الاحتلال وإفقار الفلسطينيين حسن عبد الله

الاحتلال وإفقار الفلسطينيين

عندما ندقق في الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني, أو عن مؤسسات بحثية واستطلاعية فلسطينية أخرى, فإننا نجد أن هذه الأرقام والنسب تعبر عن واقع مأساوي بالمعنى الحرفي للكلمة.

إن 60% من فلسطينيي قطاع غزة والضفة الغربية هم من الفقراء, وإن 17% من بينهم لا يملكون شيئًا, أي أنهم باتوا من المعوزين الذين يعيشون على الهبات والتبرعات المحلية والخارجية, ونسبة الـ 60% تشمل 2.4 مليون من التعداد العام, علمًا أن نسبة الذين يقبعون تحت خط الفقر كانت قبل الانتفاضة لا تتجاوز الـ 20%.

وإذا أردنا الوقوف على الأسباب الحقيقية للتدهور الاقتصادي الذي تشهده المناطق الفلسطينية, فإننا نقول بشكل تلقائي إن الاحتلال بسياساته وممارساته وإجراءاته على الأرض يشكل السبب الرئيس. ففي السنوات الخمس الأخيرة عزل الاحتلال الضفة عن قطاع غزة, والمدينة الواحدة عن محيطها, وأصبح الوصول بالسيارة من نابلس إلى رام الله مثلا, يستغرق من ست إلى سبع ساعات, إذا كان المسافر محظوظًا واستطاع أن ينجو من غابة الحواجز, حيث يضطر للتوقف في طابور طويل عند كل حاجز قبل أن يخضع لفحص أمني وشخصي, علما أن اجتياز المسافة بين المدينتين لا يحتاج في الظروف العادية غير أربعين دقيقة فقط.

لكن القول إن الاحتلال هو المسئول وكفى, من شأنه أن يعفي العامل الذاتي من الخلل الذي يعتريه, كغياب الخطط التنموية الحقيقية للتصدى لما تحدثه السياسات والمخططات الاحتلالية من تخريب اقتصادي, وكذلك استشراء الفساد, الذي يعمق الأزمة ويرسخ التبعية الاقتصادية للاحتلال, إلى جانب عدم وجود مناخات تشجع رءوس الأموال الفلسطينية وتحفز المستثمرين وتوفر لهم الحماية المناسبة للعمل والإنتاج, وتزيل من طريقهم عقبة السلعة الإسرائيلية التي تسرح وتمرح في الأسواق الفلسطينية على حساب السلعة الوطنية, خصوصًا أن السلعة الإسرائيلية باتت تضرب نظيرتها الفلسطينية وتحل محلها, نظرًا للظروف الإنتاجية المريحة المهيأة للمستثمرين الإسرائيليين في ظل دعم حكومي مضطرد لهم. أما بالنسبة للاستيراد من الخارج, فإن السوق الفلسطينية تحولت إلى مستقبِل للبضائع الصينية ذات المواصفات الرديئة, وبأسعار رخيصة جدًا, حيث يحتاج المستهلك إلى فترة زمنية ليكتشف أن هذه السلع المستوردة الرخيصة مدمرة لجيبه, لأنه يحتاج إلى تكرار شراء السلعة الواحدة مرات ومرات, وفي فترات متقاربة.

وقد بيّن د.حمدي الخواجا - من مركز الديمقراطية وحقوق العاملين, في نشرة صدرت عن المركز أوائل يوليو من العام الجاري - أن الألبسة الصينية المستوردة تسببت في إغلاق عشرات المشاغل والمصانع المحلية للخياطة والنسيج. يضاف إلى كل ما ذكر, التوزيع غير العادل في الميزانية الفلسطينية, والتي لا تخلق أساسًا تنمويًا, ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى أن 27% من الموازنة العامة مخصصة لأجهزة الأمن, في حين تم تخصيص 7.6% فقط للصحة و14% للتعليم و0.6% للزراعة فيما يذهب 42% من الموازنة العامة كرواتب للموظفين الحكوميين.

إن ما يؤخذ على هذه الميزانية إهمال الزراعة (استصلاح الأراضي, إقامة منشآت زراعية, دعم المزارعين ومساندتهم من أجل التشبث بأرضهم ومشاريعهم الزراعية), مع ملاحظة أن القطاع الزراعي أكثر القطاعات استهدافًا من الاحتلال, الذي يسابق الزمن في مصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات عليها, إضافة إلى تهديد المنتوجات الزراعية الإسرائيلية للمنتوجات الفلسطينية ومنافستها في السوق المحلية, من خلال طرحها بأسعار أقل, لا سيما أن الزراعة الإسرائيلية مدعومة بقوة من الحكومة. أما الرقم المخصص للصحة, فيبدو متواضعا جدًا أمام تدهور الأوضاع الصحية في المناطق الفلسطينية, كنتيجة مباشرة لاستمرار الاحتلال والاجتياحات, والاعتداء على المنشآت الصحية والعاملين في هذا القطاع, ومنعهم من التنقل وممارسة مهماتهم الطبية, ومنافسة الأدوية الإسرائيلية للأدوية الوطنية, لدرجة أن مصانع الأدوية الفلسطينية باتت مهددة بشكل جدي, وبعضها توقف عن الانتاج.

للفقر في فلسطين انعكاسات خطيرة على الصحة والتعليم والطفولة والأوضاع النفسية والاجتماعية, مما يتطلب التعاطي بشكل جدي وبمسئولية عالية مع التداعيات والنتائج, ولأن استئصال الفقر واقتلاعه من جذوره في ظل الاحتلال غير وارد, لذا فإن المطلوب وضع خطط تنموية حقيقية, تستجيب للخصوصية الفلسطينية الحالية, للتخفيف من حدة الفقر ومحاصرة آثاره وتداعياته, وذلك أضعف الإيمان. ومن ضمن الإجراءات والمبادرات التي يمكن من خلالها التخفيف على المواطن الفلسطيني, تجسد التكامل بين عمل المؤسسات الحكومية والأهلية في تقديم الخدمات, مع التفريق بين نوعين من المؤسسات الأهلية: النوع الأول فاعل يضطلع بدور مزدوج تنموي وإغاثي ويأخذ بعين الاعتبار حاجات المجتمع الفلسطيني وخصوصياته. والثاني ذات تمويل مشبوه يخدم توجهات الممول, وينطلق من أجندته ويسير ضمن توجهاته ورؤاه. لذلك فإن من يقدم خدمات للمواطنين انطلاقا من اعتبارات وطنية, من المفروض أن يُشجع ويُحفز لا أن يحارب وينظر له كمنافس للمؤسسات الحكومية, فما يعانيه الشعب الفلسطيني بحاجة إلى جهود ومبادرات محلية, وإلى عمل دءوب على الأرض, وليس انتظار الهبات والمساعدات الخارجية, والتعويل عليها كونها تغطي جزءًا من النفقات الجارية ورواتب الموظفين. إن المطلوب في هذه المرحلة إيجاد نوع من التكامل بين عمل المؤسسات الحكومية والأهلية, على اعتبار أن هذه المؤسسات وجدت في الأساس لخدمة المواطن والمجتمع, ولكل منها ميدانه وتخصصه, حيث إن تنوع التخصصات والتوجهات وتباين الرؤى يجب ألا يحول دون التنسيق والتعاون فيما بينها, ما دام الهدف الكبير يتمثل بإنقاذ شعب من وحش الجوع.

وحين نذكر المؤسسات الأهلية, فإننا نقصد ذات الحضور الميداني منها, التي تقدم خدمات يومية للمواطن, كالمؤسسات الطبية والزراعية والتنموية, التي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.

أجل إن استمرار الاحتلال يتطلب تكاملا في عمل المؤسسات الحكومية والأهلية, وتكاملاً في خدمة الناس وليس صراعا استقطابيًا وليس سرقة أدوار أو محاربة مبادرات أو تشكيكا في انتماء فلا خيار أمام الجهات العاملة في المناطق الفلسطينية سوى التنسيق والتناغم إذا أرادت أن تتصدى لمخططات الاحتلال وتغيث شعبها, أما إذا بقيت تنظر لما يجري عن بعد واكتفت بالرصد والتوثيق والصراخ, فإنها تفقد مبرر وجودها تماما سواء كانت هذه المؤسسات حكومية أو أهلية.

 

حسن عبد الله 




لا مدارس. لا مصدر للرزق من الحصار والإفقار غير الشعور باليأس