محمود درويش في مراحله.. من الخطوط المستقيمة إلى الزوايا والدوائر

محمود درويش في مراحله.. من الخطوط المستقيمة إلى الزوايا والدوائر

  • قف الآن محمود! لا بد من كِلْمَةٍ في الوداع.. /تقول لأمك إن فتاها البهيّ الوسيم.. غدا / الآن طفل الزمانْ (د. غازي القصيبي)
  • محمود درويش واحد من أكبر شعراء العربية على امتداد عصور الشعر العربي، بل من أكبر شعراء العالم المعاصر كله (د. جابر عصفور)
  • كأنك يا محمود اليوم أول الداخلين الى فلسطين، وكأن فلسطين أول الواصلين إليك (بول شاوول)
  • الأشخاص الكبار مثل محمود درويش يقربوننا من الحرية مهما كانت بعيدة عنا. (ماجدة الرومي)
  • ربما يكون محمود درويش هو أكثر من مثـل كلمة شاعر في الثقافة العربية الحديثة صورة وصوتا ومعني وتوقعا. (ايمان مرسال)

نستطيع أن نأخذ نماذج شعرية متعددة من قصائد محمود درويش (1941 - 2008) المبكّرة التي كتبها خلال إقامته داخل الأرض المحتله (فلسطين)، لنشير من خلالها إلى أسلوبه الشعري في مراحله الأولى، في تعامله مع المعاني والصوَر والألفاظ، سواء كانت هذه المعاني وطنية تتعلق بالأرض والوطن والعلاقة مع المحتل ووصف الناس وصراعهم من أجل البقاء، أو كانت ذاتية غنائية تتعلق بالحب والمرأة والعناصر، وغالبًا ما كان يمزج الشاعر بين الأرض والحبيبة أو المرأة، لجهة أن ثمة ما يجمع بين الأرض والعرض في ذاكرة «العربي»، وأن اللغة العربية قدّمت المفردات والرموز الكفيلة بإبراز هذه العلاقة، فجاء في الذكر الحكيم نساؤكم حرث لكم... . والحرث في الأساس هو فعل شقّ الأرض بالمحراث، ويقال «فتح الأرض» و«أرض الفتوح»، كما يقال «أرض بكر» و«أرض مغتصبة».. إلى ما هنالك من عبارات في اللغة توجد صلة التماثل بين الأرض والمرأة.

1 - مرحلة الخطوط المستقيمة

في دواوينه الأولى، مثل «عاشق من فلسطين» و«أوراق الزيتون»، كان درويش يمضي إلى مآربه الشعرية، على خطوط مستقيمة. وهي تعني المباشرة في المعنى، والسهولة في اللغة مع القليل من المجاز، وتسمية الأشياء بأسمائها، بلا مواربة أو مناورة بيانية أو بلاغية، فأوراق الزيتون هي أوراق الزيتون، والعقال والكوفيّة هما العقال والكوفية، والزيت والزعتر هما الزيت والزعتر.. وهكذا إلى آخر المفردات الحقيقية غير المجازية، والأساليب المباشرة في القول الشعري، التي كانت عُدّة الشاعر لتعبير.. (على غرار ما جاء في إحدى قصائده المبكّرة الشهيرة وهي «سجّل أنا عربي»)، فهو في التفاصيل يقول:

«سجّل أنا عربي
ولونُ الشعر فحميُّ
ولون العين بُنيُّ
وميزاتي:
على رأسي عقال فوق كوفيّة
وكفي صلبة كالصخر
تخمش مَن يلامسها
وأطيب ما أحب من الطعامِ الزيت والزعتر وعنواني:
أنا من قريةٍ عزلاء منسيّة
شوارعُها بلا أسماءْ
وكل رجالها في الحقلِ والمحجرْ
يحبّون الشيوعيّة
فهل تغضبْ؟»

فوصف الحال الوطني والاجتماعي والسياسي في هذه القصيدة، وصف مباشر، مكشوف، واللغة سهلة مأخوذة مباشرة من أفواه الناس، والقصيدة موزونة على أساس «مفاعيلن» و«مفاعلتن»، وتنطوي على قواف متعددة، وهذه الخطوط المستقيمة واللغة السهلة الوسيطة بين الفصحى والعامية، وتناول المعاني بالألفاظ المباشرة، مسائل اشتهر بها نزار قبّاني وبقي محافظًا عليها من أوائل دواوينه «طفولة نهد» و«سامبا» حتى آخر دواوينه، فكان إمام الطريقة الظاهرية في الشعر العربي الحديث والمعاصر، (كما كان ابن حزم الأندلسي إمام المذهب الظاهري في الفقه)، فإن أوائل قصائد نزار شبيهة بأواخرها لهذه الناحية... إلا أن محمود درويش، وإن بدأ ظاهريًا في طريقته الشعرية، فإنه عاد فارتدّ إلى الباطنية التعبيرية، على غرار معظم شعراء الحداثة العربية، حيث يلعب الرمز الشعري والأسطورة والقناع واللغة حمّالة الأوجه والغموض، دورًا أساسيًا في صنع القصيدة.

ولعل انتقال محمود درويش المبكّر في العام 1968 إلى خارج الأرض المحتلة، وخروجه من الحصار الثقافي الذي كان يعيش فيه، واحتكاكه بنظريات الحداثة الشعرية العربية والعالمية، وشعرائها، وتجمعاتهم ومجلاتهم، كان له الدور الكبير والحاسم في تطوّر الأسلوب الشعري للشاعر، وخروجه التدريجي، ومن ثمّ الحاسم والأخير، من الخطوط المستقيمة للشعر، والطريقة الظاهرية للكتابة، إلى الخطوط المتعرجة، والزوايا، وأخيرًا الدوائر، مع ما في ذلك من تحوّل واقتحام ومغامرة تعبيرية، ظهرت علاماتها في دواوين درويش الأخيرة، نشير من بينها على وجه الخصوص إلى «هي أغنية... هي أغنية» و«سرير الغريبة» و«لماذا تركت الحصان وحيدًا» و«لا تعتذر عمّا فعلت» وبخاصة «جدارية» و«كزهر اللوز أو أبعد».

2 - مرحلة الزوايا والدوائر

في هذه المرحلة، بدأ قلق محمود درويش يتعاظم، لأنه تحوّل من قلق وطني على فلسطين، وهي بلاده المحتلة، إلى قلق ذاتي ووجودي وشعري. وقد بدأ يغادر يقين الفكرة عن الوطن والأرض والحبيبة والاحتلال والمقاومة والعودة... إلخ نحو التباسات كثيرة، وينتابه دوار الشعر بخدره الغامض والمؤلم.. هذا الدوار هو دوار غنائي وإنشادي بالضرورة، وظهر درويش مشمولاً بمن سمّاهم هو في «الجداريّة» بـ«المرضى الغنائيين» الذين:

«إذا رأوا حلمًا جميلاً
لقّنوا البَبَغاء شعر الحبّ
فانفتحت أمامهم الحدود»

في «الجدارية» (العام 2000)، وهي في الذروة من أعماله، تظهر القصيدة خضراء عالية وفردوسيّة، لكن يطل عليها هو من بطحاء الهاوية... فهو مع القصيدة في «جحيم مكيّف». تتلاطم في القصيدة ثنائيات كثيرة، ويقود الشاعر سفينته في عاصفة مثيرة من جدال غامض في الأزمنة والأمكنة والموت والحياة والمهد واللحد والهويّة.. إلخ. ووقت القصيدة المعلّق بين الموت والولادة يتفتح عن انخراط الوعي باللاوعي، والشيء بالرمز، والمحسوس بالمجرّد.. وكل ما ذكرنا باللغة، واللغة بالموسيقى. إننا في «الجدارية» في (القصيدة - الدُوار) (Vertigo) ودرويش فيها غائم، وملتبس وغامض. وكل شيء داخل في دائرة الغموض: الهويّة: أنا وهو. أنا والعدوّ. إنها قصيدة فلسطينية لكن بإشكالية. يقول:

«حبّة القمح الصغيرة سوف تكفيني أنا وأخي العدوّ
لعلّ شيئًا فيَّ ينبذني
لعليّ واحدٌ غيري
وأنا البعيد أنا البعيد...
مَن أنتَ؟ يا أنا في الطريق اثنان نحن
وفي القيامة واحدٌ
.. خذني إلى ضوء التلاشي كي أرى صيرورتي في صورتي الأخرى».

أكاد أقول هذه القصيدة «مسيحية»... فممّا ورد على لسان السيد المسيح في الأناجيل: «أقول لكم: باركوا لاعنيكم. أحبّوا مبغضيكم. أحسنوا إلى من أساءوا لكم...».

وأكاد أقول أيضًا إنّ محمود درويش، في مواقع أخرى من «الجدارية»، ومن ديوان «حالة حصار» (2002) يشبه القتيل الذي يرثي قاتله، أو يعتبره نصفه الآخر - شِقّه الآخر -.

ففي «حالة حصار» التي كتبها الشاعر في يناير 2002 في رام الله أثناء حصار الدبابات الإسرائيلية لها (ما يعني أن القصيدة نضجت ثمارها في زمن المذبحة)، يفاجئنا الشاعر بما يشبه هدوء الربّان المستلقي على مركب في وسط عاصفة هوجاء.. ويعدّ النجوم. إنه يفعل ما يفعل السجناء والعاطلون عن العمل «يربّي الأمل».

ويتفجّر في القصيدة نبع إنساني عجيب، من خلال انجذاب الشاعر المحاصر، لعذوبة الحمامات الطائرة، والنجوم اللامعة، والحب اليومي، والضجر، والسخرية.. والدعوة الحارة للآخر وللعدوّ، للانخراط في هذه الحياة بمواقعيتها وجمالها البكر، وكأنه يستعيد جملته التي يقول فيها:

«على الأرض ما يستحقّ الحياة»
يقول في حواره مع قاتله:
«لو تأملت وجه الضحية
وفكّرت
كنتَ تذكّرت أُمَّكَ في غرفة الغاز
كنت تحرّرت من حكمة البندقية
وغيّرتَ رأيك:
ما هكذا تُستعاد الهويّةْ»
يرى درويش أنّ عدوّه نصفه:
«أنا أو هو
هكذا تبدأ الحرب لكنها
تنتهي بلقاءٍ حَرِج:
أنا وهو»
ويقول بلسان معتَقَلٍ، للمحقّق:
«لا أحبّكَ لا أكرهُكْ
قلبي مليء بما ليس يعنيك»

وينهي نشيده بنداءات السلام التالية، معتقدًا، وياللمفارقة! ومن موقعه كضحية (وهو موقع فلسطيني بامتياز)، أن السلام هو الأصل، وأنّ الإنسان أخو الإنسان، وليس كما قال هوبز «الإنسان ذئب الإنسان»:

«سلامٌ على من يشاطرني الانتباه إلى نشوةِ الضوء
سلام على من يقاسمني قدَحي
السلام كلام المسافر في نفسه
السلام حمام غريبين
السلام حنين عدوين للتثاؤب فوق رصيف الضَجَر
السلام أنين محبين
السلام اعتذار الثويّ لمن هو أضعف منه سلاحًا
السلام انكسار السيوف أمام الجمال
السلام قطار يوحّد سكانه
السلام نهار أليف
السلام اعتراف علانية بالحقيقة: ماذا فعلتم بطيف القتيل؟
السلام هو الانصراف إلى عمل في الحديقة».

نحن هنا أمام شعر حكمي وتعليمي. ولعله فيه الأقرب لسياسية القول الشعري.. هذه السياسية المباشرة التي كان درويش بدأ بها شوطه الشعري، ثم غادرها ليعود إليها في «حالة حصار»، مع تعديل في الحسّ والرؤية... ولكن ذلك، جزء من تأمّل وتفكّر درويش، وليس كلّ الشاعر. لقد حاول توسيع سجنه بالقصيدة، وشدّ فعل (القصيدة - الغناء) خاصة في «الجداريّة»، إلى بعض الحدود الميثولوجية، ما جعل الإلهة الكنعانيّة «عناة» تغنّي قصيدته عن التكوين، وما جعل الرافضين للحياة أو العازفين عنها، يقعون عليها فجأة في «جناح فراشة علقت بقافية»، وهو ينتصر على الموت بالقصيدة:

«هزَمتكَ يا موتُ الفنون جميعها
هَزَمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلّة المصري
مقبرة الفراعنةِ
النقوش على حجارة معبدٍ
هزَمتكَ وانتصرتْ
وأفلتَ من كمائنكَ الخلود
فاصنعْ بنا واصنعْ بنفسكَ ما تُريدُ»

و«الجداريّة» قصيدة الشاعر العائد من الموت على مركبة الشعر.

والحياة والموت والمركبة والشعر، كلمات. من أجل ذلك جاء نسيج القصيدة - الحياة شبكة من كلمات، هي تقنية الشاعر وأداته وحيلته في ممارسة الحياة - الكلمات، ضدّ الموت.

ودرويش لاعب بارع بالكلمات، كلاعب سيرك على أعلى حدود الدربة والخطر. يناور بها ويداور ويلعب ويغامر حتى تحسب أنها أفلتت من يده، لكنه ما يلبث أن يستردها لأصابعه. وفي هذا اللعب تظهر الكلمات وكأنها أخذت مداراتها وتداعياتها الأوتوماتيكيّة في

ما يقترب من الكتابة الآلية السريالية. لكنّ تقنيّة درويش قائمة بين القصد والآلية، بين الوعي والغيبوبة، فهو يمسك بالكلمات في دورانها واندفاعاتها بعصب مدرّب. إنه يكتب «القصيدة - الأناشيد»، و«البيت - المقطع»، حيث يختار «كلمة - نواة» ينتظم حولها «البيت - المقطع» وتنتظم من هذه (لأبيات - المقاطع)، القصيدة في الإنشاد.

وهي تقنيّة محكمة، تجعل القراءة، بالنسبة للقارئ العارف بها، متوقّعة إلى حد كبير، بالإمكان، من خلال (الكلمات - المفاتيح)، التخمين بالكثير من احتمالات القصيدة.. ما يجعل الشاعر صاحب أسلوب وتقنية تخصانه. فلو أخذنا مثلاً كلمة «أعرف» «كمفردة - مفتاح» لبيت مقطعي في «الجدارية»، فإننا نرى أنه ينسج نسيجه المقطعي على الشكل التالي:

«أعرف هذه الرؤيا
وأعرف أنني أمضي إلى ما لست أعرف
ربما مازلت حيًا في مكانٍ ما
وأعرف ما أريدُ».
مثل ذلك (المفردة - المفتاح): «يوجعني»:
«كل نبض فيك يوجعني
ويرجعني إلى زمن خرافيّ
ويوجعني دمي والملح
يوجعني
ويوجعني الوريدُ»
وقوله: «أنا من هناكَ
هُنايَ
يقفز من خطايَ إلى مخيّلتي
أنا مَن كنت أو سأكون
يصنعني
ويصرعني
الفضاء اللانهائيّ المديد»

تظهر الولادات اللغوية في قصائد درويش طيّعة وكثيرة التفريع والتدوير والجناس والطباق والتورية.. حتى لكأنّ الشاعر أجرى عقد زواج مع اللغة... وهي ليست لغة مشاكسة بكل حال، فهو ليس شاعر تأتأة ولعثمة ولا يصارع قرون الكلمات:

«هذه لغتي
وهذا الصوت وخز دمي
ولكنّ المؤلف آخَرٌ
أنا لستُ مني إن أتيتُ ولم أصِلْ
أنا لستُ مني إنْ نطقتُ ولم أقُلْ...»
... «لو أخضعتُ عاطفتي بحرف الضاد
تخضعني بحرف الياء عاطفتي»
.. «وأنا الغريب تعبتُ من درب الحليب إلى الحبيب»
...«يضيق الشكل يتسع الكلام»
...«أفيض عن حاجات مفردتي»..
...«غَبَشُ التشابه بين بابين: الدخول أم الخروجُ ولم أجد موتًا لأقتنص الحياة
ولم أجد صوتًا لأصرخ».
...«الوقت صفرٌ لم أكنْ حيًا ولا ميتًا ولا عَدَم هناك ولا وجود».
...«وحين طار الموت بي نحو السديم
أنا الفقيدُ أم الوليدُ؟»

هذه النماذج الشعرية تقدّم ملامح الخريطة الجينيّة لقصائد محمود درويش الجديدة. والعبارة المفتوحة على شتّى الاحتمالات تجعله ينقسم ويتعدّد ويغادر الخطوط المستقيمة نحو الدوائر، فالدائرة ليس لها بداية ولا نهاية، وشعره ذاتي وجماعي، يقول: «سأصير يومًا ما أريد» ويطوّرها لتصبح: «سنصير يومًا ما نريد». لكنّ هذا المقدار من الوضوح، يخلي بعد ذلك مكانه لغبشيّة من الاحتمالات، وضدّيات كثيرة نحسّ بأنها تتهاتر وتتكامل في وقت واحد، فهو يقترح على نفسه اقتراحات كينونته ويحاورها، ونلمح فيها المقيم والوافد، والمقتول والقاتل، والضحيّة والجزّار، واللغة تصوغ هذا الإنشاد المتلاطم في شعر درويش في ما يشبه الدور المفتوح «لا الرحلة ابتدأت ولا الدرب انتهى».

«لم يبلغ الحكماء غربتهم/ولم يبلغ الغرباء حكمتهم».

ويندفع درويش نحو (القصيدة - اللغة) اندفاعة الفريق الذي فقد، في البحر الهائج الذي هو فيه، أي أمل بالخلاص، فوقع على طوق الخلاص: «القصيدة - اللغة»... فلا الوطن يشفي ولا المنفى. وهذه العتبة من الشعر، أي إقامة محمود درويش في القصيدة، هي أعلى عتباته، وأهمّ مراحله التكوينية، سواء كان شعره ذاتيًا أو وطنيًا أو وجوديًا تأمليًا، وسواء تكلم عن الحياة أو الموت أو الأمل، فالقصيدة لديه أصبحت تفيض عن معانيها ومناسباتها، لجهة الصورة واللغة:

«... وأنا أريد أن أحيا
فلي عملي على جغرافيا البركان
ويتحوّل كل شيء إلى موسيقى في اللغة ونقر على نوتات الحروف والكلمات:
«واسمي
وإن أخطأت لفظ اسمي
بخمسة أحرف أفقيّة التكوين لي:
ميمُ المتيّمِ والميتّم والمتمِّمِ ما مضى
حاء الحقيقة والحبيبة حيرتان وحسرتان
ميمُ المغامرِ والمُعِدُّ المستعدُّ لموتِهِ
الموعود منفيًا مريضُ المُشتهى
واو الوداع الوردة الوسطى
ولاء للولادة أينما وُجِدَتْ
ووعد الوالدينْ
دالُ الدليل الدرب دمعة دارةٍ دَرَسَتْ
ودوريٌّ يدلّلني ويدميني
وهذا الاسم لي = محمود = مـ.. حـ.. مـ... و.. د»

وانطلاقًا من امتلاكه لهذا الاسم، يمتلك كل شيء.. ما افتقده ومالم يفتقده: الطفولة، المدن، الذكرى، الوطن، المنفى، الرصيف، آية الكرسي، المفتاح، الحرّاس، أثر الدموع على جدار البيت.. إلخ.

وحين تراه وقد اكتسب كل شيء انطلاقًا من اسمه (هويتي) يفاجئنا بأنه يترك كل شيء للخسران، بضربة واحدة:

«أما أنا
وقد امتلأت بكل أسباب الرحيلِ
فلستُ لي
أنا لست لي
أنا لستُ لي».
....
.....

يستفيق في محمود درويش هذا المعنى، في ديوانه، لا تعتذر عمّا فعلت»... ففي قصيدة «في حكمة المحكوم بالإعدام» يقول:

«لا أشياء أملكها لتملكني»

ولحظة التخلّي هذه ليست خطة ميتافيزيقيّة أو صوفيّة، على غرار ما يقول الدرويش الصوفي:

«دنيا لا يملكها مَنْ يملكُها
أغنى من فيها سادتُها الفقراء»

فهي حكمة الغنى المطلق للفقر المطلق.

إن تخلّي محمود درويش ليس انسحابًا من العالم بمقدار ما هو ارتطام دامٍ لأجنحة الطائر بجدران قفصه.. وهي (أي صرخة) طالعة من داخل سيرته وصيرورته كفلسطيني موسوم بالقهر السياسي والاجتماعي المزمن، لكنها متحوّلة بين يديه، إلى مزمار، وفي سفينته، إلى كلمات وإنشاد وإيقاعات موسيقيّة. فهو كبطل درامي شكسبيري لم يبق له سوى «الكلمات.. الكلمات... الكلمات». وقد انتقل في قصائد «لا تعتذرْ..» من مرحلة الدوران الصوري والبصري إلى الدوران اللغوي والصوتي من خلال الارتدادات اللغوية والترجيع الصوتي، والحوار، والحوار في الحوار، والقوافي، والقوافي في القوافي، وتصريفات الألفاظ والتكرار والإلحاح والتقطيع والوصل والفصل، إلى ما هنالك مما يجعل من شهوة الإيقاع في شعره، ما يشبه القلق الموسيقي المحض، ويطلع الشعر من جوف النصّ، كما يطلع بخار من جوف غابة أو من بحيرة.

يقول في قصيدة «لم أعتذر للبئر»:
«... ودرتُ حول البئر حتى طرتُ من نفسي
إلى ما ليس منها»
ويقول: «قتلتِني
ونسيت مثلكِ أن أموت
ويقول: «إن شئت أن أنسى ذكرت»
ويقول: «أما أنا فأقول لاسمي: دعْكَ عنّي..».

فدرويش كوّر خطوطه المستقيمة، وصار يطلّ علينا من الجانب الآخر للصورة، ولكنه دائمًا شديد الانضباط في الإيقاع، وشعره بأوزانه الخليلية الكاملة، أو المؤسسة على تفعيلة في وزن، لا يشذّ عن ذلك ولا يجنح نحو قصيدة نثر. صحيح أنه أخذ من أبي حيّان التوحيدي جملة كان كتبها في «الامتاع والمؤانسة» (الليلة الخامسة والعشرون) وأثبتها في الصفحة الأولى من ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد») 2005( وهي التالية:

«أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه النثر، ونثر كأنه النظم..»، ولكنْ أحرى بنا أن نفهم رأي أبي حيان في الشعر، وقد اتكأ عليه درويش، ليستقيم لنا تاليًا رأي درويش. إنه باختصار، يعتبر الوزن أساسًا في الشعر، ومثله محمود درويش. فإنه، أي درويش، على تنويعه الإيقاعي، وقدرته على اللعب بالأوزان والتفاعيل، يبقى شديد الانضباط، فلا ينثر الوزن ولا يرسله، حتى ولو كان حاملاً لجمل معترضة، أو لشكل الحوار، كما في قوله في قصيدة «منفى 3» (من ديوان كزهر اللوز..).

ولعل ما رمى إليه واستفاده في قصائد ديوان «كزهر اللوز أو أبعد»، من جملة أبي حيان التوحيدي، هو مسألة إدخال التأمّل العقلي في الشعر، فبروق شعره المضيئة بالمجاز والصورة والعاطفة، تكشف نواحي المعنى كما أن إنشاده الذي كان يميل ليكون محض إنشاد، ترك المجال لبعض الأسئلة الثقافية والوجودية لاختراقه. ليس محمود درويش من مجانين الشعر في التجربة الشعرية العربية الحديثة، ولا من صعاليكه، على غرار الهامشيين وأصحاب الخبط السريالي والهذياني، ولا من أصحاب الشطح الصوفي - فهو صاحب تقسيم هندسي وصوتي، ومعماري. صحيح أن المجاز لديه سيّد الأحوال، والمعنى غسَقي وملتبس، واللغة تدور على نفسها فتغدو جزءًا من حيرة الشاعر، إلا أن كل ذلك ممسوك بيد قائد أوركسرا بارع، ولا مجال لارتجال أو شطح.

وعلى الرغم من التعدد: أنا، أنت، هو، هي.. إلخ والتشظي، والتهاتر، فإننا نعثر في الجوهر الشعري، على مزيج عجيب بين الحياة والموت، اليأس والأمل. صحيح أنه يقول «الحياة بديهيّة وحقيقية».

لكنه ما يلبث أن يشبهها التشبيه العدَمي بالهباء فيقول:

«الحياة بديهيّة وحقيقيّة كالهباء»

وصحيح أنه قال:

«على الأرض ما يستحقّ الحياة»

وأن له عمله على «جغرافيا البركان» (الجداريّة) وأنه جاء لكي «يربّي الأمل» (حالة حصار)، إلا أن شعره أكثر دوارًا وشكًا والتباسًا من هذا اليقين، أكاد أقول إنّ يقين مشرّب بالعدميّة، وإن الحياة مجروحة بالكلمات.

«لوصف زهر اللوز
تلزمين زيارات إلى اللاوعي
ترشدني إلى أسماء عاطفة معلقة على الأشجار
ما اسم هذا الشيء في شعريّة اللاشيء؟»
(قصيدة لوصف زهر اللوز).

وأحيانًا تراه يتسلّى بالكتابة ثم يركلها:

«الكتابة جرو صغير يعضّ النَدَمْ
الكتابة تجرح من دون دَمْ».
(من ديوان «حالة حصار»).
...

 


محمد علي شمس الدين