النفس وأزمة التقاعد

النفس وأزمة التقاعد

الوصول إلى التقاعد ليس نهاية المطاف في حياة الإنسان الفرد، والنظر إلى هذه المرحلة بوعي وموضوعية، يفتح أمام المتقاعد عدة آفاق طيبة.

اشتكت سيدة زوجها، الذي تقاعد حديثًا بأنه على الرغم من تقاعده، فإنه يصحو من النوم مبكرًا، ويرتدي ملابسه - كأنه ذاهب إلى العمل - ثم يظل مرابضًا في المطبخ، لا يتركه إلا حين تدق الساعة الثالثة موعد انتهاء العمل، فإذا أرادت زوجته أن تتحدث معه، نهرها بحجة أن هذا تعطيل لأوقات ومصالح الناس، وإذا أرادت أن تطهو الطعام، أو تقوم بأي شيء من شئون المطبخ، نهرها بحجة أن ذلك يخرجه من حال التركيز لأداء العمل، وقد فشلت كل محاولات إخراجه من هذه الحال، وتذكيره بأنه بالفعل قد تقاعد.

وسيدة أخرى، تشكو زوجها، الذي تقاعد حديثًا، وفجأة بدأ يهتم بأشياء كانت بعيدة عن مجال اهتمامه أيام العمل، إذ فجأة يسأل عن «الكماشة»، التي اشتراها من عشر سنوات، أو يسألها عن حذائه البني، الذي اشتراه منذ ربع قرن، ولا يقتنع بأي إجابة، بل لابد أن تقدم زوجته الدليل تلو الدليل على صدق حديثها، وإلا يعد ذلك نوعًا من الاستخفاف به.

لماذا المتقاعدون؟

حتمت مجموعة من العوامل زيادة أعداد المتقاعدين، وخاصة توافر الرعاية الصحية والغذائية، فضلاً عن انتهاج بعض النظم الاقتصادية لفكرة «التقاعد المبكر»، مما يؤدي - بالطبع - إلى زيادة أعداد المتقاعدين، وضرورة فهم سيكولوجية هذه الفئة في محاولة للاقتراب منهم، وتقليل إحساسهم بالعديد من الأزمات والضغوط والصراعات، التي يتعرضون لها، فضلاً عن أن أي مجتمع يحكم عليه من خلال الاهتمام بثلاث فئات من أبنائه، ألا وهم: الأطفال - المرأة - كبار السن.

والشخص المتقاعد هو الذي ترك وظيفته سواء كان إجباريًا بسبب بلوغه سن التقاعد (وهي غالبًا سن الستين لبعض الوظائف، والخامسة والستين لبعضها الآخر). أو تركه العمل اختياريًا بسبب العديد من الظروف والعوامل، التي تخص الفرد، خاصة إصابته بالمرض.

وفي كل الأحوال، فإن التقاعد من أقسى الأحداث التي يتعرض لها الإنسان، والتي قد تساهم في إصابته بالمرض النفسي، لما يمثله التقاعد من فقدان كثير من القيمة الاجتماعية، والعديد من المزايا، التي كان يحصل عليها قبل التقاعد، وليس هذا فحسب، بل قد يتعرض المتقاعد نتيجة لأزمة التقاعد المفاجئة لاضطرابات عقلية قد تؤثر في صحته، فضلاً عن العديد من جوانب الاضطرابات الأخرى.

خمسة أنماط

هل فكرة التقاعد يقبلها كل شخص بسهولة، ويعدها من ضرورات الحياة، ومرحلة يجب أن يبلغها بسهولة ويسر؟ أم أن هناك فروقًا فردية في ما يختص بتقبّل أو عدم تقبل هذا الحدث (أي التقاعد)؟

رصد علماء النفس خمسة أنماط مختلفة من الأفراد، يعبرون عن موقفهم من التقاعد وهم:

النمط الناضج: وأصحاب هذا النمط يتقبلون التقاعد على أساس أنه حدث لابد منه، وأن التقاعد يمثل لديهم فرصة للخروج من دائرة الروتين والعمل، وأنهم يبدأون فورًا في إقامة علاقات اجتماعية جديدة، وربما ينظرون إلى قدراتهم، ويكتشفون في دواخلهم دوافع واحتياجات لم تكتشف بعد، مما يؤدي إلى إعادة اكتشافهم لذاتهم، بل وتحقيق الذات، وكأن لسان حالهم يقول: لقد خضعنا لرغبات الآخرين عبر السنوات الماضية، ففرض علينا نوع من التعليم، أو نوع من الوظائف، ولم نشأ أن نخالف أو نتمرّد، بل انتظمنا وأدينا المطلوب منا، ونحن الآن لا نندم على ما فات، فالوقت قد حان لنبحث داخلنا، ونكتشف ما كنا قد (كبتناه) عبر السنوات السابقة.

النمط الثاني: ويطلق العلماء على هذا النمط «أصحاب المقعد الهزاز»، وهم أشخاص يرحبون بالتقاعد ليس من أجل إعادة اكتشاف ذواتهم، كما يفعل أصحاب النمط الأول، بل لأن التقاعد فرصة للراحة والاسترخاء والتأمل، وعدم الالتزام بالاستيقاظ في وقت معلوم، أو حتى تناول الطعام في وقت محدد. وكأن لسان حالهم يقول: لقد تعبنا سابقًا، والتزمنا بكل النظم، التي تم وضعها من قبل أصحاب العمل، والآن، حان الوقت لكي نستريح ونفعل ما كنا نتمناه سابقًا (ولم نجد الوقت لتحقيقه)، فقط نريد الراحة.

النمط الثالث: ويطلق عليه العلماء «أصحاب الدروع»، حيث إن أفراد هذه الفئة لا يجدون ذواتهم إلا في العمل والاجتهاد، فالخلود إلى الراحة يعادل الموت والسكون واللاحياة، وأنهم عبر حياتهم العملية، كانوا يستشعرون القلق لمجرد قرب انتهاء «الملف»، الذي يقومون بدراسته، ولذلك ما إن يحالوا على التقاعد، ونظرًا لخشيتهم من «غول الفراغ وثعبان القلق»، فإنهم يتبعون أسلوب حياة منظما مفعما بالنشاط، رافضين تمامًا أي عروض للاستجمام، أو حتى «هدنة» من العمل، والعمل هنا أشبه بـ «الدروع»، التي يتسلحون بها لاستمرار وجودهم في الحياة. وأنهم لا يتصورون حياتهم من دون عمل، ولذا تكون أمنيتهم بل ومتعتهم أن يموتوا وهم يعملون.

النمط الرابع: ويطلق عليه العلماء اسم «الغاضبون»، وهم فئة يرفضون فكرة التقدم في العمر، وفكرة التقاعد، وأيضاً ضرورة مراعاة طبيعة السن، التي يجتازونها الآن. وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل إنهم يسقطون رغباتهم وأهدافهم على الآخرين، فيرون أن الآخرين هم السبب في فشلهم في تحقيق أهدافهم، والإسقاط «ميكانيزم» دفاعي، حيث يسقط - أي يطرح - الفرد رغباته السلبية على الآخرين، وكأن الآخر هو السبب ولست أنا، ولذا فإن أصحاب هذا النمط في حال غضب مستمر، وينصب غضبهم على الآخر، ولذا تسوء علاقتهم بذاتهم أولاً، ثم بالآخرين ثانيًا.

النمط الخامس: ويطلق عليه العلماء اسم «كارهو أنفسهم»: إذا كان أصحاب النمط الرابع يلومون الآخر على كل فشل لحق بهم، فإن أصحاب هذا النمط يلومون أنفسهم على كل فشل لحق بهم، بل ويفتشون في حيواتهم عن أي أحداث، أو مواقف سيئة، ويعيدون اجترارها، وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل نجدهم يلومون أنفسهم إذا بدر منهم أي إحساس بالفرح، ولماذا يفرح وهم المسئولون عن كل المصائب التي لحقت بهم؟

وعمومًا يتفق العلماء على أن أصحاب النمطين الأخيرين يفشلون في مواجهة أزمة التقاعد والتغلب عليها، بل وحتى الرضا بالأمر الراهن.

من الانسحاب إلى النشاط

طرحت العديد من الاجتهادات التي حاولت تفسير أزمة التقاعد من العمل، وما تتركه في «نفس» المتقاعد، ويمكن حصر هذه النظريات في:

نظرية الانسحاب أو فك الارتباط: ويرى أصحاب هذه النظرية أن الأفراد حينما يصلون إلى مرحلة الشيخوخة، فإنهم يبدأون تدريجيًا في الانسحاب من السياق الاجتماعي، وتتناقص الأنشطة التي كانوا يقومون بها من قبل.

إلا أن نمط الانسحاب من العمل والعلاقات الاجتماعية مع الآخر (يرى مؤسس مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد أن الصحة النفسية في أحد جوانبها تعني: القدرة على العمل المنتج في حضرة الآخرين، وإقامة علاقة سوية)، يختلف من مجتمع إلى آخر، كما أن هناك بعض الأفراد لا ينطبق عليهم هذا التصور، وهم الأفراد الذين يعملون في مجال الأدب أو الفن أو التدريس الجامعي أو الأعمال الحرة، ولذا فقد حدث تعديل في هذه النظرية خلاصته: أن الانسحاب ودرجته يتوقفان على الشخص نفسه، وما إن كان راغبًا في الانسحاب وبدرجة محددة أم لا.

نظرية النشاط: ويرى أصحاب هذه النظرية أن الرضا لدى كبار السن إنما يتوقف على درجة اندماج الفرد في المجتمع، وإيجاد «نشاط» بديل للعمل الذي «سوف يتقاعد منه»، وأن مسألة البحث عن نشاط تنحصر في أمرين:

الأول: الاستمرار في العمل نفسه الذي كان يقوم به بعد التقاعد.

الثاني: تغيير نمط العمل، والبحث عن أنماط جديدة وأنشطة يشغل من خلالها أوقات فراغه.

فضلاً عن إحساسه، (وهذا هو الأهم)، بأنه مازال نافعًا وقادرًا على العطاء وله دور حيوي مهم، وأنه لم يفقد هذا «الدور» حال إيداعه على التقاعد.

نظرية الأزمة: ويرى أصحاب هذه النظرية أن التقاعد يمثل أزمة بالنسبة للشخص، خاصة ذلك الذي كان «محور حياته» يدور في العمل، وأنه لا يعرف نشاطًا آخر يقوم به إلا هذا العمل. ولذا، فإن الباحثين إزاء هذه النظرية قد انقسموا إلى فريقين:

الفريق الأول: يرى أنصاره أن فقدان الشخص عمله يقود حتمًا إلى العديد من التغيرات «السلبية» تنعكس في نظرته لنفسه، وفي علاقاته مع أسرته، بل قد تمتد لتشمل المجتمع بأسره.

الفريق الثاني: ويرى أنصاره أن التقاعد يعد عاملاً ضمن سلسلة من العوامل تتفاعل وتتناغم وتقود إلى هذه الأزمة التي يحيا في خضمها المتقاعد الآن.

مشكلات ومخارج

لقد استطاع العلماء والباحثون المهتمون بقضايا التقاعد «تشخيص» العديد من المشكلات التي يواجهها المتقاعد المسن في:

المشكلات النفسية: ومنها:

- الحزن والأسى الناتجان عن الوحدة وفقدان حب وتفاعل الآخرين.

- الشعور بالذنب الناتج عن الصراعات والاستغراق في الأحداث الماضية.

- الشعور بالوحدة والإحساس بالفراغ.

- الاكتئاب الذي يعود في جزء منه إلى عدم وجود علاقات إنسانية يشبع من خلالها احتياجاته الإنسانية.

- القلق، خاصة قلق الموت والشعور بوطأة المرض والعجز.

- الدخول في المشكلات الخاصة بمرحلة التقاعد، مثل: العته، ذهان الشيخوخة، وقد يصل الشخص إلى مرحلة الخرف.

المشكلات الصحية: لعل أهمها:

- تغير في الجسم البشري.

- انخفاض مستوى أداء الجسم لوظائفه المختلفة.

- ازدياد الأمراض ومداهمتها للمتقاعد دفعة واحدة.

- انخفاض القدرات العقلية والمتمثلة في «التذكر - التفكير - التخيل - التصور».

- انخفاض أداء الحواس لوظائفها.

المشكلات الاجتماعية: لعل أهمها:

- الإحساس بالاغتراب (وتتعدد مفاهيم الاغتراب، ولعل أخطرها الاغتراب النفسي، حيث يشعر الفرد بأنه غريب عن نفسه، وأنه لم يعد يفهم نفسه، وأن نفسه أصبحت غريبة عن نفسه).

- فقدان الأدوار الاجتماعية التي كان يقوم بها قبل التقاعد.

- نقص القدرة على التوافق الاجتماعي مع المرحلة العمرية الجديدة.

- الإحساس بتقلص مكانته الاجتماعية داخل الأسرة.

- إمكان الإهمال وعدم إشباع مطالبه من قبل أبنائه وانشغالهم عنه بحياتهم الخاصة، إلى درجة تجاهل إمكان الاتصال به تلفونيًا للاطمئنان عليه لفترات قد تمتد لشهور، مما يدخل المسن في حالة نفسية سيئة تنعكس بلا شك على صحته.

المشكلات الاقتصادية: ولعل أهمها:

- انخفاض الدخل نتيجة للتقاعد.

- إنفاق الجزء الأكبر من الدخل على العلاج والدواء.

- الإحساس بالعجز عن تلبية مطالب الأبناء سواء في التعليم أو المشاركة في إتمام مشاريع الزواج والارتباط.

كيف تتعامل مع المتقاعد - المسن؟

بداية نشير إلى أن جميع الأديان قد اهتمت بفئة المسنين، والإسلام على سبيل المثال، حيث قد قرن القرآن ما بين عبادة الله سبحانه وتعالى وضرورة الإحسان إلى الوالدين، ولذا نجد العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة قد حضت على ذلك.

- ولذا فإن التعامل مع المتقاعد - المسن يكون من خلال الآتي:

1 - فهم طبيعة مرحلة التقاعد والأزمات المختلفة التي يمر بها المتقاعد، فالفهم هو أولى خطوات التعامل بموضوعية مع «الأزمة - المشكلة».

2 - تصميم برامج وقائية تقي من أزمة التقاعد المفاجئ وجعلها عملية تدريجية.

3 - الاستفادة قدر الإمكان من طاقات المتقاعدين البشرية.

4 - تخفيف مشكلات المتقاعدين من خلال إعطائهم أدوارًا جديدة يمارسونها في مجتمعهم مما يجعلهم يواصلون حياتهم بشكل طبيعي.

5 - إعداد فريق علاجي متكامل يشمل: إخصائيًا نفسيًا - إخصائيًا اجتماعيًا - طبيبًا نفسيًا - ممرضًا متخصصًا في مجال كبار السن لتقديم رعاية متكاملة لهذه الفئة، الذين هم في التحليل النهائي آباؤنا وأمهاتنا.

محطات

- فطن العرب إلى أهمية دراسة الكبار، فكتب «أبو حاتم السجستاني» رسالته عن المعمرين سنة 864م.

في حين يعد كتاب: النصف الأخير من عمر الإنسان، لـ «هول»، الذي ظهر سنة 1922م البدء الحقيقي للدراسات البيولوجية النفسية الخاصة بالكبار في العالم الغربي.

- أول دورية علمية اهتمت بكبار السن ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1945م باسم: مجلة علم الشيخوخة.

أما في أوربا فأول دورية صدرت عن كبار السن كانت عام 1956م.

- تشير إحصاءات الأمم المتحدة إلى زيادة أعداد المسنين في العديد من دول العالم إذ وصل عدد الأشخاص الذين بلغوا سن الستين سنة فأكثر على مستوى العالم عام 1980 إلى 376 مليون نسمة، ثم وصل إلى 590 مليون نسمة عام 2000، ومن المتوقع أن يصل إلى 976 مليون نسمة عام 2020م.

وهذه الأرقام تحتم علينا ضرورة الاهتمام بهذه الشريحة العمرية بل ورعايتها وتقديم كل الخدمات الإرشادية والوقائية والعلاجية لها.

- من مظاهر الاهتمام بكبار السن أن أعلنت الأمم المتحدة أن عام 1999م عام دولي لكبار السن.

نصائح صحية ونفسية للمسنين

- تناول «6» أكواب على الأقل من المياه يوميًا تزيد في الصيف أو عند القيام بمجهود شاق.

- تناول الخضر والفاكهة ولا تهمل تناول طبق السلاطة (بمكوناته المختلفة).

- قلل قدر الإمكان من الملح والمقبلات والمخللات.

- قلل قدر الإمكان من الحلويات واللحوم السمينة (الدهون).

- أكثر من تناول الألبان ومنتجاتها لتقليل هشاشة العظام.

- مارس الرياضة ولو المشي يوميًا مدة ساعة أو نصف ساعة.

- امتنع فورًا عن التدخين.

- حاول أن تنقص وزنك لأن البدانة أساس البلاء.

- لا تهمل الكشف الدوري لأن الكثير من الأمراض يمكن علاجها في البداية بدرجة أسهل.

- قلل من تناول الشاي والقهوة لأنهما يؤديان إلى ارتفاع ضغط الدم.

- لا تنفعل وتقبل كل أحداث الحياة بصدر رحب.

- لا تكتئب، ولماذا تكتئب وما أصابك لن يخطئك، وما أخطأك لن يصيبك.

- حب ما تعمل واعمل ما تحب.

- اجعل لحياتك هدفًا، وأن يكون هذا الهدف به قدر من إسعاد الآخرين.

 

 

محمد حسن غانم