تحولات الشاعر الكبير الذي انتظر موته

تحولات الشاعر الكبير الذي انتظر موته

  • كانت القضية إحدى حوامل شعره الأول. صار الشعر الشعر هو قضية محمود درويش. (محمد دكروب)
  • نحّى الغياب صورة أحد أعظم شعراء العربية عن ظهر الحصان وتركنا من دونه «وحيدين» (علي الدميني)
  • الشاعر الذي أقام في جلد قصائدنا وآويناه رغباتنا التي تتوق دائما للقصيدة الأجمل.. هل أصدق أنك رحلت؟ (لينا الطيبي)
  • ها أنت قريب دائما منا بأسرارك الكبرى سيدي وحبيبي محمود (محمد بنيس)

خسرنا برحيل محمود درويش قامة عالية في الشعر العربي المعاصر، وطاقة إبداعية خلاقة أخلصت للشعر والكتابة وصرفت عمرها القصير على هذه الأرض لكي تنجز مشروعا شعريا وثقافيا كبيرا ظل الراحل يبلوره إلى آخر يوم في حياته. وقد سعى الشاعر الراحل إلى هضم التجارب الشعرية العربية والعالمية ليطلع بصوته المتفرد الخاص الذي لا يشبهه في تاريخ الشعر العربي صوت آخر. من هنا يمكن القول إن تجربة الشاعر الراحل تطورت من خلال احتكاكها بالتجارب الشعرية العربية في البدايات، واستطاع الشاعر أن يتعرف على التطويرات الشكلية والخيارات التعبيرية لهذه التجارب ويعيد صياغتها بما يخدم قصيدته وطموحه للتعبير عن مأساته الوطنية والمقاومة الفلسطينية الطالعة في تلك المرحلة التي صعد فيها نجمه كشاعر بارز من شعراء جيل المقاومة. ونحن نعثر في «أوراق الزيتون» (1964)، وفي «عاشق من فلسطين» (1966) على بذور تطور تجربة درويش الطامحة إلى الانفلات من أسر الشخصية القالبية لشعر المقاومة، وذلك عبر الاحتفال بالحسي وتوليد الصور الشعرية المركبة والغريبة التي أصبحت من العناصر الأساسية في تجربة الشاعر عبر منعرجات تطورها.

بهذا المعنى يمكن النظر إلى مجموعات درويش الأولى بوصفها تمارين في الكتابة الشعرية التي ستأتي لاحقا في «أحبك أو لا أحبك» (1972) و«محاولة رقم 7» (1974) وهما المجموعتان الشعريتان اللتان توجتا محمود درويش واحدا من الشعراء العرب الكبار في القرن العشرين.

التراجيديا الفلسطينية

لقد استطاع الشاعر في عدد من قصائد هاتين المجموعتين الشعريتين أن يحقق طموحه في جَدل التعبير عن التراجيديا الفلسطينية مع التطوير الشكلي للقصيدة العربية المعاصرة، وذلك عبر ابتداع صور مركبة يندغم فيها الحسي بالتجريدي، وتنشأ ظلال المعنى فيها من التقاء التجربة الحارة النازفة بجسد الكلام، وبالإيقاع المتفجر المتصاعد في قصائد تشبه الأعمال الموسيقية السيمفونية بحوار الآلات المتعددة فيها. يصدق هذا الوصف على قصائد مثل: «سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا» و«الخروج من ساحل المتوسط» في «محاولة رقم 7». وهو ما يهيئ الشاعر لانعطافة حاسمة في شكل قصيدته وصوره الشعرية وطبيعة بناء قصيدته بعامة. وتتحقق هذه الانعطافة في مجموعتيه: «هي أغنية، هي أغنية» (1986)، و«ورد أقل» (1987) حيث تصبح القصيدة أكثر كثافة واختزالا، وأكثر التفاتا إلى ما هو كوني في التجربة. ثمة في قصائد هاتين المجموعتين اشتغال على ثيمات صغيرة كانت مهملة ومقصاة في شعر درويش السابق، ومحاولة لأنسنة الهزيمة والخسارات التي يحولها الشاعر إلى أغان للعادي والبسيط والمشترك الإنساني في لحظات الهزائم الشخصية والجماعية.

إن درويش يجدل، في هاتين المجموعتين، التطوير الشكلي بمسرحة المأزق الفلسطيني بعد الخروج من بيروت عام 1982 حيث يتجلّى انسداد الأفق في صور شعرية تعبر عن الإرهاق وفقدان الأمل والإحساس بالتراجيديا الفلسطينية وقد قاربت عناصرها على الاكتمال. وفي ذروة هذا الانسداد والتيقن من اليأس الشامل يفتح الشاعر قصيدته على أمل غامض يتمثل في نهايات القصائد المفتوحة.

تضيق بنا الأرض. تحشرنا في الممر الأخير، فنخلع أعضاءنا ونمر
وتعصرنا الأرض. يا ليتنا قمحها كي نموت ونحيا. ويا ليتها أمنا
لترحمنا أمنا. ليتنا صور للصخور التي سوف يحملها حلمنا
مرايا. رأينا وجوه الذين سيقتلهم في الدفاع الأخير عن الروح آخرنا
بكينا على عيد أطفالهم. ورأينا وجوه الذين سيرمون أطفالنا
من نوافذ هذا الفضاء الأخير. مرايا سيصقلها نجمنا.
إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟ أين تطير العصافير بعد السماءالأخيرة
أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟ سنكتب أسماءنا بالبخار
الملون بالقرمزي سنقطع كف النشيد ليكمله لحمنا
هنا سنموت. هنا في الممر الأخير. هنا أو هنا سوف يغرس زيتونه... دمنا (ورد أقل)

في القصيدة السابقة يعيد درويش إنتاج التجربة الفلسطينية، يلخص الشرط التراجيدي للوجود الفلسطيني بعد الخروج. ثمة ممر أخير وعصافير بلغت بطيرانها سقف السماء ونباتات تنفست هواءها الأخير، وحدود أخيرة، لكن الدم في نهاية القصيدة يعلن عن البداية الغامضة، عن أمل لا شفاء منه في قصيدة درويش التي تذهب في معراج صعودها الفني إلى إعادة تأمل الأشياء الصغيرة والحكايات الناقصة لقراءة مشهد الشتات الفلسطيني في أكثر صوره رمزية وتعبيرا عن تراجيديا التجربة الإنسانية. في هذه المرحلة، من مراحل تطور تجربته الشعرية، يجدل الشاعر ماهو وطني ــ قومي بما هو إنساني لتصبح التجربة الفلسطينية وجها آخر من وجوه عذاب البشر على هذه الأرض. وهو يسعى بدءا من مجموعته الشعرية «أرى ما أريد» (1990)، وصولا إلى كتابه الأخير «أثر الفراشة» (2008)، إلى تطعيم عالمه بمشاغل شعرية ذات طموح كوني. بهذا المعنى لم تعد عناصر التجربة الفلسطينية تحتل بؤرة شعر درويش، بل إن عناصر هذه التجربة أصبحت تتخايل عبر الأساطير التي ينسجها الشاعر أو يعيد موضعة عناصرها التي يقوم باستعارتها من حكايات الآخرين، ومن ثمّ يجدلها بحكاية شعبه وحكايته الشخصية.

في مجموعته «أحد عشر كوكبا» (1992)، التي لا يزايلها هاجس الأسطرة والتخليق الأسطوري، يعمل الشاعر الراحل على رواية الحكاية الفلسطينية من خلال رواية حكايات الآخرين مبددا بذلك شبهة المباشرة، والعاطفية المفرطة، وموفرا كذلك محورا كونيا للتجربة الفلسطينية ببعديها الرمزي والواقعي. وفي هذا السياق تحضر الأندلس وحكايات الهنود الحمر وحكاية الشاعر وريتا وسوفوكليس والكنعانيون، ليشكل الشاعر من هذه المادة التاريخية ــ الشخصية صيغة للتعبير غير المباشر عن حكاية الفلسطينيين الخارجين «من الأندلس».

إن شعر درويش يعبر عن الروح الفلسطينية اللائبة المعذبة الباحثة عن خلاص فردي ــ جماعي من ضغط التاريخ وانسحاب الجغرافيا، لكنه في «أحد عشر كوكبا» يقدم أمثولات تاريخية صالحة للتعبير عن التجربة الفلسطينية، من بين تجارب أخرى. إن صورة العرب الخارجين من الأندلس في قصيدة «أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي»، وصورة الهنود الحمر في «خطبة «الهندي الأحمر ــ ما قبل الأخيرة ــ أمام الرجل الأبيض»، تمثل كل منهما استعارة تتطابق مع صورة الفلسطيني المشرد المقتلع المرتحل بعيدا عن أرضه؛ ومحمود درويش يكشف عن سر استعارته حين يضع عبارة «الهندي الأحمر» بين مزدوجين مومئا إلى هندي أحمر معاصر، هندي أحمر فلسطيني يعرض في «خطبته» مفارقة انتصار الآخر وهزيمته هو.

حصان وحيد .. وجدارية

في «لماذا تركت الحصان وحيدا» يعيد الشاعر ترتيب كسر الماضي الشخصي ويسقط أحداث الحاضر على الماضي في كتاب شعري يوهم قارئه بأنه معني بتجلية صورة الولادة، عبر توسل عناصر المشهد الرعوي، وهيمنة عناصر الخصب، وتجلي فصل الربيع في شهر آذار.

... كان المكان معدّا لمولده: تلّة
من رياحين أجداده تتلفت شرقا وغربا. وزيتونة
قرب زيتونة في المصاحف تعلي سطوح اللغة...
ودخانا من اللازورد يؤثث هذا النهار لمسألة
لا تخصّ سوى الله. آذار طفل
الشهور المدلل. آذار يندف قطنا على شجر
اللوز. آذار يولم خبيزة لفناء الكنيسة.
آذار أرض لليل السنونو، ولامرأة
تستعد لصرختها في البراري... وتمتد في
شجر السنديان.

لكن انتصار الحاضر على مشهد الولادة، بتأزم أفق الصراع وثقل الواقع الضاغط، يدفع القصيدة إلى التلون برؤيا الغريب المنفي، ويصبح اليأس والإحباط، من التجربة الجماعية التاريخية، مهيمنين في فصول هذه المجموعة الشعرية التي تنفتح على المجموعة الشعرية التالية «سرير الغريبة» من خلال حضور مادة السيرة الشخصية والإلحاح على حضور المنفى في تلافيف حكاية العشق التي يكتب الشاعر سوناتاته المدهشة انطلاقا منها. وبذلك يدشن درويش فضاء جديدا لتجربته الشعرية عبر تخليصه هذه التجربة من ثقل الواقعة التاريخية وإعادته النظر في عناصر سيرته، متأملا الماضي في ضوء الحاضر، جادلا الشخصي بالجماعي، واضعا تراجيديا الوجود الفلسطيني في بؤرة الحياة الداخلية للشاعر.

وهذا ما يفعله الشاعر في ملحمته «جدارية» (2000) التي يأخذ فيها قارئه باتجاه أصقاع جديدة في تجربته الشعرية. إن الاستعارات الأساسية الدالة على الأرض، والمكان وبطولة الفرد الفلسطيني والتواصل الحميم مع جسد الأرض، تشحب لتحل محلها تراجيديا الفرد في صراعه مع الميتافيزيقا، مع الثوابت الكونية الكبرى: معنى العيش، والموت والفناء، والخلود، والحب، وعبثية التواصل الإنساني.

يمكن النظر إلى «جدارية» بوصفها استعارة مقلوبة لمعنى العيش الذي سبرته قصائد «لماذا تركت الحصان وحيدا»، التي ركزت على استعادة صورة المكان والزمان المهدورين في طفولة الفلسطيني من خلال عين الذاكرة، وكذلك قصائد «سرير الغريبة» التي انتشلت ثيمة الحب من بئر الحياة المهجورة وزمان الفلسطيني المقتلع المطارد.

إن قصيدة «جدارية» هي نتاج تجربة شخصية مع الموت. ليست تأملا ميتافيزيقيا لمعنى الفناء أو محاولة للقبض على معنى الخلود، بالرغم من الحوار الذي يقيمه هذا النص الشعري مع ملحمة جلجامش، وحديث الشاعر عن كونه توأم إنكيدو، ومع النبي سليمان وأغانيه عن شولاميت. إنها حوار مع الموت انطلاقا من تجربة الشاعر الممتدة في المكان والزمان، في صفحات تاريخه الشخصي وذكرياته البعيدة والقريبة.

في حضرة الغياب

في تجربة موازية لقصيدة «جدارية»، مهمومة هي الأخرى بالحضور والغياب، الوجود والعدم، الحياة والموت يكتب الشاعر الراحل كتابا ملتبسا في تصنيفه على مستوى الأنواع الأدبية. إن كتابه «في حضرة الغياب» (2006) يبدو مقيما في منزلة بين المنزلتين فلا هو بالشعر، الذي يحتشد بالطاقة الخيالية والإيقاعية التي اعتدناها في قصائد درويش، وعبر مسيرته الشعرية الحافلة، ولا هو بالنثر الذي يستعرض حكاية الكاتب الشخصية مفصلا الأحداث ومستذكرا الأشخاص والأمكنة والأزمنة، ومقلبا صفحات حياة درويش على وجوهها.

يلخص مفتتح الكتاب إذن هذا العمل كله، مشروعه النصي، وغايته التي يسعى لحفرها في الكلام الذي يتخذ سمت النثر ولكنه يتزيا بشكل الشعر عبر التقطيع السطري، واللغة المجازية، والبنية الاستعارية التي تغلب على هذا الشكل من أشكال الكتابة. ويكشف الشاعر عن خطته في مزج الشعر بالنثر، والغنائية بالسردية، والرثاء بالتعبير عن وعد الحياة الأبدية الأخرى، من خلال تناسل الكلام في قراء مجهولين موعودين. لكن الأهم هو أن بنية المطلع، التي يتحدث عنها درويش في السطر الأول من هذا النص، تبقى شعرية بامتياز وإن خلت من إيقاع القصيدة التفعيلية وتخففت من الوزن والقافية، وأعطت لنفسها حرية الانسياب من سطر إلى آخر. لكن هذه السمة التي تتصل بالتدوير في القصيدة حاضرة في نصوص درويش الشعرية، بعامة، وفي مجموعاته الشعرية الأخيرة بخاصة؛ ما يعني أن إلحاق هذا النص بالنثر يبدو مسألة مشكوكا في شرعيتها.

ولأذهبن، بلا عكاز وقافية، على طريق سلكناه، على غير
هدى، بلا رغبة في الوصول، من فرط ما قرأنا من كتب
أنذرتنا بخلو الذرى مما بعدها، فآثرنا الوقوف على سفوح
لا تخلو من لهفة الترقب لما توحي الثنائيات من امتنان
غير معلن بين الضد والضد. لو عرفتك لامتلكتك، ولو
عرفتني لامتلكتني، فلا أكون ولا تكون.

كأن درويش في هذا العمل، الذي يترجح بين النثر والشعر، السيرة واللاسيرة، استعادة الماضي واستشراف المستقبل، سعى إلى كتابة تتخفف من ذكرى الماضي عبر روايتها لقرينه الشخصي الذي يخاطبه من عالمه الآخر، من ابتداع موت لم يقبل بعد، ونهاية ما أتى أوانها. وهو يختار تعبير «خطبة الوداع» تسمية لما يؤلفه على مسامع صاحبه في إشارة مخاتلة، تستدعي التأمل، إلى اعتقاد الشاعر بتأوج عمله الإبداعي ووصوله نهاية الرحلة.

طال نومك، فانهض وحلمك، وارو لنا ما رأيت/
هل رأيت ملائكة يعزفون على الناي ألحان موزارت/ ولا
يسكرون من الخمر؟/
هل دللوك وهل أطعموك من العنب السكري؟/
وهل أخذوك إلى نزهة في ضواحي البساتين؟/
هل كنت تشبههم عندما أنزلوك إلى النهر، طفلا، كما
كنت أيام رفقتهم؟/
من تغير منكم هناك، ومن قال: يا صاحبي في الطفولة؟

كأنه كان يرثي نفسه منتظرا ملاقاة الموت، على طريقة مالك بن الريب. ومن هنا تكرار ذكر الموت في كتبه الأخيرة، بدءا من «جدارية» وانتهاء بـ «أثر الفراشة»، وصولا إلى قصيدته الأخيرة «لاعب النرد» التي أبن فيها ذاته وجدل فيها الحديث عن نفسه وشعبه وحياته الماضية والكون برمته ملوحا بيده مودعا هذا العالم قبل أيام من رحيله في التاسع من آب 2008.

 


فخري صالح