اللغة حياة ها إنّي أكتب في لغتك يا محمود

اللغة حياة ها إنّي أكتب في لغتك يا محمود

  • كلنا يا صديقي نعيش بلا أوطان ونموت بلا أوطان. كلنا حلم وطن.. وموتى منفى. (وديع سعادة)
  • استدرجت المعنى، لترحل تاركًا أثر فراشتك التي طارت أمام عينيك. (أحمد الشهاوي)

سنة 1977 أفضى محمود درويش بأمنية إلى صديق مشترك: «أتمنّى لو كتب مصطفى الجوزو في شعري كما كتب في شعر موسى»؛ وكنت نشرت في جريدة «النهار» اللبنانيّة دراسة عن قصيدة صديقي الحميم موسى شعيب، رحمه الله «هيفا تنتظر الباص على مفرق تلّ الزعتر» فأُعجب محمود بها، وكان لا يزال في وسط الطريق، ولمّا يبلغ القمّة التي يتنافس الكتّاب في الكلام على ارتفاعها. ولم أكن أكتب في الشعر الحديث إلاّ إذا كان الشاعر من أصدقائي، وأنا لم أجالس محموداً إلاّ مرّات قليلة، وكانت عنايتي، حينذاك، منصبّة على الأدب والنقد القديمين، وعلى اللغة. وقد رحل محمود اليوم، فاستدمعتُ واستعبرت، ولاسيّما أنّني اكتشفت أنّه لِدَتي، لا يكبرني إلاّ بنحو شهرين، وقرّرت أن استجيب لأمنيته القديمة، لكن لأكتب في لغته، مراعاة لهذه الزاوية.

وأبدأ بأوائل شعره، أي بمجموعة «حبيبتي تنهض من نومها» التي ألّفها في عهد الشبيبة، ووسمها بعنوان القصيدة الأولى منها. يقول في القصيدة المشار إليها:

عيناك يا معبودتي هجرةٌ
بين ليالي المجد والانكسار
شرّدني رمشُكِ في لحظةٍ
ثم دعاني لاكتشافِ النهار

أي أنّه سلك في عبارة واحدة لفظين يعتقد المتشدّدون أنّ استعمالهما خطأ: التشريد والرمش؛ ذلك أنّهم يزعمون أنّ «شرّدَ» يعني طرَدَ، لا أوقعَ في الضياع والذهول، وفق مفهوم العامّة؛ كما أن الرِمش عاميّة وصوابها: الهُدْب، ولذا فعبارة: رمشتْ عينُه عاميّة أيضاً، وفصيحها طرفتْ.

لكن عبارة محمود واقعة في موقعها الصحيح، في رأينا، ولو قال: أذهلني أو ضيّعني هُدْبُك؛ فربما لم يستقم التعبير، لأنّ الشاعر يخاطب حبيبة صغيرة تَعرِف، إن كانت تعرِف، أنّ التشريد من التشتيت، ومن الشرود أيضاً، فتجمع المعنيين في ذهنها، لتتخيّل إنساناً مهجّراً ذاهلاً في سحر عينيها؛ أي تراه في حالة نفسيّة تختلط فيها كيمياء البؤس والحزن والعشق، كيمياء من يحب ولا ينسى مأساته، بل هو يوحي بها، ويجعلها هويّة له. ولا يخطر في بال تلك الحبيبة معنى الطرد أبداً؛ وهي كشاعرها وقرائه، في الأغلب، تعرف الرمش، ولا تعرف الهُدب إلاّ في بعض الكتابات ذات النكهة المحافظة، هذا إذا كانت تعرفها حقّاً ولا تستغربها. وليس مطلوباً أن يحاجي الشاعر حبيبته، ولاسيّما إذا كانت صبية، بل عليه أن يخاطبها بما تفهم؛ ويعسر على الحبيبة، أيضاً، أن تتصوّر ذلك البائس المتشرّد مستمداً لغته من بطون الكتب. ولو استفتيتَ نصف العالم العربيّ في العبارتين، فالراجح أنهم سيفضلون عبارة درويش.

والذين رفضوا عبارة «لعب دوراً» لا بد رافضون، بصورة أشدّ، عبارة: أخذ دوراً، ولعلّهم ينعتونها بالعامية، لكنّ محموداً استعملها في القصيدة السابقة نفسها، فقال:

أيّ دور
نأخذه في فرحة المهرجان

وهو يريد القول: أيّ دور سنخص أنفسنا به حين نشارك في المهرجان البهيج، موحياً أنّ المهرجان عمل أو مجموعة أعمال فنية، عفويّة أو منظّمة، يشارك فيها جمهور من الناس؛ فكأنّه يريد أن يجعل لنفسه ما يُجعل للممثل في عمل مسرحيّ أو سينمائيّ أو ما أشبه ذلك. ثم نعلم أنّ ذلك العمل هو الموت في سعادة:

نموت مسرورِين
في ضوء موسيقى
أطفالنا الآتين!

إنّ بساطة الحديث مع الصبية هي نفسها التي أملت التيسير والجنوح نحو قريب من العاميّة، ومثل تلك البساطة أقدر من فصيح الكلام، وما يسمى اللغة العالية، على إفهام الحبيبة وإسعادها. ولنلحظ هنا أنّ الشاعر لم يستعمل المثنّى، مع أنّه يتحدّث عن نفسه وعن حبيبته، بل استعمل الجمع من غير أن يصدم سليقتنا العربيّة؛ وذلك ما قد يؤيّد مقولتنا في الذكرى الخمسين لتأسيس «العربيّ» وهي أنّ المثنّى يلابس الجمع، من غير حاجة إلى البحث عن تأويل للجملة يضمِّن بعض كلماتها معنى الكثرة. صحيح أنّ الشاعر يعني، في عقله الباطن، جيله الفلسطينيّ كلّه، ويعقد الآمال على الأجيال الفلسطينيّة القادمة، لكنّه لا يتكلّم إلاّ على اثنين لا يحتملان الدلالة على الجمع بذاتهما، هما نفسه والحبيبة، أمّا ما يختلج في ضميره ولا وعيه فلا ينشأ عنه دليل، ولاسيّما أنّه قال قبل ذلك:

كنّا صغيرين، وكان الذبول
سيِّدنا
أي تكلم على اثنين لا أكثر.

ويؤكّد بعض أصحاب «قُلْ ولا تقلْ» أنّ جمع عُرْيانة هو عُريانات، وجمع عارِية هو عاريات؛ ويخطّئون عرايا، سواء كانت جمعاً للمذكّر أو للمؤنّث. لكنّ محموداً يقول في قصيدة أخرى من المجموعة نفسها:

ما الذي يجعل الكلماتِ عرايا؟
ما الذي يجعل الريحَ شوكاً، وفحمَ الليالي مرايا؟

والحقيقة أنّ العامّة تقول عرايا وحفايا، والمفروض أنّ الشاعر يتحدّث بلسان صباه، كما أسلفنا، ويغلب على الصبيّ أن يستعمل ما يسمعه في محيطه من عاميّات؛ زد على ذلك أنّ للكلمة وجهاً، وهو أنّ النخلة التي أُكل ثمرها، أي عُرّيت من الثمر، تسمّى عَرِيّة، وتجمع على عرايا؛ وقد عرض الخليل لجمع الكلمة على التشبيه بكلمة أخرى تقاربها في المعنى وتخالفها في الوزن، كجمعهم سكران على سَكْرَى، لأنّهم جعلوه كالمَرْضى. وعلى ذلك يمكن أن نجمع عارِية على عرايا، فنجعلها كجمع عَرِيّة. ثم إنّ عرايا توافق مرايا، في القصيدة، وهو ما تعجز عنه عارية أو عاريات أو عوارٍ؛ ولو ساير محمود المتشدّدين لكان عليه أن يضحّي بتلك الصورة الموحية التي تخيّل إليك كائنات مجرّدة تتحرك عارية أمام المرآة، ويلسعها برد الريح؛ وهي مستمدة، على الأرجح، من حال البؤس والإحباط التي يعيشها الفلسطينيّون في المخيمات.

ويستخدم محمود عبارة «حشائش مائيّة» في قصيدة من ديوان «سرير الغريبة»، وهو استعمال

لا يسيغه المخطّئون؛ لأنّ الحشيش هو العشب اليابس، ولا تكون كذلك أعشاب البحر التي يصوّرها الشاعر؛ والواقع أنّ الحشيش هو بمعنى المحشوش، أي المقطوع، فكل ما يُقطع من العشب حينما يهيج، يابساً كان أو رطباً، يسمّى حشيشاً، ولذلك اختلف اللغويّون في شمول الكلمة للرطب واليابس.

تلك عجالة لا يحتمل المقام أوسع منها، وهي تبيّن كيف كان محمود درويش، ولاسيّما في قصائد الشباب، يعتمد البساطة في اللغة، مع قوّة إيحاء في الصورة، وذلك لأنّه كان يُعنى بالتأثير النفسيّ أكثر من عنايته بالخطأ والصواب اللغويّين. فكلّما كانت اللغة أقدر على التخييل والإيهام وتحريك النفس، كانت آثر عنده، ولو ضحّى بالمهابة وشدة الأسر، أحياناً.

 

 

مصطفى الجوزو