عصر محمد علي وجماعة السان سيمونيين محمد حافظ دياب

عصر محمد علي وجماعة السان سيمونيين

بعد قرنين على تولي هذا الباشا عرش مصر, تبدو مراوحة الباحثين في تقييمه: بعضهم أشاد به كمؤسس لمصر الحديثة, وآخرون رأوا فيه حاكمًا مستبدًا لم يكن يهمه سوى طموحاته, لكنهم جميعًا أغفلوا قصة استعانته بجماعة السان سيمونيه في تطوير تجربته, فما هي هذه القصة?

لنحاول, ابتداء, قراءة مفاهيم وفرضيات هذه الجماعة, كما قدمها رائدها المفكر الفرنسي سان سيمون (1760-1825), في إطار مساءلة علاقاتها بسياقها التاريخي. ذلك أن أوربا, ومنذ عصر النهضة, بدأت في تشييد قواعد مشروع اقتصادي اجتماعي ذي نزوع كوني, شكل أساس نظام رأسمالي, يحلّ مكان سابقه الإقطاعي, ويستند إلى مقوّمات العلم والمبادرة, واستغلال الموارد, ويعتمد على التصنيع, الذي شهد مع بدايات القرن التاسع عشر, وخاصة في إنجلترا, تطوّرًا ملحوظًا, اختلفت الآراء حوله, ما بين معارض لآثاره السيئة في تلويث البيئة واستغلال العمال, ومؤيد لنتائجه الإيجابية في زيادة الإنتاج والرفاهية. وقد رأى سان سيمون في التصنيع, أهم ما يميز فكره, باعتبار: (أن المجتمع ككل ينبني على الصناعة, والصناعة هي الضامن الوحيد لوجوده, والمصدر الأساسي لكل ثروة ورخاء, ومن ثم, فإن الوضع الأكثر ملاءمة للصناعة هو الأهم للمجتمع. هذه هي نقطة بداية كل جهودنا, وكذلك هدفها).

مفهوم (الصناعية) إذن, أو الاتجاه نحو التصنيع الذي لا يقبل الانفصال عن العلم, يمثل عصب المنظومة المفاهيمية لدى سان سيمون. إنه كل الأعمال السلمية ذات النفع الإيجابي, وأي جهد إنساني يستهدف تحقيق حياة سعيدة, ومن ثم فهو مرحلة متميزة من المعرفة البشرية, تتضمن سيطرة الإنسان على الطبيعة, وتمرّسه على الفنون المتصلة بالإنتاج على نطاق واسع.

ولئن كان الاقتصاديون يعدّونه أسلوبًا لقطاع من الاقتصاد ينحصر فيما يعرف بالإنتاج الصناعي, فإن سان سيمون نظر إليه على أنه عملية متكاملة, تبتغي تغييرًا اجتماعيًا شاملاً للمجتمع, بواسطة خلق نظام اجتماعي جديد, يعتمد على العلماء ورجال الصناعة, بدل النبلاء والإكليروس في مجتمع العصور الوسطى الإقطاعي.

ثم إن الصناعيين لديه, وهي كلمة استعملها بتوسّع منذ عام 1817, تشمل كل المنتجين من مزارعين وملاك أراض وأصحاب مصارف, أو حتى صانعي أقفال, تمييزًا لهم عن (العاطلين), من أرستقراطية النظام القديم وطبقة الجند. من هنا, فأصحاب المصانع بما يقدمونه من جهد, والعلماء بما يكتشفونه من أسرار الكون, لابد أن يشكّلوا أعمدة السلطة للنظام الجديد, وبالتالي, فإن كل ما يواجهه المجتمع البشري من مشكلات, سيجد حلّه في إسناد السلطة السياسية إليهم.

أسلوب الإصلاح

وفي هذا النظام, يحل العلم محل الدين, والجمهورية بدل الملكية, والعالمية عوض الأفكار القومية, والمشاعر الوطنية اللاعقلانية, والوضعية في دراسة السلوك البشري مكان الميتافيزيقية, عبْر ما أطلق عليه سان سيمون (علم دراسة وظائف الأعضاء الاجتماعي), وتُنتفى الملكية الوراثية, واستغلال الإنسان, وترث الدولة أساليب الإنتاج باعتبارها رابطة العاملين.

واتساقًا مع هذه الأفكار, صاغ سان سيمون توجهات الإصلاح في فرنسا: أسلوب تعليمي تتولى إنجازه مدرسة الهندسة العسكرية لتلقين الشعب أسس النظام الجديد, وميزانية يقترع عليها الصناعيون, وإلغاء لألقاب النبالة, وإعادة تنظيم الحرس القومي, وانتخاب الضباط من قبل الجنود, وحلّ البرلمان, وإعلان الديكتاتورية لفرض الإصلاحات.

على أن أتباع سان سيمون اختلفوا في تفسير أفكاره بعد وفاته في 19 مايو 1825: فقد أوّلها أرمان بازار إلى نقد جذري للنظام الاجتماعي القائم, وتنديد بالنظام الصناعي المستغِل, ومناداة بالثورة, وإلغاء للملكية الخاصة. أما سكرتيره أوجست كونت, فصاغ فلسفة وضعية محافظة تعرف عادة بأنها تمثل اتجاه النشأة الأولى لعلم الاجتماع, وطوّر بيير ليرو المضمون الاجتماعي الكامن في فكر سان سيمون, فسكّ كلَمة (الاشتراكية), وأعطاها معنى التضامن, بما لا يفيد إلغاء الملكية الخاصة, بقدر ما يشير إلى أن الملكية ذات طابع اجتماعي, ومن ثم ينبغي أن يكون المجتمع كله مسئولاً عنها.

وعلى مستوى تنظيم الجماعة السان سيمونية, بدأ بروسبير أنفانتان, مرشدها الجديد مرحلة لاحقة, فوضع تسلسلاً تراتبيًا لأعضائها: وخلع عليها ملامح (كاريكاتورية), تميّزت بها في الزي, والعروض المسرحية, والدروس العقائدية, والأناشيد, وحب الاعتزال, والتدريب على العمل وفلاحة الأرض, والاعتماد على النفس, والاستغناء عن الخدم. وأعطى مذهبها مسحة دينية وطقوسًا صوفية, أطلق عليها (القانون الحيّ), وأنشأ في باريس أربعة مراكز للدعوة إلى هذا المذهب, وستة في بقية أنحاء فرنسا, وأفلح في أن يضم إليه كثيرين من خريجي مدرسة الهندسة العسكرية, وبعضًا من المسئولين ورجال الأعمال, مما دعا أتباعه إلى أن يلقبّوه بـ(الأب).

وقد عرفت الرأسمالية الناشئة, كيف تستفيد من السان سيمونية, عبر توظيف الأفكار التي تلائمها, من مثل استثمار المعمورة, وتصدير الحضارة الأوربية إلى إفريقيا, وشغل (الدهماء) بأعمال يدوية كي تحمل أيديهم (آثار خشونة نبيلة), بحيث أصبح المذهب, في فترة, أحد التيارات الفكرية التي تعمل على توفير سند لها, وإن غدا في فترات أخرى حربًا على النظام القائم, وبخاصة مع أفكار بازار, التي دعت إلى نقده.

الرحيل إلى الشرق

وكان من الطبيعي أن تتسبب هذه الأفكار, وبالذات حين انتشر السان سيمونيون يدعون إليها, في ازدياد غضب الحكومة الفرنسية. وزاد في السخط عليهم, إثارتهم لرجال الدين بإعلائهم من شأن الجسد, الذي تحقّره الكاثوليكية, وتطلعهم إلى تولي الحكم في فرنسا. اعتقادًا منهم أن الواجب يقتضي أن يتخلى لهم الملك لويس فيليب عن مكانه, حين رأوا أنهم أكثر منه مقدرة وكفاءة على تسلّم الحكم.

لهذه الأسباب, أخذت الحكومة في مطاردتهم, وصدر حكمها بحلّ الجماعة ومصادرة مطبوعاتها. ومع مظاهر الفشل, ووطأة الاضطهاد, الذي استشعروه, بدأ تفكيرهم في الهجرة, كمحاولة للتعويض, وتحقيقًا لشعاراتهم عن استثمار المعمورة, وممارسة تجارب اجتماعية على أراض جديدة.

كان من رأي البعض منهم, التوجه صوب القارة الأمريكية, لكي يكملوا ما بدأه سان سيمون هناك, حين اتصل بمسئولين في المكسيك لشق قناة تصل بين المحيطين الأطلسي والهادي, وهي القناة, التي عرفت فيما بعد بقناة بنما, لكن عزمهم استقر على الرحيل إلى الشرق, اتساقًا مع حمّى الاهتمام بهذا العالم الذي كان سائدًا أيامها.

وزاد في هذا العزم, ما وقر في معتقد أنفانتان, بأن الرب إذا كان قد بشّر بابنه المسيح, فلاشك أنه سيبشر الإنسانية أيضًا بابنته, المنقذة الحقيقية للبشرية من خطاياها, والموجهة السديدة نحو الأخلاق السويّة. وأنه إذا كان الغرب قد أنجب الابن, فلابد أن يكون الشرق قد أنجب الابنة.

ثم إنهم هناك في الشرق, يمكن أن يقوموا بتنفيذ أكبر مشروعاتهم, وهو حفر قناة في مصر تصل بين البحرين المتوسط والأحمر, إضافة إلى إنجاز مشروعات أخرى في تركيا وتونس والجزائر والسودان, وكلها أعمال سوف ترفع مكانتهم لدى الحكومة الفرنسية.

السويس هي الرهان

إن الشرق كمفهوم, يمثل لدى الغرب كل العالم, الذي لا يدخل في دائرته, أو داخل امتداده المباشر, ومن هنا كان ضروريًا الاقتصار على (الشرق الأقرب), ذلك الذي لم يتوقف الغرب عن الاحتكاك به منذ قرون, والذي يشكّل الظهير الشرقي والجنوبي لحوض المتوسط. ولدى أنفانتان, فإن: (الشرق الغامض كلغز الصحراء, كلمة ساحرة مليئة بالضوء والسرّ. والشرق معناه مصر.. مصر الساحرة, أرض فرعون وموسى والنيل).

ولكن, لماذا مصر بالذات?

لقد لفت نظر السان سيمونيين موقع هذا البلد, الذي ذكره الإنجيل في آيات كثيرة من سفري التكوين, والخروج, ثم إنه على ما يرى أنفانتان, أهم بقاع إفريقيا, وممر مسلمي القارة في طريقهم إلى مكة. كما أنها تقع في أكثر الجهات ملاءمة لتسيير الحملات إلى مختلف الأرجاء, ولدى أهلها استعداد لتذوّق العلوم والمعارف, وبذا يمكن إقامة مشروعات منوّعة فيها, تعود عليها وعلى العالم كله بالفائدة, وأولها مشروع حفر قناة تصل بين أوربا والهند, فتستفيد مصر عندما تصبح ممرًا لتجارة العالم كله, وتنتفع أوربا نتيجة اقترابها من أسواق الشرق.

ومما شجع الجماعة على اتخاذ مصر مركزًا لنشاطهم في الشرق, إعجابهم بالإصلاحات, التي نفّذها واليها محمد علي, أو (المتبربر العبقري), بتعبير أحدهم, حيث يملك في يده وحده مقاليد الاقتصاد, فضلاً عن أن جيشه يحميه من الانتفاضات, مما يسهل من مهمتهم, إضافة إلى وجود عدد غير قليل من الأوربيين, ومن الفرنسيين خاصة, على رأس كثير من المؤسسات التعليمية والصناعية والعسكرية بها, وهو ما ضاعف من اعتقاد السان سيمونيين, أنه بمعونة هؤلاء, وكذلك بمساعدة الشبان المصريين, الذين تلقّوا العلم في فرنسا, يستطيعون تنفيذ مشروعاتهم, وأولها شق قناة السويس, ثم إنه, وكما استند بونابرت للقيام بحملته على مصر في التمكين له من حكم فرنسا, يمكن استعادة التاريخ نفسه, فيتسلمون مقاليد الأمور بها عن طريق مصر.

الفكرة التي سيطرت عليهم إذن, هي الشرق, والشرق هو مصر, ومصر هي السويس, والسويس هي الرهان, بواسطة ما أطلقوا عليه (حملة فرنسا الفكرية الثانية), بعد حملة بونابرت العسكرية.

وقد بلغ من إيمانهم بضرورة بسط نفوذ فرنسا في مصر, أنهم صاروا يدعون الحكومة الفرنسية إلى تأييد دعاوى الدول الأوربية الأخرى, خاصة روسيا وإنجلترا, في بقية الولايات العثمانية, حتى لا تلقى فرنسا معارضة من جانب هاتين الدولتين قد تحول دون نفاذها إلى مصر.

وقد رحّبت الحكومة الفرنسية برحيل الجماعة, وشجع مسئولوها أصحاب السفن التجارية على نقلهم إلى الشرق, بل ووافقوا على سداد النفقات اللازمة إذا عجزت عن سدادها. وهكذا سافر العديد منهم إلى الشام وفلسطين وتركيا والحجاز. والمجموعة الأكبر إلى مصر يرأسها أنفانتان - ومهّد لرحيله, بإيفاد مجموعات متتابعة من أعوانه تُعد لاستقباله, ووصلت طلائعهم إلى الإسكندرية نهاية أبريل 1833, يرتدون الزي الذي صمّمه لهم, ويشرعون فور وصولهم في الدعاية لمبادئ الجماعة, بإصدار صحيفتهم (المرشد المصري) بهذه المدينة.

وبعد شهر, وصلت مجموعة ثانية عن طريق الآستانة, عرفت باسم (فريق الابنة), حيث طردتهم الحكومة العثمانية لعدم رضائها عن مبادئهم, فجاءوا إلى مصر, وقد خلعوا زيّهم وحلقوا لحاهم, كي لا تساء معاملتهم كمات حدث لهم في تركيا.

وفي 23 أكتوبر من العام نفسه, حلّ أنفانتان بالإسكندرية, مع بعض من أتباعه المتخصصين في الهندسة والزراعة والطب والتعليم والفنون, في الوقت ذاته الذي ذهب آخرون منهم إلى السويس, يجمعون معلومات عن طبيعة الأرض, وعمق الماء, وعدد السفن التي تفد من الهند.

ولم يكن أنفانتان مطمئنا لترحيب محمد علي بجماعته, خاصة وأن الباشا قد اجتذب جماعات أوربية عديدة ومختلفة, قدمت إلى مصر للمساعدة في بناء دولته.

بناء القناطر

وقبل مجيئه إلى مصر, حصل أنفانتان على موافقة الملك لويس فيليب وممثلي حكومته من القاهرة والإسكندرية بشأن مشروع قناة السويس. وخلال شهري يناير وفبراير 1834, وبناء على النتائج التي توصل إليها أتباعه حول منطقة برزخ السويس, ذهب أنفانتان بنفسه إلى المنطقة, مصحوبًا بعدد من مهندسيه, ومزوّدًا بخطابات توصية إلى رجال الإدارة في الأماكن التي تقرر زيارتها, وطافوا بفرع النيل حتى دمياط, ثم اتجهوا إلى قلب البرزخ حتى وصلوا إلى البحيرات المرّة, وقاموا ببعض الأعمال الفنية المتصلة بالمشروع, ووضعوا خطوطه الأساسية.

وفي القاهرة, حاولوا إثر عودتهم, وبمساعدة القنصل الفرنسي, إقناع الوالي بتنفيذه, لكن محمد علي كان في ذلك الوقت يبحث مشروعات أخرى, من أهمها بناء سد القناطر ومدّ خط للسكك الحديدية بين القاهرة والسويس.

وعندما قدمت المشروعات المقترحة للمجلس العالي في يناير 1834, تقرر تفضيل بناء القناطر, بهدف نقل المياه وتنظيم الري والتوسع في الزراعات الصيفية وبخاصة القطن, ورفض مشروع القناة, لاعتقاد محمد علي أنه سيزيد من مطامع الدول الأوربية في مصر حال تفنيذه.

وبالرغم من ذلك, فقد سارع أنفانتان إلى وضع خدماته تحت تصرف الباشا للمساهمة في مشروع القناطر, علّ فرصة تسنح مستقبلاً لتحقيق حلمه في تنفيذ مشروع القناة, فكان أن غادر القاهرة إلى منطقة القناطر, وانشغل بأعمال المسح والقياس, قبل أن يبدأ العمل الرسمي في المشروع يوم 12 مايو 1834.

ومنذ أخذ على عاتقه المساهمة في المشروع, بدأ يبدي اهتمامًا كبيرًا به, فقدم برنامجًا مفصّلاً للخطوات الواجب اتباعها, مقترحًا البدء بمسح المنطقة, وتجهيز المواد والمعدات, وتمهيد الطرق الضرورية لنقلها, كما اقترح إقامة مدرسة للهندسة في المنطقة, يلتحق بها عدد من الطلبة لمتابعة المران العملي أثناء دراستهم.

ومع أواخر يونيو من العام نفسه, توالت وفود المتطوعين الجدد من السان سيمونيين إلى القناطر, منهم فنانون تشكيليون وأطباء وموسيقيون ومهندسون, مصحوبون بزوجاتهم, مع بعض من النساء, فكّر أنفانتان أن يستفيد بهن في تعليم القرويات المصريات بمدرسة تنشأ هناك لهذا الغرض.

وقد عسكر السان سيمونيون في الموقع داخل خيام منصوبة, بعد أن عدّلوا زيّهم ليقترب من الطابع الشرقي, ومضوا تحدوهم همّة متجددة, ولاح أن حلمهم بات في طريقه إلى التحقيق, وتباهى أنفانتان بأنه, وبعد فيضان النيل, سيجد تحت إمرته أربعين ألف رجل من العمال, يستطيع فيما بعد أن يوجههم إلى مشروعاته الأخرى, بصرف النظر عن الثمن الذي يتكلفه هذا العمل من أرواحهم.

على أنه ما لبث أن أدرك الفتور الذي بدأ يظهره له الرسميون, وعلى رأسهم الوالي وقنصل فرنسا, بعد أن غشت حياة جماعته التي كانوا يعيشونها بالقناطر بعض الفضائح. وزاد الطين بلّة, إيقاف محمد على العمل في المشروع, لما لمسه من نقص في الإعداد له, وبسبب سوء الإدارة المالية, وانتشار وباء الطاعون, الذي فتك بالكثيرين منهم هناك.

مساهمات أخرى

لم يكن عمل السان سيمونيين في وضع الأسس الأولى لمشروع القناطر هو كل ما تمخض عنه نشاطهم من مصر خلال تلك الفترة, فقد شملت جهودهم مجالات أخرى: إنشاء مدرسة للولادة, وأخرى للمعادن قبل ضمها إلى مدرسة المهندسخانة, وبحوث عن المصادر المعدنية في الصحراء, ومحاضرات وحفلات موسيقية, وإدارة مدرستي الطب البشري والطوبجية, وتسيير مصلحة الطرق والكباري, وإعداد إحصاء جغرافي سكاني لمصر, وعمل تمثال نصفي للوالي, وتدريس اللغة الفرنسية بمدرسة المشاة.

يضاف إلى هذه الإنجازات إقامة مدرسة للبنات بالجيزة, تردد الوالي ابتداء في إنشائها, ومدرسة للمشاة في دمياط, وأخرى للفرسان بالهرم, ومدرسة للزراعة بقرية نبروه انتقلت عام 1839 إلى شبرا, ومدرسة للرسم في الجيزة, ومزرعة نموذجية بشبرا, ومشاركة في المجلس العام للتعليم, وبناء قرابة عشرين مصنعًا, مع شق العديد من الطرق واستصلاح الأراضي, والعمل على تجفيف بحيرة المنزلة, ونشر اللغة الفرنسية في كل المدارس المهنية, حتى شاع بين المسئولين القول إنه من العبث إرسال بعثات إلى فرنسا, بينما تحتشد مصر بأساتذة من السان سيمونيين, يفوقون الأساتذة في فرنسا كفاءة وخبرة.

والأمر هنا يتعلق بتغلغل السان سيمونيين في كثير من نواحي النشاط في مصر, تحقيقًا للأهداف التي رسموها لأنفسهم, وذلك بالمساهمة في المشروعات المختلفة حتى تثبت أقدامهم في البلاد, وتتاح لهم فيما بعد فرصة تحقيق مشروعهم الأكبر في السويس.

العودة

كان أنفانتان سعيدًا بالنجاح الذي حققه أتباعه في مصر, حين تتابعت وفودهم وزاد عددهم, وصار من الصعب عليه أن يدبّر لهم جميعًا مصدرًا للرزق, ما اضطر كثيرًا منهم إلى الرجوع لفرنسا, أو قبول وظائف متواضعة في الإدارة المصرية.

ولم يلبث الطاعون الذي تفشّى في يناير 1835, أن راح ضحيته عدد كبير منهم, ما حدا به أن يتوجه إلى الصعيد فرارًا من العدوى.

وهناك زار آثار أبيدوس ودندرة, والتقى بالحكام المصريين الذين هربوا من القاهرة خوفًا من الوباء, واستعاد علاقته مع قنصل فرنسا, وبدأ في تعلم اللغة العربية كي تساعده على تحقيق الحلم, وعاش وسط الفلاحين شهورًا ستة, نال خلالها شعبية كبيرة بينهم حتى دعوه (أبودنيا). وكان يمكن أن يمدّ إقامته في الصعيد, لولا نضوب موارده, ومن ثم رجع إلى القاهرة, ليجد - بالرغم من المجاملات الظاهرية - فتورًا من السلطة والأوساط التي يرتادها.

كان الوالي قد شغلته الحرب ضد تركيا في الشام, وعاد عدد من أتباعه إلى بلدهم, وزاد من سوء حاله أنه لم يجد من مأوى سوى أن يقاسم بعض أتباعه دارًا صغيرة, فضلا عما حدث لأفراد منهم, تركوا المسيحية إلى الإسلام, حيث تخلّى صديقه أوربان عن كاثوليكيته واعتنق الإسلام, وأطلق على نفسه (إسماعيل أفندي) وتلاه جوزيف ماشيرو الذي تسمى باسم (محمد أفندي), وتزوج من سيدة مسلمة أنجب منها أربع بنات (هانم, وزهرة, وحميدة, وأسماء), مما دعا محمد علي إلى السخرية منهم, والشماتة فيمن وفدوا إلى مصر: (لتحويل المسلمين عن دينهم, فإذا بهم يعتنقون الإسلام)!

نتيجة لهذه الظروف, بدأت شجاعة أنفانتان تخونه, وحماسه يفتر, وآماله تتبدّد, وكانت التعلّة أن يلقي على مصر مسئولية فشله: (فكل شيء يشهد بعدم مقدرتها على تنفيذ أي مشروع دون الاستعانة بأوربا). ولم يكتف بذلك, بل أصدر حكمًا قاسيًا على محمد علي, يتناقض وتقديره الكبير له عند مجيئه.

هكذا أوشكت إقامة المرشد السان سيموني على النهاية: فلقد تأجل مشروع قناة السويس, وتعطل العمل بسد القناطر, ووصلته الأخبار بعودة من سافر من أتباعه إلى مناطق أخرى في الشرق, دون أن يتركوا أثرًا يذكر.

لم يعثر (الأب) أنفانتان - إذن - على ملهمته (الابنة) الشرقية, وبدل الانتصارات التي كان يترقّبها, لم يعد يجد حوله غير المرض والحداد والبؤس, وتشتت الأعوان وعاد أغلبهم إلى الوطن, فركبه الهمّ, واستولى عليه الحزن, خاصة مع تشكّك معارفه في نواياه, حتى صار يردّد أنهم لم يعودوا يفهمونه, لأن آلامهم الذاتية قد أعمتهم عن رؤية آلام الإنسانية, وبدأ يهذي بأنهم لم يفطنوا إلى أن الرب قد بعثه هاديًا لإنقاذ البشرية, على نحو ما فعل من قبل مع سائرالأنبياء.

وعندما أدرك ألا فائدة ترجى من مزيد من (الكفاح), هذا إلى جانب تخلّي بعض أصدقائه عنه, ممن انتقدوا حياته المتحررة, غادر القاهرة إلى فرنسا في أكتوبر 1836, تاركًا بعض الأتباع: كان منهم درويو, الذي خلبت لبّه الآثار المصرية, فترك القاهرة, وشوهد بين روّاد مولد (أبو حردان), بقنا, وقد تولّته الجذبة, وأوليفييه, الذي اختفى في غبار القرى, ومات في مزرعة قرب الإسكندرية, ولامبير الذي دخل في خدمة الحكومة المصرية كناظر لمدرسة الهندسخانة, وحاز رتبة البكوية, فيما فقد جرانال عقله, وراح يطرق أبواب المنازل بحثًا عن محبوبته!

مبادئ أم مطامع?

وتقليب أوراق المحاولات, التي تصدّت لدراسة التجربة السان سيمونية, وضمنها الحقبة المصرية, يضع اليد على قراءات لها متباينة:

فمن ناحية, هناك مَن عاين فشلها عبر كل مراحل مسيرتها, حين وجدها لم توفّق, إن على مستوى الخطاب أو الحركة, في تحقيق مبادئها والوفاء بأحلامها, مستدلاً أنه لم يمض وقت طويل, حتى تحلّلت الجماعة, وتحولت إلى طائفة صوفية, تنادي برعاية حقوق المعدمين والمرضى والمساجين.

وآخرون أرجعوا فشل حقبتها المصرية, إلى وقوع الجماعة بين سندان دورة الاجتماع العثماني ونموذجها التحديثي عند محمد علي, وبين تطلعات الدول الأوربية المتحفزة للهجوم على هذا النموذج.

وعلى مستوى طموحاتها, لم تحقق حلمها الأكبر في شق قناة السويس, فيما استطاع مهندس فرنسي من خارج الجماعة هو فرديناند ديليسبس أن ينتزع منها عقد امتياز حفز قناة السويس بعد ذلك, ويبعدها من اللجنة التي درست المشروع, ومن الشركة التي كونها لهذا الغرض, ليتم حفرها, ومعها استكمال تنفيذ مشروع القناطر, في عهد الخديو إسماعيل. وعلى الجانب الآخر, هناك م-ثل الشيخ محمد عبده, من عظّم دورها في مصر, ورأى فيها (تجربة مهمة, تضم البيوتات المصرية والخبرة الفرنسية), وعاين غيره وجودهم على أرض مصر, كأحد المعطيات الأساسية لتكريس مناخ فكري إيجابي, وجد مردوده لاحقًا في أعمال الطهطاوي, ومحمد مظهر, وعثمان غالب, وطنطاوي الجوهري, والحسين المرصفي, وفريد وجدي, وعلي عبدالرازق. ويظل السؤال ماثلاً: هل أن ما قدمته هذه الجماعة في مصر رسالة تحديثية, أم محاولة للاستتباع تندرج في إطار توجهات السياسة الاستعمارية الأوربية وقتذاك?

 

محمد حافظ دياب 




محمد علي باشا والي مصر الحاكم المغرم بالتحديث