الـفَــنُّ

الـفَــنُّ

تشدّك المعاناة الأكاديمية المرتكزة على همّ فلسفي مقروء بوضوح في كتابات إيف ميشو Yves Michaud. ليس غريبًا وهو أستاذ الفلسفة في جامعة روين Rouen، وهو الذي كان مديرًا لأهم جامعة فنون في فرنسا: المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس (1989 - 1996)، بالإضافة إلى أنه ناقد منذ سنة 1975، كما أنه عضو في المجمع الجامعي الفرنسي.

إذن ليست مصادفة أن يحمل همّ الثقافة وما آلت إليه في عصرنا، حيث أصبح الفن فيه أي شيء وفي نفس الوقت لا شيء.

هذه المعاناة الأكاديمية تكبر اليوم مع الدعوة إلى فك ارتباطها مع الفن التشكيلي وإلى عدم لزوم تعلّم مبادئه.

معاناة إيف ميشو Yves Michaud وصلت إلى العمق بسبب ما يتم الآن من تسطيح للتحصيل الأكاديمي في جامعاتنا باسم الالتحاق بركب المعاصرة دون رؤية أصحاب المعاصرة عائدين منها بعدما لَطَمَهُم الحائط المسدود.

يقدّم لكتابه بأن العالم جميل وبكل الوسائل. ولكن إذا استثنينا هذه الأمور، نرى أننا نغرق في البشاعة والرعب والسخافة المنتشرة في كل مكان. هذا الاختفاء للفن، ترك المكان فارغًا، لبثّ عالم جمالٍ جديد متفشٍّ بغزارة كالحالة الغازية. فالفن تبخر وأصبح أثيرًا لا واقع له. فالعمل الفني تحول إلى إجراءات ومجرد أفكار، فالتجهيزات والفيديو الموجودة في كل الجاليرهات هو خير مثال لإنتاج هذه الجمالية، مستشهدًا بجملة للناقد الأمريكي هارولد روزنبرج Harold Rosenberg، هناك مسار لإلغاء علم الجمال ولتعريف الفن، فأصبح التلفيق سيد الموقف.

يستعرض بداية الأعمال التي اتخذت أي شيء وأطلقت عليه اسم «فن». وذلك في بداية القرن العشرين مع مارسيل دوشامب Marcel Duchamp الرائد، غريب الأطوار، الماكر. وجاء أندريه وارهول Andry Warhol ليُتمّم.

هذا التحوّل رُسمت بداياته حوالى سنة 1910 مع استعمال المواد اللاصقة المختلفة للتعبير عن الشيء، دون الاستعانة بالألوان التقليدية. وأصبحت مكانة العمل الفني بالمعنى التلويني مصوّبًا عليها.

وأنهكت الساحة الفنية مع زيادة الإنتاج التراكمي، الذي سهّل بدوره عملية الاستهلاك، ما أدّى بالتالي إلى حالة تضخّم في المتاحف التي أصبحت سوقًا بكل معنى الكلمة تجاريًا وسياحيًا.

أما بقية القطاعات فلم تسلم بما فيها السينما وDJ والتكنو وحتى جراحة التجميل، بالمختصر تصنيع الذوق.

فتصنيع الفن بهذه الطريقة يوّلد إحساسًا ضاغطًا ماكرًا بأن الجمال موجود في كل مكان، ومما يفقد الفن وجوديته (حرمته) بفعل اجتياح الحس الاصطناعي. وكان لا بد هنا من استخدام الوسائل الإعلامية لتسويق هذا الفن وباسم الديموقراطية والحق الشرعي للمواطن المستهلك بشكل يستهدف استغلال هوائه والحد من الفروقات بين الناس لإيجاد «حالة» السوق.

هذه الفقرة تعطي فكرة عن نظرة الكاتب التهكمية ولكن بأعين الفنانين المعاصرين، حيث يقتطف مقولات مثل: «إن الفن (Beaux arts) بلاهة تشكيلية ولكن «اغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون» والفنان (Peintre) هو أحمق ويريد البقاء كذلك. لا يفهم تاريخ الفن، ولا يعي روح عصره، مغشّى على بصره باللون، ويتابع مهنته منعزلًا»، هذا وصف لحالة أولى من الفنانين المتبقين. أما الكلشيه الثاني من هؤلاء الفنانين فهم من الرومانطقيين: «صورة الفنان الملعون غير المفهوم إلا من قلة من بورجوازيي القرن 20 المهتمين بالفيديو وموسيقى «تكنو» Techno وfooding mix والتصميم Design».

أُنزلت اللوحة الفنية التي تحتاج إلى تأمل وتعمّق، لتحتلّ مكانها الصورة الفوتوغرافية التي لا تحتاج إلى أكثر من ثوانٍ معدودات لمعرفة فحواها، وبسطحية.

ويوصّف الكاتب أصول وأسباب ما آل إليه الفن مع صعوبة في ترتيب أولوياتها المتنوعة من عوامل اجتماعية وتطور تقني واقتصادي وأيديولوجي.. تحت سقف عالمية الفن والحركات التحررية والثورية، أخذ الفن الحديث سمة الفن الغربي، وكانت المنافسة على أشدها بين العواصم، بداية باريس - موسكو، برلين 1910 - 1920، ثم باريس -نيويورك في ثلاثينيات القرن الماضي. وبعد الحرب العالمية الثانية كانت السيطرة المطلقة لنيويورك.

الفن الحديث.. فن تقدمي

هذا من حيث المواقع. أما الحالة العامة فإن الفن الحديث لم يكن حياديًا، مع التنظير الثوري ان كان نازيًا أم شيوعيًا في أوربا أو في الاتحاد السوفييتي فقد كان هناك التزام من بعض الفنانين بقضايا المجتمع وتغييرات العصر وخاصة التشكيليين.

فمثلا: مدارس الفن التشكيلي وحركاتها مثل Futuriste et Vorticiste فقد أخذا بسرعة الآلة ووجدا في أفكار الفاشية الموسولينية تطبيقًا لهذه المكننة، وقد تابعت هذه الحركات الحداثية مسلسل متغيراتها حتى مع Pop art، وبعد أحداث 1968.

وأصبح الفن الحديث بمنزلة المعيار العالمي للفن، فاصطف الفنانون لإنتاج فن متقدم ذي سمات ثقافية عالمية، كي تصبح فنانًا يجب أن تقدم طلبًا لهذا المنطق. وتتالت المتسارعات، سقوط حائط برلين 89، تفكك الاتحاد السوفييتي 92، وليس انتهاء بالجزائر 62، وتوقف حرب فيتنام 73. فإزالة الاستعمار ترافق مع مسار جديد للفن ما بعد الحداثة Post Moderne.

معرضان ساعدا في تغيير المنظور للفن الحديث (الغربي) ففي عام 1984 أقام متحف الفن الحديث في نيويورك MOMAمعرضا بعنوان «البدائية في القرن العشرين»، وذلك لإيجاد صلة الشبه بين الفن القبلي والفن الحديث.

وفي سنة 1989 أقيم في باريس ردًّا على معرض نيويورك معرض «سحرة الأرض» (les Magiciens de la terre)، وكان يعرض لفنانين من كل أقطاب العالم على قدم المساواة.

كما تم اكتشاف الفن السوفييتي ومن ثم 1990 ظهر الفن الصيني على الساحة الغربية.

فقد تميز النصف الثاني من القرن العشرين بتعددية الفن، حيث أصبح الغربي يطالب بأولوية له. ان المتغيرات التي وضعت حدًا للفن الحديث امتازت بحدثين سمتهما الانكفاء، الأول خروج أروبا من الحرب العالمية الثانية. وما خلّفه ذلك من جهد لإعادة البناء الاقتصادي، مقابل ذلك رخاء اقتصادي أمريكي متأتٍ من التصنيع الحربي.

هذا التغيّر في التوازن الاقتصادي أدّى إلى بلبلة في التوازن الثقافي. وهو ما أدى إلى أن يصبح النصف الثاني من القرن العشرين، ليس انتصارًا للفن الأمريكي، بل حدثًا مزلزلا للثقافة الأمريكية بكل أشكالها: المأكل، الملبس، السينما، الموسيقى وصولًا إلى الفنون البصرية، حيث شاعت مقولة إن نيويورك سرقت فكرة الفن الحديث على حد قول سيرج جيلبارت Serge Guilbart الذي أضاف ان ظاهرة التعبيرية التجريدية المتمثلة بـ Polllock وDekooning أوجدت فضاء تجريديًا جديدًا، أسس لمسيرة السنين التالية من الحياة التشكيلية في الولايات المتحدة، ولكن ما لبث الفنانون التعبيريون أن تركوا إلى أساليب مختلفة أمثال جاسبار جونز Jaspewr Johns وأندريه وارهول Andry Warhol وفرانك ستيلا Frank Stella وحاربوا التعبيرية التجريدية.

ولكن مقابل هذه الإشكالية بقيت أوربا وخاصة بالنسبة إلى التجريدية في المدرسة الباريسية، بقيت وفية إلى مفهوم اللوحة كفضاء للتعبير التشكيلي. هذا ما أثار حفيظة بعض النقاد الأمريكيين إذ فاجأهم هذا الوصل القائم مع التعبير والوفاء للحس الشاعري. وسرعان ما آتت هذه الانتقادات ثمارها مع الفنانين الأوربيين، وظهرت أشكال رافضة للفن الحديث مؤيدة للفن المعاصر، وتشكلت بعض الأساليب، منها التعبيرية الشكلية التي تمثلت مثلا بـ .Haitai Viallat والحقيقة ان المجال يضيق لسرد كل ما آلت إليه الحركة التشكيلية من اختصارات حتى لم يبق منها إلا الإمضاء والقماشة أو إطارها الخارجي دون القماشة وهي معروضة بمتحف الفن الحديث في باريس.

ولكن بعض الفنانين الذين صمدوا على المفترق ما بين نخبوية الفن وما آلت إليه الفنون المعاصرة من تفريغ لكل معنى المعاناة، تابعوا بنيان صرح الفن التشكيلي أمثال بلاتوس Balthus وجياكومتي Giacometti وبالكونBacon، وقاموا بترسيخ فكرة الفن النخبوي، أما في الجهة المقابلة، فإن لـ Pop art دورًا كبيرًا في خلط الفن مع الإعلانات مع السينما مع عناصر المجتمع الاستهلاكي، أما الدادية فكانت أكثر الحركات سلبية وعنفا، لم تؤسس للخلف بل أتت على السلف بكل الوسائل المتاحة حتى النفسية منها ومحاربة كل أشكال الفن الحديث. حيث وضعت الحقائق التاريخية والعقائد التشكيلية في حالة اتهام وبسخرية هدّامة، حيث أُحلّ مكان اللوحة، أجساد الفنانين بل أفكارهم وأحيانًا نواياهم.

مقابل هذه المتغيرات الكبيرة في المفاهيم ظهرت عدة ردّات فعل جمعتها الشكوى في خضم أزمة الفن المعاصر، هؤلاء يفتشون عبثًا عن الأعمال الإبداعية الكبيرة. آخرون كانوا أكثر واقعية في تدوينهم للحدث في فهم الثقافة والفن: العولمة والتجارة أدخلا الفن إلى عالمهما وجعلاه أقرب إلى الموضة (الصرعة) منه إلى حالة تأملية روحية. من هنا نلحظ حالة من الإفراط الإنتاجي المتسارع. وهناك اتجاه ذهب أبعد من العولمة إلى الكونية والتعددية الثقافية ولكنه أنتج عولمة التعددية. والإشكالية الكبيرة هي أنه لا توجد مركزية معيارية كي تقرر درجة التراتبية أو البلاغة.

هذه التأويلات قاربت التشخيص: تبخّر الفن وهذا ما حدا الفيلسوف الأمريكي نيلسون جودمان Nelson Goodman على القول: وداعًا للهالة الفنية. بعد أن يستعرض لتاريخ علم الجمال الذي يعود إلى القرن الثامن عشر مع الفيلسوف الألماني Baumgarten.

ومع «عصر النهضة» ظهرت بعض الانطباعات عن الفن وبعض الاعتبارات التقنية وخاصة في الأكاديميات والمحترفات والجمعيات الفنية. ثم ظهر ما يسمى بـ «الصالون الفني». وبعد ذلك بعشرات السنين حاول Kant في كتابه «نقد الحكم» أن يقيم ظروفًا منطقية للحكم في أمور الفن.

ومع هيجل Hegal أخذ علم الجمال حيزًا ماديًا من خلال التأسيس لتاريخ الفن وتطوير المتاحف.

فتاريخ علم الجمال الفلسفي برهن أن إشكالياته وتكويناته ومذاهبه مرتبطة في كل مرة بحالة من الفن ومثال لأثر فني، يجعله ممكنًا بواسطة المعرفة التي نصوغها وبالتالي تصبح هذه المعرفة ممكنة.

هيجل أعطى تحديدًا لهذه المعرفة وصورّها على شكل دائرة بحركتيها العاكسة والمعكوسة وسماها الجدلية هذه الجدلية تفترض الشيء وتفرضه ومن ثم تثبت نفسها، وهكذا تكون قد تبرهنت.

هذه الجدلية لم تفقد ملاءمتها للفن في المرحلة الحديثة أو ما بعد، ولكن ما الذي يحدث؟ يلجأ الأكاديميون والاختصاصيون في مجال النقد الفني إلى قوانين معيارية لتوصيف ما هم بصدده، ولكثرة التعامل مع هذه القوانين، تصبح كأنها أبدية، خاصة ان موضوع النقد بالمقابل ليس ثابتًا، بل إنه متحرك وأحيانًا مبهم وإشكالي. من هنا تقع المفارقة ويتكون الشرخ. من هنا، عندما يحاول بعض الفلاسفة التجريبيين الذين يحملون همًّا مختلفًا، ينظرون إلى أعمال لا تمت بصلة إلى الكلاسيكية، ولا يستطيعون تطبيق المنهجية النقدية السابقة على هذه الأعمال، ويقع إشكال كبير. ومن هنا كانت ضرورة تصحيح ما بداخل تلك المنهجية لتستوعب التجديد الحاصل في الإنتاج الفني. جاء والتر بنيامين Walter Benjamin وكليمنت جرينبرج Clement Greenberg ليجسدا هذا الاستيعاب الجديد ولو أنهما يمثلان وجهين لعملة واحدة. تحليل بنيامين ارتكز في الأساس على مقارنة العمل الفني الأحادي وهالته وما يستوجب من حالة تماهٍ مع ذاته، والعمل المنتج بواسطة الآلة وما يولده من حالة تكرارية وتتحول إلى قيمة رقمية. من هنا كان رأي بنيامين الليتوغرافي (الحفر على الحجر) وفن الفوتوغراف (التصوير الآلي) كان بداية التشتت. ولكن قيام الحالة السينمائية على نظام التصوير الآلي والتكرار أدى دورًا طبيعيًا في حضور تحولات اجتماعية (Masse) وبالتالي أسهمت هذه الإنتاجية الآلية الصناعية في قيام الرأسمالية.

ولكن العمل الفني وخاصة التشكيلي لم يوجد ليخاطب الجموع كما الفيلم.

من هنا يميّز بين الحالة السينمائية والحالة التي أوجدتها القنوات المتعددة للتلفزيون، وما تخلفه من حالة اغترابية للذات الإنسانية وتدمير للحالة الجمالية المعيشة. من نظرة بنيامين الارتيابية للتقنية من ناحية أنه يجتاح الزمن الآتي ويلغي الزمن الماضي.

وكما قال السينمائي فيرنر كلوج Werner Kluge أن الحاضر قضى على كل الأبعاد الزمنية.

ماذا أنجز الفن المعاصر؟

يريدنا هنا الكاتب أن نتوقف ليس أمام التغيرات التي أحدثها الفن المعاصر، ولكن ماذا تحقق من خلاله.

أولًا: يطلق عليه اسم المتعي (hédonisme) وهنا يستحضرني المبرر السهل الشائع لدى أي فنان عندما يُسأل عن سبب هبوطه في المستوى الفني قائلا: «هكذا يريد الجمهور». يقول الكاتب: «هذه المتعة ليست فكرة ولا هي متأتية من حالة تأملية ولا هي انفعالية متولدة من الاتصال بالآخر في احتفالية روحية».

هذه التجربة المعاصرة التي تتصف بتبجح محميّ إعلاميًا، ليس لديه همّ ما، حيث إن الفرد يعيش حياة تمضي بسهولة من دون احتكاك أو تعلّق. هذه التجربة تستوجب فقط أحداثًا. ماذا تحمل؟ لا يهم، ولكن أن يكون جديدًا لا يقيّم ما سبقه ولكن يرميه في سلة النسيان، هذا الجديد يصبح موضة ولا شيء غير ذلك. تكرار ممجوج لقتل الزمن الآتي بعد قتلهم للزمن (التاريخ) وهذا ما يولد شعورًا من التسطيح المضمحل، بتخمة من السأم في هذا النظام الجديد لعلم الجمال، ما يهم هو التجربة بحد ذاتها، المهم أن يكون مقبولًا من الجمهور. موضوع التجربة لا يهم أيضًا: الأموال، المشكلات المسكن، الجنس، الجسد، الملبس، الفيديو حركات في الشوارع تكديس مواد مصنّعة.

المسألة التي تطرح: ماذا يبقى من كل هذا؟ وكيف نوثقه. وكيف نحفظه وهو المركب من مواد هشة، أحيانًا من حثالة المواد القابلة للتلف أو الملوثة؟ وعندما نؤمن بأن حق التوثيق كحالة حاضرة تستدعي منا حفظها للحكم عليها آنيًّا ومستقبليًا، لأنها تمثَّل حقبة حتى لو كانت تمثل إحساسًا بعالم مجرد من الإحساس.

هذا الاحتلال يجعل التجربة تمر بحالة من التبخر، ولكن ضمن إطار مؤسساتي: صالات عرض، متاحف، مظاهرات فنية.. أصبح «الجمال» من دون حدود حيث إنه أصبح غير موجود.

إذن والحالة هذه، نستشف عاجلًا أم آجلًا انتهاء الفن والاحتفاء بالتجميل. وإعلان عالم من دون فنانين ولا «متاحف» من الآن فصاعدًا نعلن عالمًا مطليًا بالجمال.

حيث أصبح المتحف مجرد بيان سير سياحي. نعلن فشل ديموقراطية الفن، في عصر انتفت فيه المعايير.

من هنا يأخذنا الكاتب إلى عالم السياحة ليجعل ما يقصده هادفًا في صميم الفكر التسطيحي التفريغي من كل معنى، فبعد أن شرح قيام فكرة السياحة التي تعود إلى القرن الثامن عشر، بداية حتى إيطاليا ثم إلى الشرق وشمال أفريقيا.

كان الهم السياحي فكريا تنوعيًا مع ماناباسان Manpassant وفلوبير Flaubert ثم مع ماتيس Matisse وماركس Marquet وكان ذلك مثالًا واضحًا لما أحدثته زيارات هؤلاء الفنانين لدول العالم والشرق على نحو خاص. ولكن السياحة تغيّرت كمًّا ونوعًا، ففي العام 1945 كان هناك 25 مليون سائح أما في العام 2001 فبلغ عددهم 689 مليون سائح.

لماذا تناول موضوع السياحة في مضمار التجربة الفنية؟

السائح الذي يفتش عن التسلية وما تعنيه من خفة في المتعة والاستمتاع بكل ما هو غريب وجديد لا يستدعي بذل جهد للتعاطي معه.

ان الذهاب الى الآخر وتحمّل المشقة يستدعي بالمقابل الرجوع بزادٍ معرفي بهذا الآخر من خلال أماكن خصصت لهذه المعرفة ذات الهوية المختلفة طبعا. فما إن تحصل الشعوب على استقلالها فإن أول ما تفكر فيه هو إقامة متحف يُبرز هذه الهوية المتميزة، أصولها وحالها. وهنا يكون التلاقي من خلال إبداعات وخلاصات فكرية تكون نواة لبدايات أخرى.

ويعطي الكاتب مثلًا عن التعاطي المفروض على الشعوب وهو ما قامت الولايات المتحدة باستحداثه في مدينة بيلباو Bilbao في منطقة الباسك. حيث أنشئ فرع لمتحف جوجين هين Guggenhein النويوركي في هذه المدينة، هذا المثل يؤكد هذه العلاقة الجديدة بين الفن والسياحة والهوية: الأمريكيون يبنون ويديرون المتحف والباسكيون يدفعون.

والأهم ماذا يشاهدون؟ الفن الأمريكي في جداريات لـ Pop art الملونة جيدًا وعلى القياس. فمشروع المتحف هذا استدعى بناء مطار لاستقبال السياح ومترو وتجديد في البنى المدينية. مشروع يحمل في طياته مشروعًا سياسيًا.

وينهي إيف ميشو كتابه مؤكدا أن التجميل والصرعات هي صفقة في تغيير الهوية.

 


إيف ميشو