يوميات «أثر الفراشة»

يوميات «أثر الفراشة»

  • لا يا محمود أيها الشاعر العظيم نحن لا نحبك ميتاً لنقول لقد كان منا, بل نحن سنقول لقد كنا نحن منك. (حسن طلب)
  • هل هذا هو سرير الغريبة الذي بحثت عنه يا محمود درويش؟ أم هو سرير الغريب، أنت الغريب عن الأرض وعن سرير طفولتك وأحلامك؟. (صباح زوين)
  • الشاعر الفقيد محمود درويش كان من الشعراء الكبار الذين لا يتكررون على مدى قرون طويلة. (هاشم شفيق)

«أثر الفراشة» عنوان شعرى طائر أطلقه محمود درويش على آخر ما نشره من كتب عام 2008 قبيل رحيله، لكن المدهش أنه صنفه بعنوان فرعى آخر هو «يوميات»، والمعروف أن اليوميات نوع من الكتابة النثرية البحتة للمذكرات والخواطر العابرة التى يسجلها الكاتب يومًا بيوم؛ فهى بطبيعتها لابد أن تكون تلقائية مرتبطة بلحظة الكتابة وقصيرة نسبيًّا ومعنية بالشأن اليومى المتغيّر. لكن فى حالة ما إذا كان كاتب اليوميات شاعرًا هل نتوقع منها أن تخلو من الشعر ومغامراته أو محاولاته على الأقل؟ ثم ما هو موقف درويش من إشكالية الشعر والنثر؟. أذكر أنى سمعته منذ فترة يقول «صحوت ذات يوم فإذا بى أجد نفسى مصنّفًا من الشباب باعتبارى شاعر تفعيلة، ولما كانوا لايعتقدون أن هذا الزمن هو زمن قصيدة النثر فقد صرت إذن شاعرًا انتهت صلاحيته». وأعرف أنه قد اجتهد بعد ذلك ليبرهن لهؤلاء على قدرته فى كتابة قصيدة النثر وإن كان قد سماها «نصوصًا» وألقى بعضها فى أمسياته الأخيرة. لكن هذا الكتاب الجديد الذى أطلق عليه يوميات ينبئنا عند قراءته بأمر بالغ الأهمية فى رؤية محمود درويش للشعر؛ إذ يفصل بكل حسم بين الشعر والنثر، حيث يعطى للقصيدة الموزونة حقها من التمييز فى النبرة وطريقة الكتابة وتوزيع السطور، كما يعطى للخواطر النثرية طابعها الخاص فى بنية التركيب اللغوى والإطار الشكلى دون أدنى خلط بين المستويين، وإن كان كل منهما يشكل قطبًا فى حياة الشاعر وشواغله اليومية ونوع كتابته يتجاور ويتحاور مع القطب الآخر فى فضاء نصىّ مشترك.

البنت / الصرخة

والطريف أن النص الأول فى «أثر الفراشة» وهو بعنوان «البنت / الصرخة» خالص الشعرية فى إيقاعه وكتابته وبنيته التخييلية إذ يقول:

على شاطئ البحر بنت. وللبنت أهل
وللأهل بيت. وللبيت نافذتان وبابْ.
وفى البحر بارجة تتسلى / بصيد المشاة على شاطئ البحر
أربعة، خمسة، سبعة / يسقطون على الرملِ
والبنت تنجو قليلاً / لان يدًا فى الضبابْ
يدًا إلهيةً أسعفتها / فنادت : أبى
يا أبى قم لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا
لم يجبها أبوها المسجّى على ظلّه / فى مهبّ الغياب
دمٌ فى النخيل، دمٌ فى السحاب
يطير بها الصوت أعلى وأبعد / من شاطئ البحر
تصرخ فى ليل بريّة، لا صدى للصدى
فتصير هى الصرخة الأبدية فى خبر عاجل / لم يعد خبرًا عاجلاً
عندما / عادت الطائرات لتقصف بيتًا بنافذتين وباب»

التخييل السردى هو السمة الظاهرة فى هذه المقطوعة، فهى تحكى ما حدث للبنت وأبيها وبيتها من قصف، جاء أولاً من البارجة فى البحر للتسلية وهى تمشى على الشاطئ، وعندما ظنت أن هذا هو جرمها وهرعت إلى بيتها جاءها القصف أيضًا من الجوّ. فى صرخة أبدية فى كل الأحوال. لكننا لا نلبث أن ندرك أن هذا المعنى الحرفى النثرى للسطور الذى يصف مشهدًا تلفزيونيًّا تكرر على الشاشات وانخلعت له قلوب المشاهدين ليس كافيًّا للدلالة على محتواها بأية حال، فلابد أن البنت قد صارت أبعد من أية فتاة عادية، أصبحت رمزًا، ولابد أن البحر والشاطئ والأب والبيت بنافذتيه وبابه، كل ذلك قد اكتسب كثافة رمزية يتعين على القارئ أن يبحث لها عن مدلولات أوسع فى الواقع الفلسطينى، إذ يمكن للشاطئ أن يكون غزة وللبيت أن يكون الضفة، كما البنت الصارخة ربما تكون هى طفل الحجارة والأب المسجّى فى ظله هو الجيل الذى صرعته القضية، كما أن البارجة يمكن أن تكون القوة الأمريكية والطائرة هى الإسرائيلية، إلى جانب احتمالات رمزية أخرى تجعل الدلالة الشعرية ليست محصورة فى المعنى الحرفى بل قابلة للتمدد والتجدد والتأويل طبقًا لأفق المتلقى وما ينتظره من النص. ثم إن الصورة بأكملها، وفواصل القافية البائية المحددة لحركات النص إيقاعيًّا فى باب / ضباب / الغياب / السحاب / باب تؤطر النص شعريًّا وتصبغه بألوان الدم التى تغطى الأفق ابتداء من النخيل وحتى السحاب الذى ترتفع إليه الرؤية التشكيلية.

كقصيدة نثرية

هذا هو عنوان النص الثالث «أثر الفراشة» وهو مكتوب بسطور متتالية دون بياض شاغر، كما أنه يربط بين طرفين متباعدين عن طريق تشبيه تلقائى غريب يرى أن الصيف مثل قصيدة النثر، لنقرأ النص لنعرف رؤية درويش لقصيدة النثر وما هى مكوناتها وأهميتها بالنسبة إليه:

«صيف خريفىّ على التلال كقصيدة نثرية. النسيم إيقاع خفيف أحسّ به ولا أسمعه فى تواضع الشجيرات. والعشب المائل إلى الاصفرار صور تتقشّف، وتغرى البلاغة بالتشبه بأفعالها الماكرة. لااحتفاء على هذه الشعاب إلا بالمتاح من نشاط الدّورى، نشاط يراوح بين معنى وعبث. والطبيعة جسد يتخفف من البهرجة والزينة، ريثما ينضج التين والعنب والرمان ونسيان شهوات يوقظها المطر. «لولا حاجتى الغامضة إلى الشعر لما كنت فى حاجة إلى شئ» يقول الشاعر الذى خفّت حماسته فقلّت أخطاؤه. ويمشى لأن الأطباء نصحوه بالمشى بلا هدف لتمرين القلب على

لا مبالاة ما ضرورية للعافية. وإذا هجس فليس بأكثر من خاطرة مجانية، الصيف لا يصلح للإنشاد إلا فيما ندر، الصيف قصيدة نثرية لا تكترث بالنسور المحلّقة فى الأعالى».

هاهى خصائص قصيدة النثر عند درويش ظاهرة للعيان، فهى ذابلة فى شعريتها مثل الصيف الملتبس بالخريف، وهى ذات إيقاع خفيف تشعر به ولا تسمعه لتتحقق من وجوده، صورها متقشفة مثل العشب المصفّر وبلاغتها خفية ماكرة، ليس فيها نشاط دلالى إلا النزر المتاح من حركة العصافير الكسلى، لذلك تتراوح بين المعنى والعبث، هى جسد طبيعى لا شهوة له ولا زينة فيه، ليست مثل الطبيعة التى كان يتحدث عنها ابن الرومى فيقول إنها تتبرج «تبرج الأنثى تصدّت للذكر»، لكن المشكلة أنها تعبر عن مجرد توق للشعر دون أن تصير تحقيقًا كاملاً لحضوره، يمارسها الشاعر المريض ? مثل المشى الصحى ? ليمرن عضلات قلبه على اللامبالاة. من هنا فهى «مجانية» كما يقول منظروها بالضبط، لا تصلح بطبيعتها للإنشاء إلافيما ندر، ولا يمكن أن ترتفع إلى سماء القصائد المحلقة كالنسور.

الحوار مع الموت

لا أعرف شاعرًا عربيًّا محدثًا أطال التحديق فى وجه الموت مثل محمود درويش، صحيح أن السياب تقاطرت نفسه وتآكل جسده وهو يقاوم الموت بشعره، وكذلك صلاح عبد الصبور الذى استفزته عبارة «ييتس» «الإنسان هو الموت» فراح يدندن حولها بنغمة درامية وصوفية عميقة، وكذلك أمل دنقل الذى شهد فى غرفته بمعهد السرطان ذوبان جسده فى يد الغول الكبير، لكن محمود درويش كان أبعد تمثلاً لهذا الموت فى سنواته الأخيرة كلها؛ أذكر فى آخر لقاء معه الربيع الماضى أن كنا فى بهو أحد الفنادق فى الإمارات العربية، وتقدمت منه الشاعرة ميسون صقر بعد أن كانت قد أهدته فى المساء ديوانها الأخير فبادرها بقوله «أنت شابة مبدعة، مالك وللموت حتى تطيلى صحبته بهذه الطريقة، دعيه يحاصرنا نحن» كان الموت قد أصبح رفيق محمود منذ عملية القلب المفتوح الأولى فوصفه شعريًّا أكثر من مرة وأفرد له أكثر من ديوان منذ «الجدارية» الشهيرة، لكنه يستحضر فى هذا الكتاب حوارية عنه فى قصيدة بعنوان «بقية حياة» يقول فيها:

إذا قيل لى : ستموت هنا فى المساء
فماذا ستفعل فيما تبقّى من الوقت؟
أنظر فى ساعة اليد / أشرب كأس عصير
وأقضم تفاحة / وأطيل التأمل فى نملة وجدت رزقها..
ثم أنظر فى ساعة اليد:
مازال ثمة وقت لأحلق ذقنى
وأغطس فى الماء / أهجس:
لابد من زينة للكتابة / فليكن الثوب أزرق..
أجلس حتى الظهيرة حيًّا، إلى مكتبى
لا أرى أثر اللون فى الكلمات / بياض بياض بياض

مطاردة الزمن هى مشكلة المعرفة بالموت وانتظار موعده، يتصور الشاعر أنه حينئذ سيحاول مباشرة حياته بالطريقة الآلية ذاتها. إتيان الأفعال المعتادة ستصبح وسيلته لاستقبال الموت، بل أكثر من ذلك سيحاول أن يتزين له مثلما يتزين للقاء الأصدقاء، يحلق ذقنه، يغتسل، يلبس ثوبًا أزرق، ثم يجلس مستمتعًا بالحياة إلى مكتبه، لكنه سيدرك أن الكتابة ? وهى فعل حياة ? لا يمكن أن تتم بكاملها فى انتظار الموت، سيحلّ البياض محل ألوان الكلمات ليمتد على الصفحات:

أعد غدائى الأخير
أصبّ النبيذ بكأسين: لى / ولمن سوف يأتى بلا موعدٍ
ثم آخذ قيلولة بين حلمين
لكن صوت شخيرى سيوقظنى!
ثم أنظر فى ساعة اليد: مازال ثمة وقت لأقرأ
أقرأ فصلاً لدانتى, ونصف معلّقة
وأرى كيف تذهب منى حياتى / إلى الآخرين
ولا أساءل عمن سيملأ نقصانها
- هكذا ؟ / هكذا!
- ثم ماذا ؟ / أمشط شعرى
وأرمى القصيدة / هذى القصيدة / فى سلة المهملات
وألبس أحدث قمصان إيطاليا
وأشيّع نفسى بحاشية من كمنجات إسبانيا
ثم / أمشى / إلى المقبرة

مشاهد بصرية فى سيناريو الساعات الأخيرة من حياة شاعر، مفارقات سلوكه فى الطعام والشراب، فى النوم والصحو، فى القراءة وأمهات الأعمال الإبداعية ثم العودة للذات وإلقاء القصيدة / إعدامها فى سلة المهملات. التزيين فى الملبس واستحضار الذات الشاعرة التى كان يحلو لدرويش دائمًا أن يعتبرها «كمنجة» قبل أن أن يستأنف خطواته إلى المقبرة. يقبض درويش فى هذا النص على رائحة الغياب فى اللحظة التى يجسد فيها ما يسبقه، لكن أبرز عناصر الشعرية هنا تتمثل فى تلك اللغة الصافية التى تشف عن حركة النفس وشفافية الروح دون تفجع أو مأساوية، لقد ألِف الشاعر الموت وقدمه جماليًّا بطريقة نفذت إلى صميمنا دون أن نقوى على اعتباره شيئًا أليفًا، خاصة إذا كان من يختطفه فى قامة محمود درويش.

 

 

صلاح فضل