العرب والحاجة إلى التحديث السياسي عبدالله تركماني

العرب والحاجة إلى التحديث السياسي

يبدو العالم العربي عالما مفككا أسير معادلات سياسية صعبة, إذ إن الإدراك السياسي لحكّامه والجزء الأكبر من معارضيهم يبدو مقتصرًا على الإدانة الخطابية للمؤامرات الخارجية. ولهذا - أساسًا - أمكن لإسرائيل أن تستفرد بالشعب العربي الفلسطيني.

إن الحاجة تبدو ماسّة إلى التحديث السياسي بمعناه الشامل وتطوير الثقافة السياسية السائدة وإعادة صياغتها بشكل خاص, مع كل ما يعنيه ذلك من تشييد صرح الديمقراطية وتدعيم أركانها, مما يتطلب المشاركة الشعبية الكاملة في ديناميات العملية السياسية كلها, بما يحوّل الناس من مجرد رعايا تابعين غير مبالين إلى مواطنين نشطاء فاعلين بإمكانهم التأثير في ديناميات اتخاذ القرار السياسي, فضلا عن مشاركتهم في اختيار الحكام وتحديد الأهداف الكبرى.

وفضلا عن هذا أو ذاك, فإن مشاركة المواطنين في العملية السياسية تُعدّ دلالة واضحة على عمق التطور السياسي للمجتمع, وتلعب دورًا حيويًا في ديناميات بناء الأمة, كما أنها تمثل أي سياسة قديرة لها تأثيرها الفاعل في تطوير وبلورة أنماط جديدة من الولاء السياسي, من شأنها ترسيخ الإحساس بالذات, وتعميق الوعي بالهوية القومية. إضافة إلى أن المشاركة السياسية تنطوي على حلول ناجعة لمشكلة العنف الذي تشهده العديد من الأقطار العربية:

1 - هي الحل الوحيد لمشكلة عنف السلطات وهي الكابح لجموحها, من خلال ما توفره من آليات المساءلة.

2- إنها تعطي الجميع أملا في إمكان التغيير السياسي للعلاقات الاجتماعية. فمادام مختلف التيارات لها الحق في التعبير عن نفسها والمشاركة, فإن الأبواب تصبح مفتوحة أمام الجميع لكسب ثقة الناس وإحداث التغيير من خلال التأثير على أصواتهم والاحتكام إلى صناديق الانتخاب في نهاية المطاف, فإذا أتيح ذلك لمختلف التيارات والقوى السياسية, فمن الطبيعي أن تتراجع أفكار التغيير بالعنف.

3- إنها حين تسمح بالتعددية لكل أصحاب الأفكار والمشاريع السياسية من خلال قنوات شرعية وعلنية تتيح لهؤلاء أن يحملوا خطابهم إلى الناس, ومن ثم لا يبقى هناك مبرر لإنشاء تنظيمات سرية بها تبدأ حلقات العنف, لذلك نلاحظ - كقاعدة - أنه كلما اتسع نطاق المشاركة المشروعة تقلصت مساحة العنف والعمل السري.

4- إن الرقابة على أداء السلطات التنفيذية التي تتحقق في ظل الديمقراطية, تشكل ضمانا أساسيا لحسن أداء العمل الحكومي ونزاهته, الأمر الذي يحقق ظروفا أفضل لتنفيذ مشروعات التنمية, ومن ثم توفير الأمل لدى الناس في إمكان تغيير أحوالهم المعيشية. وقد علّمتنا دروس التاريخ العربي المعاصر أن شيوع الفساد من العوامل التي تبث اليأس عند الناس وترفع درجة السخط بينهم, ومن الباحثين من يعتبر أن ثمة علاقة وثيقة بين الفساد والعنف.

5- الديمقراطية تحوّل الناس من معزولين وساخطين إلى مشاركين, فحين تشعر الجماهير أنها شريكة في القرار وقادرة على المحاسبة, سواء في المجالس الشعبية المحلية البلدية أو المجالس النيابية, فإن موقفها من السلطة والإدارة يختلف حتما, ولا تصبح (النقمة) هي الحاكمة لتلك العلاقة, وإنما تحل محلها المسئولية, وهي قيمة طاردة لاحتمالات العنف.

6- هي أيضًا تدرّب الناس على التسامح والتعايش وتداول السلطة, فكلما تكرّست تلك القيم واتسع نطاقها تراجع شبح العنف وجفّت ينابيعه.

إرادة شعبية

ومن أجل ضمان توفير آليات نجاح أي تحديث سياسي حقيقي, لابد من قيام السلطة السياسية على أسس تمثيلية انتخابية حرة تعبّر عن إرادة شعبية حقيقية, تضمن التعددية السياسية والفكرية وحرية المعارضة وتحريم العنف, وتداول السلطة بطرق سلمية ودستورية, وتصون حقوق الإنسان, وتوفر الشروط اللازمة كي يفكر الفرد بحرية ويمارس قناعاته الفكرية بحرية عبر انتمائه إلى أي حزب أو منظمة اجتماعية, وتوفر أيضا الفرص المتساوية أمامه ليشغل - حسب كفاءاته وقدراته - الموقع الذي يستحقه في مؤسسات السلطة والمجتمع المدني. ومن أجل كل ذلك, فإن الشرعية الانتخابية هي أساس التداول السلمي للسلطة, ومن ضمانات ذلك الالتزام بتمفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.

إضافة إلى استقلالية القضاء والالتزام بعدم الانتماء الحزبي لشاغلي وظائفه, وكذلك استقلالية المؤسسات العسكرية والأمنية, باعتبارها مؤسسات وطنية خاضعة لمصالح المجتمع المدني, وليست مؤسسات عقائدية حزبية محدودة الولاء, مما يرسّخ ولاءها للوطن ويجعلها قادرة على الدفاع عن استقلاله وسيادته وعن الشرعية الدستورية, وعدم المساس باستقلالية الوظيفة العامة وحظر تسخيرها لأي غرض شخصي أو حزبي, ويكتسب هذا المبدأ أهمية خاصة حين يجري الالتزام بمبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين عند التعيين أو الترقية أو التأهيل للوظائف العامة, وذلك بعدم إخضاعها لأي اعتبارات ضيقة, تفاديا لاستخدام المحسوبية أو إحلال أهل الثقة والولاء محل أهل الكفاءة والخبرة في وظائف الخدمة العامة.

وكذلك الامتناع عن تحويل مؤسسات المجتمع المدني إلى مؤسسات صراع سياسي بين الأحزاب والتنظيمات السياسية, بما يعطل دورها أو يصرفها عن مهامها الأساسية في الدفاع عن المصالح المهنية والنقابية والاجتماعية لأعضائها. وهنا تبرز أهمية حرية الصحافة والإعلام, بما يساعد على خدمة المجتمع وتكوين الرأي العام والتعبير عن اتجاهاته, وحماية حقوق الصحفيين والمبدعين وتوفير الضمانات القانونية اللازمة لممارسة حرية الصحافة ومسئولياتها تجاه المجتمع, وخاصة حق الحصول على المعلومات والاحتفاظ بسرية مصادرها, وحق الامتناع عن الكتابة بما لا يرضي الضمير المهني والالتزام الفكري, وفي أساس كل ذلك يكمن حق المواطنين بحرية المعرفة والفكر والصحافة والتعبير والاتصال والحصول على المعلومات لضمان الإعراب عن اتجاهاتهم الفكرية والسياسية.

وفي سياق كل ذلك, تعتبر الحريات العامة, بما فيها التعددية السياسية والفكرية والنقابية, القائمة على الشرعية الدستورية ركنًا أساسيًا من أركان أي تحديث سياسي ومجتمعي. إذ يمارس الناس نشاطهم بالوسائل السلمية والديمقراطية لتحقيق مصالحهم من خلال منظماتهم, عبر تداول السلطة أو المشاركة فيها عن طريق الانتخابات العامة الحرة النزيهة.

إنّ التعددية السياسية توجب الالتزام بعدم استخدام العنف أو الدعوة إليه أو التهديد به في العمل السياسي, كما توجب عدم القيام بأي محاولة للوصول إلى السلطة بغير الوسائل الديمقراطية, سواء عن طريق العنف الفردي أو الجماعي أو الانقلابات العسكرية, بهدف اغتصاب السلطة وانتهاك الشرعية الدستورية. ولضمان ذلك يجب التعهد بممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب, من خلال علنية نشاطها وعقد مؤتمراتها الدورية وانتخاب هيئاتها القيادية, وذلك إيمانًا منها بأن من لا يمارس الديمقراطية في نشاطه الداخلي لا يمكن أن يمارسها في علاقاته مع غيره في المجتمع.

التجديد: قواعد ومبادئ

ومن أجل تجديد الثقافة السياسية العربية يمكن الإشارة إلى أهم القواعد والمبادئ:

1 - اعتبار ساحة الفعل السياسي مفتوحة على الدوام على قوى ومجموعات ذات تصورات فكرية ومشارب سياسية متباينة, سواء تم اعتبارها ضمن صنف الحلفاء أو المنافسين أو الخصوم من جهة, واعتبار التحوّل والتغيير من جهة أخرى قانونا راسخا في كل واقع سياسي. الأمر الذي يفرض على الممارس السياسي اعتماد قدر كبير من المرونة في التعامل مع الشأن السياسي تمكّنه من القدرة على التكيّف مع معطيات الواقع المتحوّل.

2 - ضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي, لما يتيحه ذلك من إمكان الإحاطة بالواقع الشامل والتعرف على العوامل المؤثرة في سيرورة تطوره. إذ إنّ الواقعية والعقلانية تقتضيان تقديرًا دقيقًا للإمكانات الفعلية للذات التي تتوخى الفعل والتغيير في وضع سياسي ما, ذلك أنّ تضخيم تلك الإمكانات يترتب عليه رسم خطط وبرامج للممارسة مكلفة ماديا وفاشلة عمليًا, وفي ذلك هدر للطاقات في معارك مجانية أو غير متكافئة قد تنتهي إلى كارثة محققة.

3 - اعتماد ثقافة الحوار انتصارًا لفكرة, أو دفاعًا عن موقف, وحماية لمصلحة خاصة أو عامة. وفي سياق ذلك ينبغي الحرص على عدم اعتماد الأساليب المتطرفة في التعاطي مع قضايا الخلاف, فقد تسيء الحدة المفرطة في الجدل السياسي بين المواقف المتعارضة إلى القضية موضوع الحوار, إذا لم تعرف الأطراف المتجادلة كيف ومتى تترك للممارسة هامشًا يسمح باختبار مختلف الآراء والأطروحات وتمييز الصائب منها عن الخاطئ.

4 - الاستعداد الواضح لتمكين الأجيال الشابة من تحمّل مسئولية قيادة العمل السياسي باعتبار ذلك شرطًا أساسيًا من شروط تجديد شباب الأمة العربية. لقد أظهر التضامن الشعبي مع كفاح الشعب الفلسطيني وضد الإجرام الصهيوني, في العديد من الأقطار العربية, أنه لايزال بحاجة أساسية, خاصة حين تم التعبير عن اليأس والإحباط في بعض الحالات بإيذاء الممتلكات العامة والخاصة, لكي ينطلق بسداد في اتجاه أهدافه الحقيقية النبيلة, إلى مشاريع جديدة تقوم على أساس التحديث السياسي, متحررة من أخطاء المشاريع السابقة ومن ثغراتها ومن أوهامها, وإلى قيادات جديدة, تمتلك الأهلية والكفاءة وعمق التفكير والحس الواقعي, وتمتلك القدرة على التخطيط الصحيح والسديد للحاضر والمستقبل.

يا بِلاداً حُجِبَت مُنذُ الأَزَل كَيفَ نَرجوك وَمِن أَيّ سَبيل
أَيّ قَفرٍ دونَها أَيّ جَبَل سُورها العالِي وَمَن مِنَّا الدَّليل
أَسرابٌ أَنتَ أَم أَنتَ الأَمَل فِي نُفوسٍ تَتَمنَّى المُستَحيل


(جبران خليل جبران)

 

عبدالله تركماني