في صحبة أحمد بهاء الدين

في صحبة أحمد بهاء الدين

يعتبر هذا الكتاب نوعاً من العرفان بالجميل في زمن عز فيه الاعتراف بقيمة أو قدوة.. عرفان يسديه تلميذ إلى أستاذه، بعد رحيله باثني عشر عاما. يحاول الكاتب رسم بورتريه لأحمد بهاء الدين، حياته، وأفكاره، ومشاريعه الصحفية والفكرية. الأستاذ والتلاميذ كلاهما ينتمي إلى ذات الأسلوب والمنهج.

مؤلف هذا الكتاب مصطفي نبيل الذي عكف سنوات طويلة على تطوير مجلة «الهلال» المصرية، وإصداراتها الثقافية وجعلها ذات قيمة فكرية وفنية.

الكتاب، كما يقول مؤلفه.. محاولة نقل عصارة ما كتبه المفكر العربي أحمد بهاء الدين (1927 - 1996)، ودراسة دور الرجل في ما كتب أو فعل، من موقع المحبة والتقدير.

يتناول الكتاب مشاهد عاشها الكاتب، منذ رغب العمل في الصحافة، فسعى إلى مقابلة أحمد بهاء الدين عام 1958، ورآه مختلفا عن غيره من أساطين الصحافة المصرية، رآه صاحب نغمة جديدة وصوت خاص وروح شابة ونظرة عقلانية للحياة، فلم يبخل بتقديم خبرته ومعارفه إلى الأجيال الجديدة، بل كان يدعوهم إلى بيته، وكلما قرأ مقالًا أو تحقيقًا بحث عن هاتف كاتبه وتحدث معه، مظهرا إعجابه بما كتب.

يركز الكاتب على أن هناك محاور أساسية في مسيرة أحمد بهاء الدين الفكرية، وقد عبر عن تلك الأفكار في كتاباته وأفعاله. منها قضية الاستقلال الوطني أنها بداية رحلة شاقة لا نهاية، وتأتي الحرية بعد ذلك، حرية المواطن، وحرية الحركة السياسية، مع ضرورة سد ثغرات تحايل السلطة على هذه الحركات. ثم تأتي القضية الاجتماعية، إذ لا يمكن أن ينهض وطن مع الفقر والفاقة، لذا شُغل بهاء الدين -كما يوضح الكاتب- بقضية زيادة الإنتاج وعدالة التوزيع وتحديث المجتمع بكل مجالاته، وربط بين الأمن القومي ومقاومة الفقر، كان يذكر مثالين: أحدهما قلة عدد المقبولين في كلية الطيران نتيجة نقص الرعاية الصحية، والمثل الثاني: عندما جند خريجو الجامعات تغيرت القوات المسلحة تغيرًا نوعيًا. وجاء نصر أكتوبر.

تميزت أفكار أحمد بهاء الدين بالعقلانية وإيمانه العميق بالعروبة والبحث الدائم عن وسائل تفيد القارئ في كل لحظة تاريخية، وإبراز ما يراه مفيدا ومحذرا من المخاطر التي يبصرها، ويتجلى إحساس أحمد بهاء الدين العميق بنبض الشارع وكل أمر يشغل الرأي العام إلى جانب قدرته المستمرة على الحوار مع الأجيال المختلفة.

يؤمن الكاتب أن أحمد بهاء الدين الكاتب والمفكر صاحب الدور والرسالة التي تدعو للحرية والتقدم، يقف بمبادئه إلى جانب عمالقة الفكر من «محمد عبده» إلى «طه حسين»، هو من الكتاب القلائل الذين لم تغيرهم تقلبات الأحوال، لم يتنكر يوما لرؤية أو فكرة آمن بها، ولقي في ذلك ما لقي.

مفتاح شخصية بهاء

حاول «مصطفي نبيل» كشف مفتاح شخصية «أحمد بهاء الدين» وسر جاذبيته والقبول الدائم الذي يتمتع به، والمصداقية التي تحققها كتاباته، وسبب ذلك هو ذلك المزيج المكون من الوطنية الصادقة والمعرفة الواسعة والحس الإنساني والقدرة الفائقة على التحليل والنفاذ إلى المستقبل، حيث جعل من الحوار وتبادل الأفكار بين المدارس المختلفة الوسيلة الوحيدة لزيادة الوعي واتساع المعرفة من خلال ما يقدمه من مختلف التيارات الفكرية والأدبية التي كانت قائمة، وبشر بمستقبل تحتل الحداثة في فكره مكانة بارزة. وكان لايغفل التاريخ أو التراث الفكري والأدبي.

عمل أحمد بهاء الدين في معظم المؤسسات الصحفية المصرية تقريبا، رأس مجلس إدارة وتحرير كل من الأهرام وأخبار اليوم والهلال والمصور وروز اليوسف وأسس ورأس تحرير مجلة «صباح الخير» في يناير 1956، وعمره لايتعدى التاسعة والعشرين، كانت المجلة خطوة صحفية مبكرة ومؤذنة بظهور مدرسة صحفية جديدة في مادتها وشكلها، ونجحت المجلة في جذب جيل جديد وبعثت فيه دماء جديدة، وقدمت رؤية عصرية لمصر والعالم من حولها. وجذبت للعمل فريقا عفيا يحمل مفاهيم وقيما جديدة يتصدى للأفكار القديمة. وعبرت المجلة عن المرحلة التاريخية المهمة التي مرت على مصر. كما عبرت عن هذه الأفكار بأشكال فنية وجمالية مختلفة، تعتمد على اللوحة بدلا من الصورة الفوتوغرافية وتعطي للكاريكاتير مساحة واسعة للنقد الاجتماعي والسياسي، وخرجت هذه الرؤية الصحفية في شكل إخراجي جديد، لم تشهده الصحافة العربية من قبل.

تمنى أحمد بهاء الدين - كما يوضح الكتاب - إعادة كتابة التاريخ المصري الحديث، ولكن ظروف عمله أحالت دون إنجازه، كانت له رؤية خاصة متميزة لكتابة تاريخ مصر الحديث، ذات لمسة فنية وإنسانية في النظر إلى الأحداث التاريخية، وكانت أداته في فهم ما حاوله هو المزج بين البعد الإنساني وبين السياسي والاجتماعي.

يوميات أحمد بهاء الدين في جريدة «الأهرام» كانت رصدا دقيقا للأحوال الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تشهدها مصر، محذرا من المخاطر التي رآها مثل العشوائيات وتدني الأوضاع في القاهرة.

كانت أهم الأفكار التي شغلت «احمد بهاء الدين» كما يقول «مصطفي نبيل» أن أفضل طريقة لبقاء ذكرى «أحمد بهاء الدين» حية هي إعادة طرح جانب من مشروعه الذي لم ينل حظه من الاهتمام. وهو رؤية لرسم خريطة جديدة لمصر، وإعادة بناء القرية المصرية، ونقل الكثافة السكانية إلى الصحراء وخلق مناطق إنتاجية وصناعية في الصحراء، كان يرى أن حل مشكلات القاهرة هو «الاهتمام بالمحافظات الأخرى وتقليل عدد المحافظات حتى يكون لدينا مدن ومراكز حضارية في الأقاليم تنافس القاهرة في كل الخدمات».

معارك القومية والإرهاب الفكري

لايغفل الكتاب أهم المعارك الفكرية والصحفية التي خاضها «أحمد بهاء الدين»، منها معركته ضد من أسماهم دراويش الماركسية الذين يعادون الأفكار القومية، ومعركته مع عباس محمود العقاد حول المرأة، ومعركته مع عدد من المشايخ الذين يتمتعون بشعبية جارفة، وسمى هجومهم بالإرهاب الفكري.

كان أحمد بهاء الدين يقف على بعد من السلطة، لم يكن قريبًا منها في أي مرحلة في حياته أو في أي عهد، رغم إعجابه بعبد الناصر، وأفكاره.حين كان أحمد بهاء الدين نقيبا للصحفيين أصدر مذكرة احتجاجية إلى رئاسة الجمهورية لأنها تخص جريده الأهرام بالأخبارالاستراتيجية، ورأى في هذا الموقف تفرقة بين الصحف وبالتالي تفرقة بين المواطنين.

عرف أحمد بهاء الدين الفصل في العمل والنقل والحرمان من النشر، ووصل مع السلطة إلى طريق مسدود، خاصة بعد توقيع الرئيس السادات اتفاقية السلام وتبني نظم اقتصادية مثل الانفتاح، الذي لايعتمد على الذات ويهمل التنمية والبناء، وما تلى ذلك من مظاهر الانحلال والتشتت في المجتمع المصري.

كان بهاء الدين مؤمنا، كما يقول مصطفي نبيل، بنموذج المثقف الذي يصبر في عناد ليقوم بدوره مهما كانت العقبات، ويقبل الحلول الوسط من أجل أن يتمكن من تقديم خبرته أو يسعى إلى توافق مع الأوضاع القائمة، على أمل أن يساهم في خلق تيار يشكل رأيًا عامًا يدفع نحو العدل والمساواة.

يناقش الكتاب أهم إصدارات أحمد بهاء الدين ومنها كتاب «فاروق ملكا»،الذي لم يسجل تصرفات الملك الشخصية ونزواته كما فعل الآخرون بعد سقوط الملكية في مصر، بل سجل دور الملك واستهانته ورفضه الدستور الذي يجعله يملك ولا يحكم، ويحلل الكاتب ثلاثة عوامل أثرت في حياة الملك فاروق، أول هذه العوامل هو العلاقات الاسرية، خاصة أمه الملكة «نازلي» وعلاقتها بأحمد حسنين رئيس الديوان الملكي ودوره في تشكيل وعي مضاد للملك، والعامل الثاني هو حادث 24 فبراير 1942، الذي لم يقرأه قراءة صحيحة وواعية، ثم دور الحرس الحديدي الذي أنشأه الملك والذي اغتال بواسطته القادة الشعبيين والمناوئين له.

اقتراح دولة فلسطين .. للغد

يناقش الكتاب ما طرحه أحمد بهاء الدين في كتابه «اقتراح دولة فلسطين» ويراه أنه مازال مطروحا حتى اليوم وبل الغد، وصف أحمد بهاء الدين مبكرا طبيعة الصراع العربي - الإسرائيلي بأنه صراع حضاري، وليس مجرد صراع عسكري بين جنود إسرائيليين وجنود عرب، بل هو صراع بين أوربا بقوتها الحضارية والمادية وسلطاتها السياسية ونفوذها الدولي، والعرب بتنظيماتهم المفككة وفقرهم المادي وغياب الديمقراطية والعدالة وكرامة الإنسان. وكان رأي بهاء الدين انه لا يمكن للعرب أن تكون لهم قوة سياسية من دون قوة عسكرية تحميها، وقوة اقتصادية ذاتية ومجتمع ديمقراطي متقدم قادر على النهوض واحترام حقوق الإنسان يعرف الشعب حقوقه ويناضل في سبيل هذه الحقوق.أكد أحمد بهاء الدين أهمية عودة دولة اسمها «فلسطين» إلى الوجود، وأن يتبع ذلك إعادة الشعب الفلسطيني، وتجميع طاقته المبعثرة في الشتات وفي مجتمعات اللجوء ويتحول إلى دولة عصرية تحوي كل عناصر البقاء والقوة وقادرة على البناء والتدريب والتعليم.

آخر المناصب التي تولاها احمد بهاء الدين رئاسة تحرير مجلة العربي التي امتدت ست سنوات من 1982 إلى 1976، عمل معه مصطفي نبيل، الذي يقول عن هذه الفترة: «إن الكويت كانت واحة هادئة لبهاء الدين وأتاحت له الفرصة للتأمل والقراءة، والحوار والنشاط الفكري والاجتماعي وكانت مقالاته في هذه الفترة متشعبة تمس مختلف قضايا العصر».

تشابه «أحمد بهاء الدين» والدكتور «أحمد زكي» أول رئيس تحرير لمجلة العربي في أنهما وصلا في مصر إلى طريق مسدود.خروجهما أصبح علاجا لهما من أزمات كثيرة، كانت «العربي» تمثل اتجاها جديدا في الصحافة العربية وتنشر الثقافة الرفيعة وتطرح قضايا النهوض بالمجتمع، وأصبحت هذه المجلة جسرا للحوار وتلاقي الأجيال المختلفة والمدارس الفكرية ومنبرًا لكل صاحب رأي وملجأ آمنًا لكل مفكر يتعرض في بلده للملاحقة والحصار.

--------------------------------

لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ
فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمورُ كما شاهدتها دُولٌ
مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
وهذه الدار لا تُبقي على أحد
ولا يدوم على حالٍ لها شانُ

أبوالبقاء الرندي

 

 

مصطفي نبيل 




 





بهاء الدين وحوار مشترك مع فاتن حمامة إلى الإذاعة المصرية





 





درع دار الهلال الذي كرمت به أحمد بهاء الدين