النضالية ويسعى إلى تيارات الحداثة التي كانت تروّج لها في تلك السنوات مجلة «شعر» اللبنانية التي نسيت، أو تناست، الجذر الأصلي للشعر، من حيث إنه ينبع من الناس «البسطاء ويصب فيهم، وكان جوهر الخلاف، كما ظهر لنا في تلك السنوات هو بأي جناح يطير الشعر؟ جناح الجماليات الخاصة للشعر الصافي؟ أم جناح المضمون القومي المقاوم الذي حمله شعر المقاومة الفلسطينية على عاتقه؟ وكانت إجابة محمود درويش الشاب، في ذلك الوقت، أن الشعر يطير بجناحين، جمالياته وروح مقاومته، وإلا أصبح ناقصا. وكان منطلقه في ذلك إيمانه بعروبته وقوميته على السواء. ولذلك افتتح قصيدته «بطاقة هوية» بقوله:

سجّل
أنا عربي
ورقم بطاقتي خمسون ألف
وأطفالي ثمانية
وتاسعهم.. سيأتي بعد صيف

وهي قصيدة يختتمها بإصرار الفلسطيني العنيد على أن ينتزع حقه السليب من غاصبيه، وذلك بإرادة المقاومة التي لا تهمل حقها، فما ضاع حق وراءه مطالب.

سجّل.. برأس الصفحة الأولى
أنا لا أكره الناس
ولا أسطو على أحد
ولكني.. إذا ما جعتُ
أكلت لحم مغتصبي
حذار.. حذار من جوعي
ومن غضبي.

ولم يكن يونيو الحزين، في العام السابع والستين، قد حلّ بعد حين قال محمود درويش هذه الأسطر. وجاءت الكارثة التي أطاحت بحلم العودة بعيداً، وأصابت عاشق فلسطين في الصميم، لكن بعد ما بدا في قصائده من رؤيا تكاد أن تكون نبوءة، خصوصا حين قال في القصيدة التي جعلها عنوان ديوانه الثاني «عاشق من فلسطين» (1966):

رأيتك في جبال الشوك
راعية بلا أغنام
مطاردة، وفي الأطلال..
وكنت حديقتي، وأنا غريب الدار
أدُقُّ الباب يا قلبي
على قلبي
يقوم الباب والشباك والإسمنت والأحجار

هذه الراعية التي بلا أغنام، مطاردة بلا نصير، هي فلسطين المعشوقة التي أنكرها عاشقوها. ولم يكن محمود يرى من وراء الغيب هذه المعشوقة التي مزقها الإخوة الأعداء بما هو أقسى من تمزيق الغاصبين، لكنه - على الأقل - رأى هوان هذه المعشوقة في وطنها العربي الكبير، ولذلك يمضي في الرمز، مضيفا إليه ما يزيده تجسّداً.

رأيتك أمس في الميناءْ
مسافرة بلا أهل..بلا زادِ
ركضتُ إليك كالأيتام..
أسأل حكمة الأجداد
لماذا تُسحبُ البيارةُ الخضراءْ
إلى سجن، إلى منفى، إلى ميناء
وتبقى، رغم رحلتها
ورغم روائح الأملاح والأشواق
تبقى دائما خضراء.

ولم يقل محمود، مباشرة، وإن قال ضمنا، إن هذه القدرة على البكاء هي قدرة المقاومة التي ستظل، دائما، كامنة في روح المقاوم حتى وهو على صليب الأمل، جرحه ساطع كنجم، يموت واقفا، غيما ينزل المطر.

ولا أنسى أبيات محمود درويش عن راعيته التي تظل في جبال الشوك، مطاردة، تغنيها مطربة شابة بصوت يزلزل جدران المسرح القومي سنة 1970، حين أخرج سعد أردش على خشبته مسرحية ألفريد فرج التسجيلية «النار والزيتون». وهي نص درامي متعدد الأبعاد، البطل الأول والأخير فيه هو الشعب الفلسطيني الذي لا ينسى أشجار الزيتون التي زرعها أسلافه في أرضه التي اغتصبها الصهاينة بمعاونة الاستعمار وتخاذل الحكام العرب وخيانة بعضهم. وقد استعان ألفريد فرج بالوثائق والإحصاءات والحقائق التاريخية، فضلا عن أساليب البانتوميم، وأهم من ذلك غناء شعر محمود درويش على وجه الخصوص. وذلك لإثبات علاقة التولد بين النار والزيتون. أعني نار المقاومة التي تندلع في نفوس أصحاب الحق عندما يغتصب الغاصبون أرضهم فيتحول الشاعر إلى «مغني الدم».

وقد عرفت محمود درويش في إقامته القاهرية الأولى، قدمني إليه أمل دنقل الذي عرفه قبلي، وكان محمود درويش معجبا بشعره، يعامله كأنه شقيق له، خصوصا انهما كانا من جيل واحد، فأمل وُلِد عام 1940 ومحمود عام 1942، إن لم تخنى الذاكرة، وكلاهما شاعر رفض ومقاومة على السواء. وكلاهما لا يزال أبرز شعراء الستينيات بلا منازع، وكلاهما عرف طريقه إلى الصدارة، في وقت مبكر نسبيا فقد أصدر محمود درويش ديوانه الأول «أوراق الزيتون» في عامه الرابع والعشرين، مدفوعا بمرارة هزيمة العام الملعون (السابع والستين) فكتب أمل «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» الذي كان تعبيرا استثنائيا عن شاعرية رفض ومواجهة استجاب لها الوجدان القومي للوطن العربي كله، وكتب محمود، قبل أمل بقليل، مجموعة «آخر الليل» و«العصافير تموت في الجليل». واعتاد الكتابة على ضوء بندقية المقاومة قائلا:

تعالي ننتمي للمجزرة.
سقطت كالورق الزائد
أسراب العصافير
بآبار الزمن

ولا أزال أذكر كيف كان أمل يعشق شعر محمود درويش. وقد تعوّد على إنشاد القصائد التي يكن إعجابا خاصا لها، حين كنا نقضي سويا الساعات الطوال منفردين في غرفة صغيرة، استأجرها أمل لأشهر، فقد كان دائم التنقل، لا يستقر في مكان واحد طويلا، وكان يهوى القراءة في وضع غريب، نائما عكس الاتجاه الطولي للسرير، والديوان الذي يقرأه موضوع على الأرض، يقلب صفحاته التي يقرأ بها. وفي هذا الوضع الغريب، أسمعني بعض قصائد محمود من ديوان «حبيبتي تنهض من نومها». وتوقفنا طويلا عند قصيدة «كتابة على ضوء بندقية». قرأ المدخل الذي تنتظر فيه فتاة إسرائيلية، هي شولميت، صديقها المجند الإسرائيلي (سيمون) الذي ذهب إلى ميدان القتال، ليقضي على الأعداء العرب بالطبع، وبخاصة الفدائيون منهم، ولكن سيمون يتأخر طويلا عن موعده، وتنكسر شولميت في ساعة حائط البار الذي تعارفا فيه ساعات وساعات، إلى أن تتأكد أنه لن يعود إليها، وخلال الانتظار، تتذكر ما كان يقول لها:

نحن في المذياع أبطال
وفي التابوت أطفال
وفي البيت صور

وحين تتأكد شولميت أن سيمون لن يأتي إلى لقائهما الذي اتفقا عليه، تكتشف أن أغاني الحرب لا توصل صمت القلب والنجوى إلى صاحبها، وأن الحرب لا يمكن أن تؤدي إلا إلى المزيد من الحرب والدمار الكامل لكل أطرافها. وتهيم شولميت في ذكرياتها مع سيمون، فهو العاشق الذي أنساها حبها الأول لفتى فلسطيني اسمه محمود، كان صديقا طيب القلب، لا يطلب منها:

غير أن تفهم أن اللاجئين أمة تشعر بالبرد
وبالشوق إلى أرض سليبة

ولم تستمر علاقتهما طويلا، رغم أنها أحبته، فهي تنتسب إلى غاصبي أرضه، وهو ينتمي إلى اللاجئين الذين لا يكفون عن المطالبة بحقهم. ويغيب عنها محمود في سجن الرملة، بعيدا، لكن بعد أن ترك لها كلمات توقع المنطق في الفخ، إذا سارت إلى آخرها، ضاقت ذرعا بالأساطير التي تبعدها ونشأت عليها. وجاء سيمون ليحميها من الحب القديم ومن الكفر بقوميتها:

كان محمود سجينا يومها
كانت الرملة فردوسا له.. كانت جحيم

وها هي تنتظر صاحبها الذي أنقذها من الحب القديم، سيمون الذي كان جنديا وسيما أعاد إليها الإيمان بأساطير أرض الميعاد، فتعلقت به، ولكنه لم يأت في الموعد، وتركها تنكسر في ساعة الحائط ساعات، وتضيع في شريط الأزمنة، فلا محمود بقي، ولا سيمون عاد، وليس سوى أسفلت آخر الليل يشرب أضواء المصابيح، ولا تلمع سوى بندقية، تؤكد عبث الحرب التي تمتد كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، فيغدو الكل ضحاياها، لا فارق فيها بين القاتل والمقتول، ما ظل القتل مستمرا كالطاعون الذي لا يبقي ولا يذر.

وأذكر أن أمل حدثني عن صديقة يهودية أحبها محمود في مراهقته، ولكنه كان حبا محكوما عليه بالإعدام مسبقا، دون أن يقصد، ربما، أتوهم أن اسم محمود في القصيدة هو اسم متعمد لدلالة ما، حتى وإن تغير اسم الحبيبة. وكبر هذا الانطباع، نسبيا، في ذهني عندما تذكرت المرات العديدة التي احتوت فيها محمود السجون الإسرائيلية، وأضف إلى ذلك ما لاحظته من أن اسم ريتا يتكرر في قصيدة «ريتا والبندقية» من ديوان «آخر الليل» (1967) التي يستهلها بالبيت:

بين ريتا وعيوني.. بندقية
الذي تكمله الأبيات التالية:
وأنا أذكر ريتا
مثلما يذكر عصفور غديره
آه.. ريتا
بيننا مليون عصفور وصوره
ومواعيد كثيره
أطلقت نارا عليها بندقيه

الطريف في الأمر أنني لم أسأل محمود درويش، بعد أن أصبح صديقا، عن هذه القصة التي حكاها لي أمل دنقل، ونحن في غرفته الصغيرة التي لم يكن فيها سوى كرسي وسرير وملابس معلقة على الحائط وطاولة بالغة الصغر عليها دواوين الشعر التي كان يقرأها أمل أو يُسمع قصائدها لي. ولا أزال أذكر أننا، في هذه الغرفة، قرأنا قصيدة بالغة الرقة والعذوبة بعنوان «مطر ناعم في خريف بعيد» من ديوان «العصافير تموت في الجليل» (1970) مطلعها:

مطر ناعم في خريف بعيد
والعصافير زرقاءُ.. زرقاءُ
والأرض عيد
لا تقولي أنا غيمة في المطار
فأنا لا أريد
من بلادي التي سقطت من زجاج القطار
غير منديل أمي وأسباب موت جديد

وهي قصيدة تنبني على تكرار أربعة مقاطع، يبدأ كل منها باللازمة النغمية نفسها، ليعيد كل مقطع الدلالة الأساسية في مجلى يختلف عن غيره ظاهريا، لكنه يتجاوب معه جوهريا في معنى الرْجّع الذي يؤكد الشتات الفلسطيني الذي تتحول فيه المواعيد الخضراء إلى سراب، ولا يبقى من الذكرى سوى مصرع الياسمين، وتتحول الراعية بلا أغنام إلى بائعة للموت أو الأسبرين، فيضيع الوطن في المتاهة التي تنسى لهجة الغائبين، ولا يبقى غير منديل الأم التي ظل محمود يذكرها في شعره، ولاتزال باقية، دامعة العينين على ابنها الذي شاركت في دفنه على ربوة بمدينة رام الله، مطلة على القدس العتيقة التي ظلت في قلب محمود.

وأذكر أن أمل كان يبرر إعجابي بقصيدة «مطر ناعم في خريف بعيد» بأن هذا الإعجاب من بقايا الجانب الرومانسي الذي لا أزال أنطوي عليه، فيما كان يقول لي، ولكني لم أكن أعبأ بسخريته فقد كنت، في ذلك الوقت، على يقين بشاعرية محمود درويش الفذة وكانت تذهلني رهافته وقدرته الحدسية في بناء صوره الشعرية، وكنت أقول لأمل: لا تنسَ أن أرسطو العظيم هو الذي قال: «إن الاستعارة هي آية الموهبة الطبيعية وأنها علامة الشاعر العظيم». ولم يكن أمل يجادلني في ذلك كثيرا، رغم عاداته الجدالية، خصوصاً عندما أذكر له مطلع قصيدة «امرأة جميلة من سدوم» في ديوان «العصافير تموت في الجليل»:

يأخذ الموت على جسمك
شكل المغفرة
وبودي لو أموت
داخل اللذة يا تفاحتي
يا امرأتي المنكسرة
وبودي لو أموت
خارج العالم في زوبعة مندثرة

ولم أكن أتوقف على المقطع وحده، فكنت أعبره، مستغلا صمت أمل وإعجابه، إلى بقية المقاطع، مؤكدا بعض الصور التي أذكر منها:

صمت عينيك يناديني
إلى سكين نشوه
وأنا في أول العمر
رأيت الصمت
والموت الذي يشرب قهوه

...

وأنا أنتشر الآن على جسمك
كالقمح كأسباب بقائي ورحيلي

ولا أزال أذكر تعقيباتنا المشتركة، أمل وأنا، على بناء الصور، خصوصا: الصمت والموت الذي يشرب قهوة، أو تشبيه الامتداد على الجسد واحتوائه كالقمح الذي يغدو أسبابا للبقاء والرحيل.

ولم يكن في الأمر غرابة، وأنا أتوقف مع أمل عند الطبيعة الاستثنائية لأمثال هذه الصور التي يكمن جمالها في بساطتها الخادعة للوهلة الأولى. ولا أزال أذكر الصمت والموت الذي يشرب قهوة، والذي ظل عالقا في لا شعور أمل دنقل، فيما يبدو، فظهرت آثاره بعد سنوات في مطلع قصيدة «سفر ألف دال» خصوصاً حين يقول أمل:

القطارات ترحل والراحلون
يصلون ولا يصلون
والسماء رماد به صنع الموت قهوته
ثم ذرّاه كي تتنشقه الكائنات
فينسل بين الشرايين والأفئدة

قد تكون الصلة بعيدة، في رأي البعض، بين الصمت والموت الذي يشرب قهوة عند محمود درويش، والسماء التي تغدو رمادا صنع به الموت قهوته عند أمل، لكني ما قرأت صورة أمل إلا وتذكرت صورة محمود درويش، والعكس صحيح بالقدر نفسه.

يضاف إلى ذلك النزعة الإنسانية التي كان ينطوي عليها شعر محمود درويش، والتي كانت تشدني وأمل إلى شعره، فتحت سطح هذا الشعر، دائما، وتتخلله بما لا يخفى على قارئ بصير، نزعة تسمو على الجنسيات والديانات بالمعنى الضيق، فتمايز بين اليهودي والصهيوني، مؤكدة الرابطة الإنسانية التي تصل بالأول، وتنقطع عند الثاني، فاليهودية ديانة سماوية في آخر المطاف، ومعتنقها إنسان يمكن أن ينطوي على قيم العدل والحق والجمال، بينما الصهيونية عقيدة قمعية، لا سبيل إلى تعايشها السلمي مع الآخرين، بسبب ما تنبني عليه من عناصر عدوانية غاصبة، ولا سبيل إلى تعايش الآخرين معها، ما ظلت تهدد حقوقهم العادلة أو تغتصبها. ولذلك لم يكن هناك ما يمنع من أن تظهر في شعر محمود درويش شخصيات يهودية إنسانية، قاربت العدل وقاربها، ووقفت إلى جانب الحق الفلسطيني، وظلت نموذجا للإنسان الذي يمكن ان يُحَبَّ ويُحِبّ. وأغلب الظن أن «امرأة جميلة من سدوم» هي من هذا النوع، خصوصا حين نقرأ عنها:

للتي أعشقها وجهان.
وجه خارج الكون
ووجه داخل سدوم العتيقة
وأنا بينهما
أبحث عن وجه الحقيقة

أذكر أنني قصصت الكثير من حواراتي مع أمل دنقل على محمود دوريش، وكان ذلك في إحدى إقاماته في القاهرة، وكان يسكن في حي الدقي بالقرب من مستشفى مصر الدولي، وكان وحيدا كالعادة، حريصا على صنع القهوة بيده لضيوفه، فيذكر أمل بالخير والمحبة الغامرة. ولكن الطريف، حقا، أنني لم أتذكر، مرة واحدة، أن أسأله عن حكاية ريتا التي حكاها لي أمل، ولا حتى عن قصر عمر علاقاته بالمرأة بوجه عام، فلم يكن يطيق مؤسسة الزواج، ولا الالتزام بعلاقة ثابتة أو حتى شبه ثابتة، مؤثرا التوحد والعزلة التي لا يسمح بقطعها إلا للمقربين، واهبا نفسه تماما للشعر الذي لم يكن يكف عن الحديث عنه، ورغم أنه كان قارئا نهما للرواية فإن الشعر ظل حبه الأول والأخير، حتى عندما كتب ما يشبه السيرة الذاتية كتبها في نثر لا يخلو من الشعر، أو شعر لا يخلو من صفات النثر، فقط كان يؤمن بما قاله أبوحيان التوحيدي: «أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم».

ولا أزال أذكر حواراتنا الكثيرة، متوحدين معا، أو مع عدد قليل جدا من الأصدقاء المقربين، حينها كان محمود يفيض في آرائه عن الشعر والحياة، وظلَّ يذكَّرني بأمل دنقل في إلحاح كليهما على ضرورة البعد عن التعقيد، وعدم الاستعانة بأساطير أو تراث غير قومي، وضرورة الكتابة التي هي نوع من السهل الممتنع، وعدم التعصب لتيار شعري بعينه، فالشعرية هي الأصل في الشعر وليست الصور والأشكال، والقصيدة تظل هي القصيدة، جماليا، مهما كان القالب، فالأهم من القالب القيمة التي تجعل الشعر شعرا يواجه العدم، ويثري وعي الحياة، ويفضح كل نقص يشوبها، مواجها كل ظلم أو تسلط تحت أي مسمى. وقد مضى محمود، أخيراً، كي يلحق بأمل الذي سبقه بسنوات، تاركا في نفسه مرارة حزن، لم تفارقه، فما كنت أذكر له أمل إلا وتنساب ذكرياته الحميمة معه، وتقديره البالغ لشعره،

ولا أدل على هذا التقدير من أنني، حين كنت الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، أقمت احتفالية قومية لذكرى أمل، وكان محمود درويش أول من فكّرت في دعوته، وأذكر أن صوته امتلأ بالبهجة لاحتفالنا بأمل. وقال لي: لو لم تكن قد دعوتني، كنت سأحضر بنفسي، وبالفعل جاء، وكانت المفاجأة أنه كان قد شرع في كتابة قصيدة عن أمل، قرأ صورتها الأولى على الحضور الذي تأثر بها كل التأثير، وأكملها بعد ذلك، ونشرها في ديوانه المتأخر «لا تعتذر عما فعلت» (2004) بعنوان «في ذكرى أمل دنقل» التي تبدأ على النحو التالي:

واقفا معه تحت نافذة
أتأمل وشم الظلال على
ضفة الأبدية، قلت له:
قد تغيرت يا صاحبي.. وانفَطَرْت
فها هي دراجة الموت تدنو
ولكنها لا تحرك صرختك الخاطفة
قال لي: عشتُ قرب حياتي
كما هي،
لا شيء يثبت أنيِّ حيُّ
ولم أتدخل بما تفعل الطير بي
وبما يحمل الليل من
مرض العاصفة

ويمضي محمود، في القصيدة، متأملا الوجود، فيما يذكر علاقته الشعرية والإنسانية بأمل، في تدافع شعوري رهيف، تتخلله الذاكرة بما هو دال على الحلم الإبداعي لكليهما، حين كانا يعملان جاهدين، كل على حدة، كي يحققا وعد المستقبل الشعري القائم وراء الغيب.

كنا معا، وعلى حِدة، نستحث غدا
غامضا، لا نريد من الشيء إلا
شفافية الشيء: حَدِّق تر الورد
أسود في الضوء. واحلم تر الضوء
في العتمة الوارفة

ولم تكن هذه النبرة إلا بعض ما كان في أعمال درويش الذي كان يعرف اتفاقه مع أمل واختلافه عنه في أشياء، كثيرة، لكنه كان مؤمنا كل الإيمان بأن شهوة المعرفة كانت تجمع بينهما، وتدفعها إلى البحث عن شيء غامض، بالتأكيد هو جوهر الشعر الأليف في عمقه، الرهيف في دلالاته التي لا تكف عن التولد، خصوصا حين خاض كلاهما تجربة المرض. واقتربا من حافة العدم، فرأيا ما لا يرى، ومسهما السحر الذي يظهر حقائق الأشياء ويعرفان السر الذي يجعل الورد أسود في الضوء، والضوء يشع في العتمة الوارفة. ولا ينسى محمود، في القصيدة، أن يتحدث عن أمل، الجنوبي الذي يحفظ درب الصعاليك عن ظهر قلب، ويتحد معهم في السليقة وارتحال المدى. لكنه رغم فوضى الصعلكة، ظل يرى الجمال في النظام، والنظام في الفوضى فهو:

... صارم في نظام قصيدته. صانع
بارع ينقذ الوزن من صخب العاصفة

ولا ينسى محمود أن يذكر الصفة القومية لأمل دنقل، في حواره معه، داخل القصيدة، خصوصا حين يسأل محمود صاحبه:

وهل يصلح الشعر:
ما أفسده الدهر فينا وجنكيزخان
وأحفاده العائدون إلى النهر

فيجيبه أمل: على قدر حلمك تتسع الأرض، والأرض أم المخيّلة النازفة. والإشارة في السؤال إلى سؤال أمل (في ديوانه العهد الآتي): هل يصلح العطار ما أفسده النفط؟

وينتهي الحوار المتخيل الذي تنبني عليه القصيدة بالرحيل، فكل من السائل والمسئول غريب في بلاد لم تعد أليفة، غريبان على جناحين من الأزرق اللانهائي، في سماء رمادية مثل لوح الكتابة قبل الكتابة، ما بين الضباب وبين السراب، لا شيء يفرحهما قرب بيت الحبيب الذي ازداد تباعدا ونأيا وعمقا في الغياب، فلا يتبقى سوى الروح حائرا، آسفا، لا شيء يثبت أنه حي أو أنه ميت.

وكان واضحا من منحى القصيدة التحول الذي أصاب شعر محمود درويش بعد أن عاين الموت في عمليتين للقلب، كتب عن الثانية منهما «جدارية محمود درويش» التي كتبها قبل قصيدة أمل بسنوات، وتداعت على ذهنه، وعلى طريقة التناص فيها، بعض صور أمل دنقل من قصائد «أوراق الغرفة 8»، وهي الغرفة التي مات فيها أمل بالمعهد القومي للسرطان في مصر. ولحقه محمود بعد سنوات ليرى معه: الحقيقة والأوجه الغائبة.

 

 

جابر عصفور